اهتم سلفنا الصالحُ بالشباب المسلم اهتمامًا عظيمًا، تعليمًا وتربية، وتوجيهًا ورعاية؛ حتى الصبيان منهم والصغار كانوا يجدون أعظم اهتمام، يجلس إليهم كبار العلماء، وأئمة الحديث، يحدثونهم ويعلمونهم؛ هذا الأعمش -الإمام المحدث المشهور- يمرُ عليه رجل وهو يحدث فقال له: تحدث هؤلاء الصبيان؟! فقال -رحمه الله-: إن هؤلاء يحفظون عليك دينك
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70،71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: صلاحُ الذرية واستقامتُهم على أمر الله تعالى، وتحليهم بالأخلاق السامية، واهتمامهم بالأمور العالية، واشتغالهم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم؛ سببٌ لسرور الآباء والأمهات: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان: 74]، سئل الحسن -رحمه الله تعالى-: في الدنيا أم في الآخرة؟! قال: في الدنيا، يرى الرجل من ولده وزوجه عملاً تَقَرُّ به عينه. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أما إنه لم يكن قُرّة أعينٍ أن يروه صحيحًا جميلاً؛ ولكن أن يروه مطيعًا لله -عز وجل-.
ولأجلِ ذلك اهتم سلفنا الصالحُ بالشباب المسلم اهتمامًا عظيمًا، تعليمًا وتربية، وتوجيهًا ورعاية؛ حتى الصبيان منهم والصغار كانوا يجدون أعظم اهتمام، يجلس إليهم كبار العلماء، وأئمة الحديث، يحدثونهم ويعلمونهم؛ هذا الأعمش -الإمام المحدث المشهور- يمرُ عليه رجل وهو يحدث فقال له: تحدث هؤلاء الصبيان؟! فقال -رحمه الله-: إن هؤلاء يحفظون عليك دينك. أي: إنه يحدثهم فيحفظون حديثه، فهم يحفظون الدين ثم يبلغونه. وقال: كان إسماعيلُ بن رجاء يجمع صبيان الكُتَّاب يحدثهم حتى لا ينسى حديثه.
كانوا يعلمونهم الأدب والعلم، وينشئونهم على طاعة الله -عز وجل-، ويزرعون فيهم الهمم العالية، ويوقدون في قلوبهم الحماسة للأعمالِ الجليلة، والمهامِ العظيمة، قال عروة بن الزبير لبنيه: أي بَنيَّ، هلموا فتعلموا؛ فإنكم توشكون أن تكونوا كبار قوم، وإني كنت صغيرًا لا يُنظر إليّ؛ فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني، وما أشدَّ على امرئٍ أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله.
قارنوا بين هذا الكلام المتين، والتوجيه الحكيم، وبين من يسلم أولاده لقناة منحرفة، أو مربية كافرة، أو يجعلُ مثَلَهم الأعلى مغنيًا هابطًا، أو رياضيًا جاهلاً، فما أبعد ما بينهما!!
وليس مقصود هذا الكلام أن يصبح الشباب كلهم علماء في الشريعة، فذلك حسن ولكنه غير ممكن؛ ولكن المطلوب حفظُ أوقاتهم من الهدر، وشبابهم من الضياع، وأخلاقِهم من الانهيار، وعقولهم من الجمود، وأجسادهم من الكسل.
ولنا في سلفنا الصالح قدوة؛ حيث كانوا يرفعونهم عن دنايا الأمور، ويربأون بهم عن رديء الأخلاق، وضياع الأوقات في البطالة، ويحفظونهم من مصاحبة الأشرار وقرناء السوء، ويوجهونهم إلى ما ينفعُهم حتى في أمور الدنيا. قال عليُ بن جعفر: مضى أبي إلى أحمد بن حنبل وذهب بي معه، فقال له: يا أبا عبد الله: هذا ابني، فدعا لي وقال لأبي: ألْزِمُه السوق وجنبه الأقران. فحذّره من قرناء السوء، وصحبة البطالين، ووجهه إلى السوق؛ حتى يتعلم ويكتسب. ولا يلزمُ من ذلك أن يكون محتاجًا إلى المال، ولو لم يشتغلْ إلا المحتاجون حاجة شديدة لتعطلت مصالح العباد، إنما العمل طاعة وعبادة، فيه نفع للنفس، ونفع للناس، ونفع للأمة بزيادة الإنتاج، وذلك خيرٌ من القعود والكسل، يقول شعيب بن حرب: لا تحقرن فلسًا تطيعُ الله في كسبه، وليس الفلسُ يراد إنما الطاعةُ تراد، عسى أن تشتري به بقلاً فلا يستقر في جوفك حتى يُغفر لك.
ولكن ربما يستحيي بعضُ الشباب أن ينزل إلى السوق؛ فيبيع ويشتري، مع أن هذا ليس من مواطن الحياء؛ فماذا عليه لو أصلح شؤون الدار، وما من دارٍ إلا وفيها ما يحتاج إلى إصلاح وصيانة، وربُ الأسرة عن ذلك مشغول، وكثيرٌ من الأعطال في الدور لا تحتاج مهندسًا خبيرًا؛ لكنها تحتاج جادًّا صبورًا، ومن المؤسف جدًا أن تُستدعى إلى البيت شركة أو مؤسسة من أجل إصلاح خلل سهل يمكن إصلاحه من دونها، وفي البيت خمسة رجالٍ أو عشرة يمكنهم أن يبنوا بيتًا لو استثمروا؛ ولكنه سوءُ التربية، وضعفُ الشعور بالمسؤولية، والاتكالية المفرطة، والرفاهية المسرفة؛ التي تجعل الشاب يأنف من كل شيء، ولا يحسن أي صنعة أو عمل.
ولقد كان الإمام أحمد -وهو إمام أهل عصره- يعمل شؤون داره بنفسه، ولو أراد لأومأ بيده فبنت له الأمة عشرين دارًا؛ ولكنه نبذ الكسل والتواكل. يقول ابنه صالح: كان أبي ربما أخذ القَدُّوم وخرج إلى دار السكان يعمل الشيء بيده.
وقال عمر بن الخطاب: الخُرْقُ في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز، لا يقل شيء مع الإصلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد.
وأعظم شيء تُقضى فيه أوقات الفراغ: تعلمُ العلم وتعليمُه والدعوة إلى الله -عز وجل-، ماذا على الشاب الذي حفظ القرآن أو جزءًا منه أن يَعلِّم غيره ممن لم يحفظ: و"خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وإلحاق الأولاد في حلقات التحفيظ من أعظم وسائل نفعهم، وحفظ أوقاتهم من الضياع، وأخلاقهم من الفساد. وجزى الله القائمين على تعليم أولادنا القرآن خير الجزاء؛ إذ بذلوا أوقاتهم، وصرفوا أعمارهم في خدمة كتاب الله تعالى، ونَفْعِ شباب المسلمين به. والدورات العلمية، والدروس، والمحاضرات من الكثرة بما لا يدع فراغًا عند الطالب الجادّ والحريص.
وأصحاب التخصصات التجريبية الذين ليس لهم ميول إلى العلوم الشرعية ماذا عليهم لو قضوا أوقاتهم فيما يستطيعون من التجارب والأبحاث في تخصصاتهم المختلفة؟! وهم في أبحاثهم وتجاربهم في عبادة ما دام قصدهم نفع المسلمين.
ولو وجد هذا الحس والشعور عند شباب المسلمين لقضي على كثير من مشاكلهم التي أنتجها الفراغ، ولأحسوا بطعم الحياة حلوة في ميادين البحث والعلم والتجارب، ولنفعوا أمتهم نفعًا عظيمًا.
إن تعطيل إمكانيات الشباب، وعدم توجيه طاقاتهم إلى ما ينفع يعود بالضرر على الجميع، وأعظم ضرر يجنيه بعد فساد دينهم وأخلاقهم تبلد إحساسهم، وانحطاط همتهم، وقصور إرادتهم، والإنسان يختلف عن الحيوان في هذه الناحية، فالحيوان يولد مبرمجًا برمجة كاملة يظل إنتاجه كما هو منذ ولادته حتى وفاته، فدودة القز مثلاً تنسج خيوط الحرير بنفس الطريقة، وعلى نفس المستوى من الدقة منذ وجدت وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أما الإنسان فهو بمنزلة مشروع مقترح ومفتوح لكل احتمالات التألق والانطفاء، والطموح والجمود، وإمكانيات الخير والشر، ومعضلة الإنسان أنه لا يشعر بالحاجة إلى المجاهدة، فهو في الغالب يتوهم أنه قد ورث كل الكمال في العقل والجسم، وأنه يمثل كل الكمال في الفعل والسلوك.
وهذا ما يجعل كثيرًا من الشباب يظنون أنهم ما داموا نجحوا في دراستهم فقد انتهى دورهم من الحياة حتى تُفتح المدارس مرة أخرى!! فلا يحفظون أوقاتهم، ولا يستثمرون شبابهم، يقضون الليل في سهر لا يفيد، والنهار في نوم وبطالة، وهم مع ذلك يشعرون أنهم لم يقصروا في شيء ما داموا قد نجحوا، وهذا هو عين المشكلة، وجوهر المعضلة، لا بد أن يزال هذا الشعور الخاطئ بخلفياته وتراكماته، ولا بد أن يغرس في قلوب الشباب أنهم قادرون على الإنتاج والعطاء والنجاح أكثر وأكثر، وأن الأمة في أمس الحاجة إلى عطاءاتهم وإبداعاتهم حتى في أيام إجازاتهم. أسأل الله تعالى أن يصلح شباب المسلمين، وأن يجعلهم قرة أعين لوالديهم إنه سميع مجيب. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وحافظوا على أوقاتكم؛ فإن الأيام تمر سريعًا، وكل يوم يمر على العبد يباعده عن الدنيا، ويقربه من الآخرة، وهو شهيد عليه يوم القيامة.
أيها المؤمنون: قيمة الوقت في الإسلام عظيمة؛ ولذا أقسم الله بأجزائه وعلاماته في آيات كثيرة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا) [الشمس:1-2]، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) [الليل: 1، 2]، (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضُّحى: 1-2]، (وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر]. وامتن الله تعالى بنعمة الوقت على عباده في مواضع كثيرة من كتابه، وفي الفقه الإسلامي للوقت قيمته وأهميته؛ فقد قرر الفقهاء أن الأجل في البيع يقابل بشيء من الثمن؛ فمن اشترى بثمن مؤجل ليس كمن اشترى بثمن مقبوض، فقوم الزمن بالمال لأهميته.
والدول المتقدمة في اقتصادها ونموها تدرك أهمية الوقت؛ ولذا فهي تحسب تكلفة السلع من خلال ساعات العمل التي تنفقها فيها؛ إذ لا تختلف قيمة الوقت عن قيمة المواد الأولية المستخدمة فيها، ولعل من الطريف أن تعلموا أن دولة من الدول الصناعية الكبرى عينت من ضمن وزرائها وزيرًا للأوقات الضائعة، ومع بالغ الأسف فإن الأمة الإسلامية التي حثت نصوص دواوينها على الوقت أكثر من أية أمة أخرى تضيع أوقات شبابها في الإجازات هدرًا.. سهر في الليل، ونوم في النهار.. قلوب خالية من دوافع وأهداف، ونفوس لا تتحمل المسؤوليات، وذلك من سوء التربية.
ويزداد الأمر خطورة بسفر الشباب مع أسرهم أو وحدهم إلى بلاد الفجور والمواخير؛ للانغماس في الرذائل والشهوات، وتتحمل مؤسسات السفر والسياحة وزر الإعلانات المرغبة لهم في هذا السفر المحرم، ويساعد على هذا الإثم والبغي القروض الربوية الميسرة التي تعلن عنها دور الربا ومؤسساته بقصد جني الأرباح الربوية، فهل تهدم أمة شبابها بأيديها في وقت أيقن العالم كله أن بناء الأمة لا يكون إلا بسواعد أبنائها؛ فاتقوا الله ربكم، واحفظوا شبابكم، ووجهوهم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي