ليلة القدر في سورة الدخان: تأملات علمية ووقفات رمضانية

عدنان مصطفى خطاطبة
عناصر الخطبة
  1. فضل ليل القدر .
  2. أوصاف ليلة القدر في القرآن الكريم .
  3. أنواع المقادير. .

اقتباس

تدبر معي: قول ربك في القرآن (ليلة)، وهذه الصيغة نكرة، وهذا الَتَنْكِيرُ -،كما يقول ابن عاشور- يفيد التعظيم، أي إنها ليلة عظيمة تلك الليلة التي نزل فيها القرآن العظيم.. وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة؛ فضلاً عظيماً لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن، وابتداء رسالة أفضل الرسل -صلى الله عليه وسلم- إلى النّاس كافة..

الخطبة الأولى:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

عباد الله: لقد اعتدنا أن نستمع إلى الحديث عن ليلة القدر في القرآن الكريم غالبا من خلال سورة القدر؛ فهي سورة عظيمة متخصصة كاملة في ليلة القدر، ولكن هنا نسأل سؤالا مهما، وهو:

هل تحدّث القرآن الكريم لنا عن ليلة القدر في سورة أخرى غير سورة القدر المعروفة لدينا؟

عباد الله: الإجابة، هي: نعم  لقد تحدث لنا القرآن الكريم عن ليلة القدر في سورتين أخريين غير سورة القدر، تحدث لنا صراحة في سورة "الدخان" في الآيات 3 و4، وتحدث لنا بكلام غير صريح في سورة البقرة، الآية رقم 185.

عباد الله:  نعم، إن ربنا العليم -سبحانه- قد أعلمنا بآيات بيّنات كريمات في مطلع سورة "الدخان" عن ليلة القدر، وهي آيات من كلام ربنا -سبحانه-، تستحق منا وقفات معها وتأملات، وقفات علمية تفسيرية نتعلم من خلالها المعنى الشرعي العميق لتلك الآيات الواصفات لليلة القدر، وتأملات في معانيها ودلالاتها وعِبَرِها التي تزيدنا محبة وتقديرا لليلة القدر.

أيها المؤمنون والمؤمنات:  نستمع بقلوب خاشعة وعقول واعية إلى ربنا العليم -سبحانه- وهو يكلمنا بآياته الحكيمات في كتابه العظيم عن ليلة القدر، ولكن أين؟ في سورة الدخان؛ فيقول -جل ثناؤه- في مطلع سورة الدخان: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* ِفيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 1-4].

عباد الله: لنتأمل معاً، لقد وصف الله تعالى هذه الليلة-ليلة القدر- في سورة الدخان بأوصاف ثلاثة:

نعم، يا -عباد الله-، الوصف الأول لهذه الليلة في سورة الدخان: أنها هي الليلة التي نزل فيها القرآن على محمد -صلى الله عليه وسلم-.

والذي أرجحه من أقوال العلماء أنّ معنى نزول القرآن أي ابتدئ إنزاله في تلك الليلة، قال العلامة ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: "فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ على مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- فِي الْغَارِ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ، قَالَ تَعَالَى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [الْبَقَرَة: 185].

وَاللَّيْلَةُ الَّتِي ابْتُدِئَ نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [الْقَدْرِ:1].

وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَأَنَّهَا فِي لَيْلَةِ الْوِتْرِ".

قال ابن عاشور: "وَمَعْنَى الْفِعْلِ فِي أَنْزَلْناهُ ابْتِدَاءُ إِنْزَالِهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ تَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ فَهِيَ مُنْضَمَّةٌ إِلَيْهِ انْضِمَامَ الْجُزْءِ لِلْكُلِّ، وَمَجْمُوعُ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْإِنْزَالُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ هُوَ مُسَمَّى الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ تَمَّ نُزُولُ آخِرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. فقوله: (أنزلناه): ابتداء إنزاله؛ لأن الذي أُنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق".

أيها المؤمن: تدبر معي: قول ربك في القرآن (ليلة)، وهذه الصيغة نكرة، وهذا الَتَنْكِيرُ- كما يقول ابن عاشور - يفيد التعظيم، أي إنها ليلة عظيمة تلك الليلة التي نزل فيها القرآن العظيم.

أيها المؤمن: ثم تدبر معي، قول ربك: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ)؛ ففيها الضمير(إنا)، إنه ضمير العظمة، وفيه إسناد الإِنزال إلى الله -سبحانه-، ليفيد التشريف للقرآن.

نعم، يا -عباد الله-، الوصف الثاني لهذه الليلة- ليلة القدر- في سورة الدخان: أنها ليلة مباركة.

فتأمل معي قول ربك -سبحانه- في سورة الدخان: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)؛ فوصف الليلة بأنها مباركة، وتأمل معي هذا الوصف، مباركة، وتأمل معي من الذي وصفها بالمباركة؟ إنه الله -سبحانه- وتعالى؛ فحكم لهذه الليلة حكما كونيا قاطعا دائما في حقها أنها ليلة مباركة؛ فسبحانك ربي سبحانك.

نعم، وَصْفها الثاني: (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ).

وقال السعدي في تفسيره لمعنى مباركة: "أي: كثيرة الخير، والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر".

وقال ابن عاشور: "وَوَصْفُهَا بِ مُبارَكَةٍ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَشْوِيقٌ لِمَعْرِفَتِهَا".

وقال -أيضاً-: "وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة؛ فضلاً عظيماً لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن، وابتداء رسالة أفضل الرسل -صلى الله عليه وسلم-  إلى النّاس كافة".

أيها المسلمون: هذا القرآن كتاب الله، فيه الحق المبين، ويصدق بعضه بعضا، وهنا لا بد لنا من بيان الغلط الكبير الذي يقع به بعض الوعاظ والدعاة وأهل العلم- وهم قلة- لكني قرأت هذا وسمعته في المساجد، فما هو هذا الغلط الذي يقع في حق فقه هذه الليلة المباركة؟

أيها المسلمون: يغلط بعض الوعاظ والمفسرين بقولهم؛ إن المقصود بالليلة المباركة في هذه السورة هي ليلة النصف من شعبان. وهو كلام باطل.

يقول ابن كثير: "ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان-كما روي عن عكرمة- فقد أبعد النَّجْعَة فإن نص القرآن أنها في رمضان.

والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عقيل عن الزهري: أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له، وقد أخرج اسمه في الموتى"، فهو حديث مرسل، ومثله لا يعارض به النصوص".

وقال ابن عاشور: "وعَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ"، وجاء في تفسير القرطبي: "وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر. ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان، وهو باطل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185]؛ فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عيّن من زمانه الليل ها هنا بقوله: (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ فمن زعم أنه في غيره؛ فقد أعظم الفرية على الله، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه، لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليها".

فيا أيها المسلمون: هل يعقل أن ينصّ القرآن صراحة على أن القرآن نزل في رمضان، ثم ننسب نزوله إلى شعبان؛ فالله الله في العلم الشرعي، والفقه السديد لكلام الله، والرجوع لعلماء السلف وتفاسير العلماء المعتبرين.

يا عباد الله: أما الوصف الثالث لهذه الليلة-ليلة القدر- في سورة الدخان؛ فهو: أنها ليلة يفرق فيها أمر الله.

نعم، ذلك هو وصف ربك بكلامه العظيم لهذه الليلة في سورة الدخان، بقوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )؛ ففي ليلة القدر يفرق أمر الله تعالى.

ولكن ما معنى هذه الآية؟ ما معنى يفرق في تلك الليلة أمر الله؟

عباد الله: قال ابن عاشور في تفسير معنى هذه الآية وبيان حقيقة هذا الوصف لها: "الفرق: الْفَصْلُ وَالْقَضَاءُ، أَيْ فِيهَا يُفْصَلُ كُلُّ مَا يُرَادُ قَضَاؤُهُ فِي النَّاسِ".

وقال ابن كثير: "أي: في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها.

وهكذا روي عن ابن عمر، وأبي مالك، ومجاهد، والضحاك، وغير واحد من السلف. وعن مجاهد، قوله، (فيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)؛ قال: في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى السنة؛ الحياة والموت، يقدر فيها المعايش والمصائب كلها".

وقال السعدي: "ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة".

وجاء في تفسير القرطبي: "إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها.

وقال ابن عباس: "يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج، يقال: يحج فلان ويحج فلان، وقال في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى، وهذه الإبانة لأحكام السنة إنما هي للملائكة الموكلين بأسباب الخلق".

وقال الشنقيطي في أضواء البيان: "معنى الآية أن الله تبارك وتعالى في كل ليلة قدر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم، بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة، إلى ليلة القدر من السنة الجديدة؛ فتبين في ذلك الآجال والأرزاق والفقر والغنى، والخصب والجدب والصحة والمرض، والحروب والزلازل، وجميع ما يقع في تلك السنة كائناً ما كان. إلى الأخرى القابلة". وجاء أيضا في تفسير أضواء البيان: "قال بعضهم: حتى إن الرجل لينكح ويتصرف في أموره ويولد له، وقد خرج اسمه في الموتى في تلك السنة".

أيها المؤمنون: فمن أوصاف ليلة القدر أنه تكتب فيها الأقدار المستقبلية لسنة كاملة، أي: حتى موعد ليلة القدر القادمة، وهذه تعرف بالكتابة الحولية أو السنوية عند علماء العقيدة؛ فكتابة الأقدار ثلاثة أنواع؛ فافقها يا أيها المؤمن، وهذه الأنواع هي:

النوع الأول: الكتابة الأزلية (القديمة) قبل خلق السموات والأرض، ففي صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ".

والنوع الثاني: الكتابة العُمْرية، عند تخليق النطفة في الرحم؛ ففي الصحيحيْن، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ".

والنوع الثالث الذي تحدثنا عنه، وهو: الكتابة الحولية أو السنوية في ليلة القدر، حيث يقدر فيها كل ما يكون في السنة إلى مثلها، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:3-4]، قال ابن كثير: "أي في ليلة القدر يفصل من اللّوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها"؛ فالتقدير الحولي أو العمْري منفصل من التقدير الأزلي وتابع له.

أيها المؤمن: تأمّل معي، كيف وصف الله تعالى أمره الذي يكتب في ليلة القدر، وهو أقدار الخلق إلى السنة القادمة، بأنه أمر حكيم، فأقدار الله تعالى وأقضيته في خلقه كلها فيها الحكمة البالغة، مهما كان ظاهرها مؤلما أو مستغربا. ولهذا قال: (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)، "أي: جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه".

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أيها المؤمنون: القرآن يصدّق بعضه بعضا، ويفسّر بعضه بعضا؛ فتأمّل معي ذلك في ليلة القدر؛ فحينما جاء في القرآن، قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [الدخان:3]، فهنا بينت الآية أن القرآن نزل في ليلة مباركة. ولكنها لم تبين لنا في أيّ شهر مثلا، ولا اسم هذه الليلة. فجاء قوله تعالى في سورة البقرة: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة:85]؛ فتبين لنا من مجموع الآيتين: أن هذه الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن كانت في شهر رمضان؛ فهي ليلة من ليالي شهر رمضان، ولكن ما اسم هذه الليلة تحديدا؛ فجاءت سورة القدر؛ فبينت ذلك بقول ربنا -سبحانه-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1].

وبذلك يكون مجموع هذه الآيات الثلاث: أن القرآن نزل أو ابتدأ نزوله في ليلة القدر تلك الليلة المباركة من ليالي شهر رمضان المبارك.

اللهم اجعل أعمالنا صالحة واجعلها لوجهك خالصة.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي