قطيعة الرحم ذنب كبير وخطر جسيم

عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري
عناصر الخطبة
  1. وجوب صلة الرحم .
  2. عقوبة قطيعة الرحم .
  3. أسباب قطيعة الرحم .
  4. تحذير السلف من قطيعة الرحم .
  5. أضرار قطيعة الرحم. .

اقتباس

ومن الناس -يا عباد الله- من يقطع رحمه لأجل كلمةٍ قالها فلان فاحتملها على وجه سيء, أو ظنَّ ظناً سيئاً في قائلها, ولم يحملها على المحمل الطيب, ولم يلتمس أي عذر؛ فيقطع رحمه لأجلها, ومن الناس من يقطع رحمه لأجل أمور دنيوية, ولم يجعل للسماحة والعفو والصفح سبيلا, ولم يستحضر الأجر الجزيل في ذلك...

الخطبة الأولى:

الحمدلله الذي أمرنا بصلة الرحم ونهانا عن قطيعتها, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا وقدوتنا محمداً رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- واحذروا من قطيعة الرحم فإنها من الكبائر.

أيها المسلمون: إنَّ صلة الرحم واجبة, والأرحامُ الواجب صلتهم: الأب والأمُّ والجد والجدة وإن علو, والولد وولد الولد ذكراً كان أو أنثى وإن نزلا, والإخوة والأخوات وأولادهم, والعم والعمات وأولادهم, والخال والخالة وأولادهم, وفي قطيعة هؤلاء ذنب عظيم, وخطرٌ جسيم, والقاطع عاقٌّ لرحمه صادٌّ عنها, تارِك للبرِّ والإحسانِ إلى أهله وأقاربه, قال -تعالى- في محكم كتابه: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد: 22] وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد: 25], قال السعدي -رحمه الله-: "لم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وصلوا الأرحام ولا أدوا الحقوق" ا.هـ.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِع" (متفق عليه), قال النووي -رحمه الله- في التأويل الثاني لمعنى القاطع: "لا يدخلها في أول الأمر مع السابقين؛ بل يعاقب بتأخره القدر الذي يريده الله -تعالى-", قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "صلة الأرحام واجبة، وقطعها سبب للعنة, والحرمان من دخول الجنة", وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا, مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ؛ مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ" (أحمد وأبوداود وابن ماجه).

أيها المسلمون: إنَّ قطيعة الرحم من صفات الأشقياء الذين لم يوفقهم الله لصلة أرحامهم, فترى منهم من يقطع رحمه لأنَّهم لا يصلونه, فيقول: لا أصل إلا وصلني, وهذا ليس بوصل, بل مكافأة يكافئ بها من وصله, قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا" (أخرجه البخاري).

ومن الناس -يا عباد الله- من يقطع رحمه لأجل كلمةٍ قالها فلان فاحتملها على وجه سيء, أو ظنَّ ظناً سيئاً في قائلها, ولم يحملها على المحمل الطيب, ولم يلتمس أي عذر؛ فيقطع رحمه لأجلها, ومن الناس من يقطع رحمه لأجل أمور دنيوية, ولم يجعل للسماحة والعفو والصفح سبيلا, ولم يستحضر الأجر الجزيل في ذلك, فالتعامل بين المسلمين ينبغي أن يكون تعاملاً بفضائل الأخلاق من الكرم والعفو والسماحة, والصفح والإحسان والتعاون على الخير.

عباد الله: إنَّ قاطع الرحم إنما يضرُّ نفسه ابتداء, فهو آثمٌ واقع في كبيرة من كبائر الذنوب, فلا يكاد يعرفه أحد من رحمه, وهو لا يعرفهم, يصيبُ أحدهم مرض فلا يعودُه ولا يسأل عنه, وهو كذلك لا يسعى في حاجاتهم فهو ليس مثل الواصل, الذي يزور أقاربه ويسأل عن أحوالهم, ويسعى في حاجتهم, ويتصل عليهم بالهاتف إن لم يتمكن زيارتهم.

أيها المسلمون: لسائل أن يسأل ما هي أسباب قطيعة الرحم؟ والإجابة تتلخص في أمور منها:

الأول: الجهل وضعف الإيمان؛ فمن جهل خطورة القطيعة أو ضعف إيمانه فهو لا يبالي في قطيعة رحمه.

الثاني: الانشغال بأمور الدنيا والسعي فيها, ونسيان الحق الواجب في صلة الرحم.

الثالث: التكلُّف الزائد في الضيافة سواء في البيت أو في الاجتماعات الدورية للأسرة؛ فالبعض لا يستطيع أن يجاري غيره في التكاليف لقلة ذات يده, فيقع في القطيعة.

الرابع: البخل بالمال والجاه؛ فبعض من الناس إذا تولى منصباً أو رزقه الله مالاً, تجده يقطع رحمه إما بعدم نفعه لمن يحتاج منهم, أو بعدم صلتهم كليَّاً؛ كي لا يطلبون منه شفاعة حسنة, أو مساهمة بمال لأسرة محتاجةٍ منهم.

الخامس: سوء فهم البعض حيث يظن أنَّ الاجتماع الذي ليس فيه مصلحة دنيوية اجتماع لا خير فيه, ولسان حالهم: فلان يستطيع أن ينفعنا بجاهه أو بماله, ولكنه لا يريد فما الفائدة من الاجتماع معه! وهذا عذر عجيب؛ إذ الواجب وصل الرحم لأجل الدين لا لأجل الدنيا.

السادس: كثرة المعاتبةِ واللومِ فيما بينهم, والحدَّة في ذلك, فتحصلُ القطيعة بينهم.

السابع: الخلافات الدنيوية وما يحصل حولها من مشاكل, ووشايةٍ وغيبةٍ ونميمة, فتكونُ النفوس مشحونة والقلوب متباغضة, تباغضٌ على الدنيا أدَّى إلى قطيعةٍ وهجران, وهذا لا يجوز؛ لأنَّه مهما حصل من خلاف على الدنيا الفانية, فلا يجوز أن يقطع رحمه لأجلها, ولا أن يستطيل في أعراض من اختلف معهم بل يعاملهم بالحسنى ويقابلهم بالصلة, عن أبي هريرة: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله! إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ, وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ" (أخرجه مسلم), والظهير هو المعينُ والدافع لأذاهم.

فانظر إلى توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن يصل قرابته ويقطعونه, ويحسن إليهم بالقول والفعل ويسيئون إليه بأقوالهم وأفعالهم, ويحلم عليهم ويقابلونه بالفضاضة والغلظة, حيث شبَّه فعله معهم بأنَّه كمن يطعمهم الرماد الحار لإحسانه إليهم وإساءتهم إليه, وهو مع ذلك مجزيٌّ جزاء عظيما من الله -تعالى-, حيث امتثل أوامره وهم آثمون لقطيعتهم وإساءتهم إليه لمخالفتهم أمر ربهم.

قال المقنع الكندي عن قومه:

فإنْ يأكلوا لحميْ وَفَرْتُ لحومَهُمْ *** وإنْ يهدموا مجدي بنيتُ لهمْ مجدَا

وإنْ ضيعوا غيبيْ حفظتُ غيوبَهمْ *** وإنْ همْ هوَوْا غَيِّيْ هويتُ لهم رُشدا

ولا أحملُ الحقدَ القديمَ عليهمُ *** وليسَ رئيسُ القومِ من يحملُ الحقدا

عباد الله: لقد حذَّر السلف الصالح من قطيعة الرحم, عن ميمون بن مِهران قال: قال عمر بن عبدالعزيز: "إِنِّي أُوصِيكَ بِثَلاثٍ فَاحْفَظْهُنَّ", قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هُنَّ؟ قَالَ: "لا تَخْلُ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ، وَإِنْ قَرَأْتَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ، وَلا تُصَافِ قَاطِعَ رَحِمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَعَنَهُ فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتعالى-؛ آيَةٍ فِي الرَّعْدِ، قَوْلُهُ -تعالى-: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [البقرة: 27] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)[محمد: 22]".

أيها المسلمون: إن من مضار قطيعة الرحم, حصول سخط الله على القاطع, وأيُّ خير سيجنيه من قطعه الله, وأنها سبب لضيق الرزق وقلة البركة في العمر, وأنَّ القاطع إن كان من أهل الجنة فإنَّه يتأخر في دخولها بسبب عظم ذنب القطيعة, وأثر القطيعة على المجتمع كبير, تفككٌ في الأسر, ومن ثم تفككٌ في المجتمع, وغير ذلك من المضار وسيء الآثار.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه غفور رحيم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي