حج النافلة

سعد بن تركي الخثلان
عناصر الخطبة
  1. تيسير الله على عباده فريضة الحج .
  2. تفضيل أهل العلم الصدقة على الفقراء والمساكين على حج النافلة .
  3. بعض مقاصد الحج ومنافعه. .

اقتباس

وأما تكرار الحج؛ فهو مستحب إذا لم يترتب عليه أضرار بدنية بسبب الزحام الشديد والأخطار المترتبة على ذلك؛ فإذا كان هناك أضرار؛ فترك الحج النافلة أفضل لاسيما وهناك أعمال خيرية كثيرة ومجال واسع لمن يريد الخير من إطعام المحتاجين، وإعانة المعسرين، والإسهام في المشاريع الخيرية النافعة...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا،  أما بعد:

فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته؛ امتثالاً لأمر الله -جل وعلا- في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 1.2].

أحبتي في الله: وتتوالى مواسم الخير والعبادات، ويعود موسم الحج من جديد، الركن الخامس، والعبادة التي تجمع عبادات، وتؤدي مقاصد عظيمة، العبادة التي لا تجب إلا مرة في العمر على المستطيع، يقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]؛ فهو فرض واجب لله تعالى على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام الحجُ إليه، ومن جحده فأنكره وكفر به، فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجن والإنس.

ومن يسر هذا الدين، وتخفيف الشرائع عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: أنه لم يوجبه إلا مرة في العمر، جاء ذلك في خطبة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا"؛ فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت  حتى قالها ثلاثاً؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم" (رواه مسلم).

أحبتي في الله: إن الحج عبادة عظيمة تجمع بين العبادة البدنية والعبادة المالية، وهو من أنواع الجهاد في سبيل الله؛ إلا أنه لا قتال فيه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "الحج مرة واحدة، وما زاد فهو تطوع" (أخرجه أحمد).

وهذا من رحمة الله -سبحانه-؛ فإنه لما كان الحج يحتاج إلى مال يُنفق فيه وإلى قوة بدنية، ويحتاج إلى سفر من مسافات بعيدة، جعله الله مرة واحدة في العمر؛ فمن استطاع الحج بدنيًّا وماليًّا وجب عليه أن يباشر الحج بنفسه، ومن استطاع ماليًّا ولم يستطع بدنيًّا لعجزٍ بدني مستمر؛ فإنه يوكل من يحج عنه، ويقوم بتكاليف الحج من ماله.

وأما تكرار الحج؛ فهو مستحب إذا لم يترتب عليه أضرار بدنية بسبب الزحام الشديد والأخطار المترتبة على ذلك؛ فإذا كان هناك أضرار؛ فترك الحج النافلة أفضل لاسيما وهناك أعمال خيرية كثيرة ومجال واسع لمن يريد الخير من إطعام المحتاجين، وإعانة المعسرين، والإسهام في المشاريع الخيرية النافعة.

وقد أكد العلماء الأجلاء -أيضًا- بأنه لا بد من التقيد بالأنظمة التي وضعتها الدولة لمصالح الحجاج؛ كتحديد عدد الحجاج لكل دولة، وفي هذا العام خُفض عدد حجاج الداخل إلى النصف؛ نظرا لما تقوم به الدولة -أعانها الله على كل خير وبر للمسلمين في داخل البلاد وخارجها- من توسعة تاريخية للمطاف، ونعلم بأن المطاف هو مكان الزحام في كل عام؛ فكيف وقد فقد أكثر من نصف بسبب العمال الجارية حاليًا والمؤقتة؟!؛ فلا يجوز -شرعًا- مخالفة هذا النظام بالحج من غير ترخيص وتعريض الإنسان نفسه للمسئولية التي قد يرتكب بسببها محظورات في الإحرام، ولا يؤدي الحج على الوجه المطلوب؛ بسبب كثرة الزحام مما يجعله يترخص في أداء المناسك؛ فيكون حجة مثلومًا، وقد يكون غير صحيح بسبب ما يترك من المناسك، أو لا يؤديه على الوجه المطلوب، ولاسيما النساء لما يتعرضن له من الخطر الشديد والمشقة الصعبة.

فمن أدى فرضه؛ فالأولى له ألا يكرر الحج هذا العام، في هذه الظروف الصعبة، ويترك المجال لغيره ممن لم يحج، قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، ويمكنه أن ينقل هذا المال إلى مجالات واسعة لفعل الخير غير حج النافلة بإمكان المسلم أن يسهم فيها.

وقد يكون أجرها أعظم من حج النافلة؛ ادفع إيجار سنة لأسرة فقيرة، أو أوقف هذا المبلغ في وقف الوالدين، أو اطبع به كتابًا للمسلمين، أو احفر به بئرًا في بلاد مسلمة، أو اكفل به أيتامًا في سوريا أو فلسطين أو اليمن أو غيرها من الديار المحتاجة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما إن كان له أقارب محاويج؛ فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته، فأما إذا كان كلاهما تطوعًا فالحج أفضل لأنه عبادة بدنية مالية، وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك، لكن هذا بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرمات ويصلي الصلوات الخمس، ويصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ولا يتعدى على أحد"، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المزمل:20].

الخطبة الثانية:

الحمد لله ولي الحمد وأهله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين-، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله تعالى حين شرع الحج فقد شرعه تعبدًا له -عز وجل-، وجعل له حِكمًا ومنافع: قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)[الحج: 28 - 29].

أيها المؤمنون: إن توسعة الحرمين الشريفين تعد من أجل وأعظم العبادات الصالحة، التي تحقق المصالح العظمى للإسلام وأهله، لكونها توسع المجال لعدد أكبر من الحجاج بعد انتهائها، بل إن التوسعة الحالية سوف تزيد من استيعاب الحرم لأكثر من ضعف الحجاج عما سبق بإذن الله تعالى، ويمكننا المشاركة في أجر سرعة إنجاز التوسعة من خلال تأجيل حج النافلة للأعوام المقبلة، والتصدق - إذا أردنا - بصدقة حج النافلة لإخواننا المشردين الذين لا يجدون ماء ولا طعامًا ولا سكنًا يؤويهم، أو غيرها من وجوه البر.

قال ابن رجب الحنبلي: "قد اختلف العلماء في تفضيل الحج تطوعًا أو الصدقة: فمنهم من رجّح الحج كما قاله طاوس وأبو الشعثاء وقاله الحسن أيضًا. ومنهم من رجّح الصدقة وهو قول النخعي. ومنهم من قال: إن كان ثَمَّ رحمٌ محتاجة أو زمنُ مجاعةٍ فالصدقة أفضل، وإلا فالحج أفضل وهو نص أحمد، وروي عن الحسن معناه، وأن صلة الرحم والتنفيس عن المكروب أفضل من التطوع بالحج".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وَالْمَفْضُولُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ لِبَعْضِ النَّاسِ لِمُنَاسَبَتِهِ لَهُ كَمَا قَدْ يَكُونُ جِنْسُهُ فِي الشَّرْعِ أَفْضَلَ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ، فَالْمَفْضُولُ تَارَةً يَكُونُ أَفْضَلَ مُطْلَقًا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهِ أَتَمُّ، وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ قَدْ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَفْضُولِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِأَحْوَالِهِمْ النَّاقِصَةِ مَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْفَاضِلِ الَّذِي لَا يَصِلُونَ إلَى أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ".

وقد عاب الإمام أبو حامد الغزالي على بعض المتدينين من الأغنياء الذين يحرصون على إنفاق المال في الحج بعد الحج والعمرة بعد العمرة، ولا يوفون بحق الفقراء وأصحاب الحاجات، فربما تركوا جيرانهم جياعًا لا طعام لهم وذهبوا بنفقاتهم الواسعة لإشباع رغباتهم النفسية في كثرة الحج والعمرة غير فاهمين لمقاصد الإسلام الكبرى.

وروي أن رجلاً جاء يودع بشر بن الحارث، وقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفى درهم. قال بشر: فأي شيء تبتغى بحجك ؟ تزهدًا أو اشتياقًا إلى البيت وابتغاء مرضاة الله؟ قال: ابتغاء مرضاة الله؟ قال نعم. قال بشر: فإن أصبتَ مرضاةَ الله تعالى، وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى: أتفعل ذلك؟ قال: نعم. قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس: مدينٍ يقضي دينه، وفقيرٍ يرم شعثه، ومُعيلٍ يُغني عيالَه، ومربي يتيمًا يفرحه، وإن قوي قلبُك تعطيها واحدًا فافعل؛ فإن إدخالك السرور على قلب المسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر، وإعانة الضعيف: أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام! قم فأخرجها كما أمرناك، وإلا فقل لنا ما في قلبك؟ فقال: يا أبا نصر! سفري أقوى في قلبي.

فتبسم بشر رحمه الله، وأقبل عليه، وقال له: المال إذا جُمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرًا، فأظهرت الأعمال الصالحات، وقد آل الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين!

أقول وقد ذكر بعض أهل العلم في هذا الزمن بأن المسلم إذا أدى فريضته، ولم يكن لذهابه نفع متعدٍ إلى غيره، كطالب علم، أو طبيب، أو من يُحْسِنُ أيَّ أمر من الأمور التي يحتاجها الحجاج؛ فإنه إذا نوى بعدم ذهابه تخفيف الزحام، وترك المجال لغيره من المسلمين، فإنه مأجور على نيته؛ فإذا تصدق بنفقته على المحتاجين؛ فهو لا شك على خير عظيم، تقبل الله من الجميع كل بر وخير.

أسأل الله تعالى أن يحمي حجاج بيته، وأن يتقبل منهم، إنه سميع مجيب.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي