اعلموا أن طلب العلم الشرعي من أفضل وأجل العبادات عند الله -جل وعلا-، بل إن طلب العلم أفضل من سائر النوافل على الإطلاق؛ لأنه من العبادة التي يتعدى نفعها للغير، وما تعدى فهو أفضل من القاصر على صاحبه. ومما يدل على شرف العلم وفضله: أن الإنسان كلما...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على طريقته ونهجه، وعنا معهم بمنك وعفوك وكرمك.
أما بعد:
فيا عباد الله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102].
واعلموا -يا رعاكم الله- أن طلب العلم الشرعي من أفضل وأجل العبادات عند الله -جل وعلا-، بل إن طلب العلم أفضل من سائر النوافل على الإطلاق؛ لأنه من العبادة التي يتعدى نفعها للغير، وما تعدى فهو أفضل من القاصر على صاحبه.
ومما يدل على شرف العلم وفضله: أن الإنسان كلما طلب العلم ازدادت خشيته من الله -جل وعلا-، قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، فالإنسان إذا قرأ القرآن وفهم القرآن فإنه يعظم الرحمن، ولذلك لما كان الحبيب -صلى الله عليه وسلم- هو أعلم الخلق بالخالق كان أتقى الناس لربه، يقول ابن مسعود: "ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم خشية الله"، وقال الإمام أحمد: "إنما العلم الخشية".
فالعلم الحقيقي هو الذي يزيد من إيمان الإنسان ويقربه إلى الله -جل وعلا-، يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "طلبت العلم ألفي عالم فلم استفد الفائدة الحقيقية إلا من اثنين، قيل: لم يرحمك الله؟ قال: لأنهما إذا شرعا في الدرس شرعا في البكاء من خشية الله -جل وعلا-".
والإمام مالك -رحمه الله- لم يأخذ العلم عن شيخه أيوب السختياني إلا بعد ما رآه عند الكعبة وهو يبكي، فأشفق عليه من كثرة بكاءه وخشيته وإجلاله لله -جل في علاه-.
فالعلم -يا عباد الله- يقرب صاحبه من الله -جل وعلا-.
ومما يدل على شرف العلم: أن العلماء ورثة الأنبياء؛ فقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وصححه ابن حبان: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر"، فيا له من شرف عظيم أن العلماء هم ورثة الأنبياء، وكل مسلم يتمنى أن ينال ذلك الميراث، وهذا يكون -يا عباد الله- بالعلم بالكتاب والسنة، بحضور حلقات العلم، بحفظ القرآن والسنة، وبتتبع كلام أهل العلم.
ومما يدل على شرف العلم ومنزلته: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال كما جاء في الصحيحين من حديث معاوية -رضي الله عنه-: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" فهذا الحديث يدل بمفهوم الموافقة على أن الله -جل وعلا- إذا أراد بعبده خيرا سلك به طريق العلم، حبب إليه حفظ القرآن والسنة، حبب إلى قلبه حضور دروس العلم، وتتبع كلام أهل العلم، وحفظ المتون، ونحو ذلك.
ومفهوم المخالفة لهذا الحديث أن الله إذا لم يرد بعبده خيرا في هذا الباب صرفه عن العلم والعلماء، فإذا رأيت الإنسان يتجه إلى حفظ القرآن، فاعلم بأن هذه بشرى عاجلة له من الله -جل وعلا-، أن الله -سبحانه وتعالى- أراد به خيرا.
ومما يدل -يا عباد الله- على شرف العلم: أن طالب العلم يتجه إلى جنة عرضها السموات والأرض، وقد جاء في صحيح مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة".
فيا طالب العلم: استشعر هذا المعنى حتى إذا ضعفت النفس وثقل عليك الحضور تذكر أنك تسلك بهذا طريق الجنان تذهب إلى جنة عرضها السموات والأرض، فتتلذذ بذلك التعب وبتلك المشقة.
وأيضا -يا عباد الله- مما يدل على شرف العلم ومكانة العلم: أن العلماء إذا فارقوا هذه الحياة لا تنقطع أعمالهم، بل تأتيهم في قبورهم، وهم بأمس الحاجة إليها، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح".
ألا ترون -يا رعاكم الله- أن الأئمة الأربعة الإمام أحمد والشافعي والإمام مالك وأبو حنيفة -رحمهم الله جميعا- أعمالهم جارية وهم في قبورهم وغير هؤلاء؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن كثير، وغير هؤلاء من العلماء الأجلاء تنهال عليهم الحسنات في قبورهم، ولا ينقطع عملهم حتى تقوم الساعة، وهذا -يا عباد الله- مما يدل على شرف العلم ومكانة العلم.
وأيضا مما يدل على شرف العلم: أن طالب العلم يسقط الإثم عن بقية الناس؛ لأن طلب العلم -يا عباد الله- ينقسم إلى قسمين:
منه ما هو ضروري، ويجب على كل إنسان بعينه، وهو ما لا يتم الواجب إلا به كما علم في أحكام الصلاة كيف يصلي المسلم، كيف يحج المسلم، كيف يؤدي زكاة ماله، فهذا لابد على كل شخص بعينه.
والقسم الثاني: فرض كفاية وهو لا يخفى عليكم الذي يسقط الإثم عن بقية الناس في طلبه للعلم ونشره.
ومما يدل على فضل العلم: أن من في السموات والأرض حتى الحيتان في البحر تستغفر لمعلم الناس الخير تقول: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه".
ومما يساعدنا جميعا -يا عباد الله-: أن نطلب العلم الشرعي أن نلتجئ إلى الله -جل وعلا- بصدق ادع ربك -سبحانه وتعالى-، وقل كما أمر الله رسوله: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114]، قل: "يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني"، استعن بالله -جل وعلا-، وربنا -جل وعلا- لا يخيب من دعاه ولا من رجاه؛ لأن الله -جل وعلا- حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين.
فأسأل ربك -يا عبد الله- أن يرزقك حب القرآن وفهم القرآن، والعمل بالقرآن، وربنا -جل وعلا- يعطيك هذا، اسأل ربك أن يحبب إلى قلبك حلق الذكر ومجالس العلم، وأن يرزقك الفهم، ومن سأل الله شيئا بصدق أعطاه الله -سبحانه وتعالى-.
ومما يساعدنا أيضا -يا عباد الله-: أن نطلب العلم الشرعي أن نقرأ في سير العلماء، وكيف كانوا يطلبون العلم، كيف تحملوا المشقة من أجل تحصيل، هذا ابن عباس -رضي الله عنه- يأتي إلى شخص قد بلغه أن عنده بعض الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيتوسد عتبة بابه، ويأتي الغبار ويغطي وجهه، ثم يخرج إليه الرجل، فيقول: "ابن عم رسول الله هلا آذنتني؟ هلا أخبرتني آتيك؟ فيقول: العلم يؤتى إليه"، نعم، فيأخذ ما عند هذا الرجل من العلم.
الإمام أحمد -رحمه الله- خرج من العراق إلى عبد الرزاق الصنعاني باليمن وكان معه ابن معين، ولما كانوا في الطواف مروا على مكة في وقت الحج رأى عبد الرزاق الصنعاني فقال ابن معين: "هذا عبد الرزاق الصنعاني خذ ما لديه من العلم"، فقال: "لا أغير نيتي"، فذهب إليه بعد الحج باليمن، وجاب الدنيا على قدميه مرتين -رحمه الله- حتى جمع هذا المسند.
نعم، نقرأ في سير أولئك العلماء.
ابن القاسم تزوج بابنة عمه وخرج من مصر إلى ابن مالك في المدينة وطلب عليه العلم وبعد مضي سبع عشرة سنة أتى وقت الحج، وكان معهم شاب فسأل عن ابن القاسم فأشاروا إليه، فنزل وقبل ما بين عينيه، وإذا به ابنه الذي تركه وخرج من مصر وكانت زوجته حامل.
ابن مندة خرج من بلده وعمره عشرون سنة ولم يعد إلى بلده إلا وعمره خمس وستون سنة، ثم تزوج ورزقه الله ذرية، ونشر العلم في بلده، فلما تقرأ -يا عبد الله- في سير أولئك العلماء، فإنك بإذن الله -سبحانه وتعالى- ستثمر عن سائر الجد وتطلب العلم، ولا تنظر إلى من حولك ممن قصر في حياته، وفصل وقتل وقته بما لا ينفعه لا في دينه ولا في دنياه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -جل وعلا-، واعلموا أن من أسباب نيل العلم: تقوى الله -جل وعلا-، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) [البقرة: 282].
فتقوى الله -جل وعلا- من أسباب تحصيل العلم، واحذروا المعاصي فإنها من صوارف العلم، ذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- إلى الإمام مالك في المدينة واعجب به الإمام مالك ورآه يتوقد ذكاءً وفطنة، فقال له الإمام مالك يقول للشافعي -رحمهم الله جميعا- وجمعنا بهم في أعلى الجنان- قال له: يا هذا إن الله -جل وعلا- ألقى في قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية، فالإمام الشافعي عنده من الفطنة والذكاء، كان إذا قرأ مائة بيت يحفظ منها تسعا وتسعين بيتا، وينسى بيتا واحدا ومع ذلك يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور *** ونور الله لا يؤتى لعاصي
فتقوى الله -جل وعلا- -يا عباد الله- من أسباب نيل العلم.
ومن أسباب أيضا نيل العلم: أن نجالس من يشجعنا على طلب العلم، ونبتعد عن المثبطين، فبعض الناس إذا رأيته تشجعت على طلب العلم، ساعدك ودلك وأرشدك إلى دروس العلم وإلى الكتب النافعة، وحثك على المواصلة، أما بعض الناس قد يقول لك: إذا حفظت زادت نسخة في المكتبة، فماذا ينفعك هذا؟ ويثبطك ويدعوك إلى الداعة والراحة والرحلة وضياع الأوقات بما لا ينفع، فعليك أن تجلس مع من يحثك على طلب العلم.
واعلموا -يا رعاكم الله- أن العلماء لهم منزلة عند الله -جل وعلا-، وأن الله -سبحانه وتعالى- أعلى منزلتهم بالدارين، قال الله -جل وعلا-: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]، وقال سبحانه (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].
وإنك لتعجب كل العجب ممن يقللون من شأن العلماء، ممن يحتقرون العلماء، ممن يتصيدون أخطاء العلماء، ممن ينالون من العلماء، ومن بلي بالعلماء بالسب بلي بقساوة القلب -والعياذ بالله-.
نعم، هم بشر يخطؤون كغيرهم، وإذا أصابوا لهم أجران وإذا أخطؤوا لهم أجر، ويناصحون ويبين لهم بالطريقة المناسبة، أما الانتقاص والازدراء والاتهام، وأنهم لا يفهمون الواقع، هذا كله من مخططات أعداء الله حتى يفصلوا بين الناشئة وبين من شابت لحاهم في العلم والتجربة والخبرة.
فعلينا -يا عباد الله- أن ننزل العلماء منزلتهم التي أنزلهم الله -سبحانه وتعالى-.
والطعن في العلماء طعن في مصدر التلقي، فهم يبلغون عن الله وعن رسوله، يقولون للناس: قال الله وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهم يبلغون عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فعلى كل إنسان من الكتَّاب وغير الكتاب أن يتقي الله -جل وعلا- في قوله، ويعلم أنه سيسأل عن هذا الكلام.
ومن كان لديه شيء على أحد منهم فالأبواب مفتوحة يذهب ويناقش، أما الازدراء والسب والنيل من هؤلاء العلماء، فهذا خطأ كبير -هدى الله الجميع لما يحبه ويرضاه-.
هذا واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه، فقال جل من قائل عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم يا قوي من أرادنا أو أحدا من المسلمين بسوء اللهم فأشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم يا حي يا قيوم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمع قلوبهم، اللهم اجمع قلوبهم، اللهم أصلح أحوالهم، اللهم أصلح أحوالهم، اللهم يا حي يا قيوم انشر الأمن في بلاد المسلمين، اللهم يا حي يا قيوم اعد المشردين إلى بلادهم، يا حي يا قيوم اللهم انتقم لهم ممن ظلمهم، اللهم أنزل عليه بأسك وغضبك، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، اللهم أنزل عليه الهموم والغموم والأحزان والأمراض، اللهم سلط عليه ما نزل من السماء وما خرج منها، اللهم سلط عليه جندك يا قوي يا عزيز، اللهم انتصر للمظلومين يا رب العالمين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، اللهم فرج همهم، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اقض دينهم يا رب العالمين، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا يا حي يا قيوم، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا، اللهم اكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين يا رب العالمين.
اللهم اعصمنا من فتن الشهوات والشبهات، اللهم اعصمنا من فتن الشهوات والشبهات.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وبعد الممات، اللهم اجعلنا ممن يبشر بروح وريحان ورب راض غير غضبان، اجعل يا أرحم الراحمين قبورنا روضة من رياض الجنة.
اللهم أحسن لنا الختام، اللهم أحسن لنا الختام، اللهم اجعل آخر كلامنا من هذه الدنيا شهادة التوحيد، اللهم أظلنا في ظلك، بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم يا حي يا قيوم ارزقنا شفاعة نبيك، واحشرنا في زمرته، واسقنا من يده شربة لا نظمأ بعدها أبدا.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90] فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي