وفي عَرَصات يوم القيامة الحوض المورود للنبي -صلى الله عليه وسلم- طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، و أحلى من العسل، وريحه أطيب من المسك، آنيته، كنجوم السماء في كثرتها، وحسنها، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً؛ فيرد عليه المؤمنون من أمته غراً محجلين من آثار الوضوء، ورسول الله قائم...
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله على كلَّ شيء قدير؛ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم الخبير، وأشهد أن محمد عبده ورسوله السراج المنير -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين-، أما بعد:
فاعلموا -رحمكم الله- أنَّكم منتقلون عن هذه الدنيا، ومرتحلون بأعمالكم، وملاقو ربكم، (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الانشقاق: 6].
فمن مواضيع المنبر النبوي ما حدث به ابن عباس --رضي الله عنه-ما- قال: سمعت رسول الله يخطب على المنبر، ويقول: "إنكم ملاقو ربكم حفاة عُراةً غرلا" (متفق عليه).
يقوم الناس من قبورهم أولهم وآخرهم على هذه الصفة حافية أقدامهم، عارية أجسادهم، غرلا أي: غير مختونين، وتدنو الشمس منهم؛ فتصهرهم؛ فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.
وتنشر في ذلك اليوم الدَّواوين وهي صحائف الأعمال؛ فيأخذ المؤمنون كتابهم بأيمانهم مستبشرين، مغتبطين، ويأخذ الكفارُ كتابهم بشمائلهم، أو خلف ظهورهم حزنين خاسرين؛ أما المحاسبة فهي بالنسبة للمؤمن عرض فقط، ومن نوقش الحساب هلك، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر --رضي الله عنه-ما- قال: سمعت رسول الله يقول: "يُدعى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه؛ فيقول: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم؛ فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله".
وعن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان؛ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه؛ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه؛ فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة، وفي رواية ولو بكلمة طيبة".
ويقيم الله -عز وجل- على عباده شهداء على أعمالهم من أنفسهم قال الله تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65].
وتنصب الموازين التي توزن بها أعمال العباد، (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 102-103].
وهي موازين عدل يتبين فيها رجحان الحسنات من السيئات، أو ضده؛ فترجح الموازين بالأعمال الصالحة، وأوَّلُها وأوْلاها شهادة ألا إله إلا الله؛ فمن أتى بها وحققها، طاعة لله فعلاً لما أمر الله، وتركاً لما نهى الله فحَرِيٌّ أن ينجو بتوحيده، ويخلص بإخلاصه.
وحدَّث النبي أصحابه قصة الرجل الذي يؤتى به على رؤوس الخلائق يوم القيامة، وينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كلُّ سجل مدَّ البصر، وهو لا ينكر من هذه السجلات شيئاً، حتى إذا ظنَّ أنَّه هلك تخرج له بطاقة كتب فيها "أشهد ألا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله ثمَّ توضع في الميزان؛ فتطيش تلك السجلات، وتثقل البطاقة"، وقال النبي الكريم: "ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق".
وفي الصحيحين عن النبي الكريم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله، وبحمده، سبحان الله العظيم".
وحينئذ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7-8]؛ فيحاسب الله الخلائق في ذلك اليوم؛ فلا تظلم نفس شيئاً.
وأول ما يحسب عليه العبد صلاته؛ فإن كانت صالحة أفلح ونجح، وإن كانت فاسدة خاب وخسر، ويقضى بين الخلائق؛ فتردُّ المظالم إلى أهلها من حسنات الظالم؛ فإن لم يبق شيءٌ من حسناته أخذ من سيئات المظلوم؛ فطرحت عليه ثم طرح في النار.
ثمَّ هنالك الصراط، وهو الجِسرُ المنصوب على متن جهنم، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً، ويلقى في جهنم؛ فيدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم: "اللهم سلِّم سلم".
وفي عَرَصات يوم القيامة الحوض المورود للنبي -صلى الله عليه وسلم- طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، و أحلى من العسل، وريحه أطيب من المسك، آنيته، كنجوم السماء في كثرتها، وحسنها، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً؛ فيرد عليه المؤمنون من أمته غراً محجلين من آثار الوضوء، ورسول الله قائم عليه ينظر من يرد عليه من أمته؛ فيذاد عنه أناس؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم- أمتي؟ أمتي؟
فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ؟
ما زالوا يرجعون على أعقابهم!.
وفي هذا أبلغ التحذير من التبديل، والرجوع على العقب، واستبدال ما شرع الله بما يهواه الإنسان، أو يجاري فيه الناس !.
ثم بعد عبور الناس على الصراط، يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار؛ فيقتص لبعضهم من بعض، وإذا هذِّبوا، ونقُّوا أذن لهم في دخول الجنة؛ فلا يدخلونها إلا بعد التهذيب والتنقية، كما قال تعالى: (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73]، (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47].
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنْزله كان له في الدنيا" (رواه البخاري).
وأوَّل من يستفتح باب الجنة محمد، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته إكراماً له، ولأمته؛ فهم الآخرون السابقون يوم القيامة.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول …
الحمد لله...
أما بعد:
فمن أعظم ما يكون في ذلك اليوم في يوم القيامة الشفاعة العظمى التي اختص بها النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما يتأخر عنه الأنبياء حتى تنتهي إليه -صلى الله عليه وسلم-؛ فيشفع في أهل الموقف لفصل القضاء وذلك من معاني المقام المحمود الذي وعده الله إياه في قوله: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء:79].
والأحاديث في ذلك مستفيضة معلومة والشفاعة ثابتة بإجماع المسلمين؛ فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى؛ فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ مُوسَى؛ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ" (رواه البخاري وغيره).
فهذا كله يجب الإيمان به إيمانا جازما؛ فالإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان الستة، وهو البر الذي ذكره الله في قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة: 177].
فاستعدوا لذلك اليوم بصحة الإيمان، وملازمة العمل لتأمنوا يوم الفزع الأكبر، وتسعدوا يوم يشقى الخلق الأكثر، قال الله تعالى: (منْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل: 89].
اللهم أحسن منقلبنا إليك، والوقوف بين يديك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي