صاحب السخرية لا بد أن يكون همازا لمازا، واللمز هو المباشرة بالسوء والمكروه، والمواجهة بالقدح والعيب، ويكون بالقول. والهمز يكون بالفعل كأن يعيبه بالإشارة بالعين أو بالشدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه.
الحمد لله؛ خلق الخلق فهداهم، وكلف البشر واصطفاهم، له الحكم فيما خلق، وله الحكمة فيما قضى وأوجب (قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام:149] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كرم الإنسان بالعقل، وهداه إلى الحق، (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:8-10].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى ليتمم مكارم الأخلاق، ويدل على محاسن الأقوال والأفعال ، فكان أكمل الناس خلقا، وأحسنهم قولا وفعلا (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل: " ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتبعوا ما أنزل من النور والهدى (يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الأعراف:36] .
أيها الناس: خلق الله تعالى البشر، وفاضل بينهم، وجعل بعضهم في خدمة بعض؛ ابتلاء وتسخيرا (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ) [الأنعام:165] وفي الآية الأخرى (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) [الزُّخرف:32] .
وهذه الرفعة في أمور الدنيا لا تستلزم الرفعة عند الله تعالى، بل يتفاضل الناس عند ربهم بالإيمان والعمل الصالح (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13] ولهذا كان واجبا عليهم أن يتخلقوا فيما بينهم بالأخلاق الحسنة، فلا يسخر قويهم من ضعيفهم، ولا يهزأ سيدهم بمسودهم، ولا يحقر غنيهم فقيرهم.
وقد نهاهم الله تعالى عن التخلق بأخلاق الجاهلين فيما بينهم من السخرية واللمز والتنابز (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11] .
إن السخرية بالناس خلق ذميم اتصف به من أبغضهم الله تعالى ومقتهم من الكفار والمنافقين، وقد ذكر الله تعالى سخريتهم بالمؤمنين، واستهزاءهم بهم، ولمزهم لهم، والحط منهم: فالكفار من قوم نوح عليه السلام كانوا يسخرون منه وممن اتبعه من المؤمنين (وَيَصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) [هود:38] وهكذا كان دأب الكافرين في كل الأمم يسخرون من رسلهم كما اخبر الله تعالى عنهم (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الزُّخرف:7] وفي الآية الأخرى (يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [يس:30].
وأما سخريتهم بالمؤمنين فجاء خبرها في قول الله تعالى (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا) [البقرة:212] وفي الآية الأخرى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) [المطَّففين:29-30].
ويقولون ساخرين بالمؤمنين، محقرين لشأنهم، مصغرين أمرهم (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) [الأنعام:53].
وأما المنافقون فهم أكثر الناس سخرية بالرسل وأتباعهم، وبما جاءت به الرسل عليهم السلام من الحق والهدى (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة:14] وفي الآية الأخرى (يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) [التوبة:64] وفي مقام آخر قال الله تعالى عنهم (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:79] .
وسيجد الكفار والمنافقون يوم القيامة عاقبة سخريتهم بالرسل وأتباعهم، وبما جاءت به الرسل عليهم السلام، وحينها يعرفون أن من كانوا يسخرون منهم كانوا هم أهل الحق والهدى، وأنهم هم أهل الباطل والضلال، وذلك حين يقال لهم (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الفَائِزُونَ) [المؤمنون:109-111].
ويعجبون يوم القيامة حين لا يرون من كانوا يسخرون منهم في الدنيا معهم في النار، وقد كانوا يظنون أنهم على ضلال (وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ) [ص:62-63].
ويكون الضحك في الآخرة للمؤمنين حين يدخلون الجنة فيرون ما هم فيه من النعيم العظيم المقيم، ويرون من كانوا يسخرون منهم في الدنيا من الكفار والمنافقين في العذاب الأليم المهين (فَاليَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المطَّففين:34-36] نعم والله قد ثُوِّبوا وجوزوا بأعظم العذاب، وأشد النكال على كفرهم ونفاقهم، وعلى سخريتهم بالمؤمنين في الحياة الدنيا، نعوذ بالله تعالى من حالهم ومآلهم.
وإذا كانت السخرية من أخلاق الكفار والمنافقين فلا يليق بمسلم أن يتخلق بأخلاقهم، فيسخر من إخوانه المسلمين، أو يلمزهم، أو ينابزهم بألقاب فيها تحقير لهم، وحط من شأنهم وقد نهاه الله تعالى عن ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " رواه مسلم. أي كافيه من خلال الشر وخصاله احتقاره لأخيه المسلم.
والسخرية من الناس تنم عن كبر في قلب صاحبها، وتعالٍ على من سخر بهم، فلا يرى لهم عليه حق التوقير والاحترام، ويأنف من أُخُوتهم وهم إخوانه في الدين، والكبر من كبائر الذنوب، وجاء في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " ثم فسر عليه الصلاة والسلام الكبر بأنه " بطر الحق وغمط الناس" وغمط الناس هو احتقارهم وازدراؤهم؛ وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص.
وقد يكون الدافع إلى سخرية المرء بأخيه المسلم: حسده له على نعمة لم يبلغها، ويرى أن أخاه لا يستحقها، فيبلغ به حسده، وظلمة قلبه عليه أن يسخر من أخيه ويحتقره ويتنقصه؛ ليحط من قدره، وينزله من مكانته، ويعلي من شأن نفسه، ويلفت الأنظار إليه، ولسان حاله يقول: أنا أحق به من نعمته.
والسخرية تقود إلى الغيبة وهي من كبائر الذنوب، فقد لا يستطيع السخرية بحضرة أخيه، فيسخر به من ورائه؛ فتكون سخرية وغيبة، ويكون هو بمثابة من أكل لحم أخيه ميتا.
وصاحب السخرية لا بد أن يكون همازا لمازا، واللمز هو المباشرة بالسوء والمكروه، والمواجهة بالقدح والعيب، ويكون بالقول. والهمز يكون بالفعل كأن يعيبه بالإشارة بالعين أو بالشدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه.
وهذان الخلقان الذميمان اتصف بهما بعض المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فكانوا يهمزونهم ويلمزونهم، فأنزل الله تعالى فيهم سورة الهمزة (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة:1] وتوعدهم فيها بنار الله الموقدة (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) [الهمزة:7-9].
فالهماز اللماز في الناس متصف بصفات المشركين، متخلق بأخلاق أهل السعير، ويناله من الوعيد في ذلك بقدر همزه ولمزه في إخوانه المسلمين. كما أن الهماز قد أخذ من الشياطين بعض صفاتهم التي أمر الله تعالى نبيه أن يتعوذ بالله تعالى منها (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون:98] فالهماز من الشياطين يطعن بني آدم بالصرع والمس، والهماز من البشر يطعن أخاه بالعيب والنقص.
والهماز قد يسعى بالنميمة وهي من كبائر الذنوب، وقد حذر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام منه (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:10-11] .
وإذا فشت السخرية في الناس تنابزوا بالألقاب، وعيَّر بعضهم بعضا، فتنافرت قلوبهم، وانحلت روابطهم، فتعادوا وتهاجروا، وتدابروا وتباغضوا، ولم يكونوا عباد الله إخوانا؛ ولذا نهاهم الله تعالى عن التنابز بالألقاب، والتنادي بالعيوب والمعاير(وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) [الحجرات:11] قال أبو جبيرة بن الضحاك رضي الله عنه: " فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة (وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) [الحجرات:11] قال: قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" يا فلان، " فيقولون : مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم فأنزلت هذه الآية" رواه أبو داود.
ولما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: " يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية " رواه البخاري.
ولما عابت عائشة صفية رضي الله عنهما غضب النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وبين لها عظيم ما فعلت؛ كما روت عائشة رضي الله عنها فقالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: " حسبك من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة- فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته، قالت عائشة رضي الله عنها: وحكيتُ له إنسانا فقال: ما أحب أني حكيتُ إنسانا وأن لي كذا وكذا " رواه أبو داود.
والسخرية سبب للعداوة والخصومات، وقد ينتج عنها سباب واعتداء بالقول والفعل والمقاتلة؛ لأن الساخر قد يتمادى في سخريته، فلا يحتمل أخوه منه سخريته، فينتصر لنفسه بالقول أو بالفعل. وكم من خصومات ومشاجرات أضرت بأصحابها ولربما كان فيها قاتل ومقتول كانت شرارتها الأولى استهزاء أحد الخصمين بالآخر، نفخ الشيطان في نارها حتى آلت بأصحابها إلى المقاتلة!!
وبهذا يتبين لكل عاقل أن السخرية بالناس باب من الشر عظيم، يفتح أبواب الهمز واللمز والغيبة والنميمة، ويملأ القلوب ضغائن وأحقادا وعداوات، ويكفي رادعا عن السخرية بالآخرين أنها من صفات أهل النار من الكفار والمنافقين، فحري بكل مسلم أن يحفظ لسانه، ويتوقى في أقواله وأفعاله، ويحذر سبيل الهمازين اللمازين الذين يسخرون من عباد الله المؤمنين؛ لينجو مع الناجين، ولا يهلك مع الهالكين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الله كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ) [آل عمران:162] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ) [النور:52].
أيها الناس: كان سلفنا الصالح رحمة الله تعالى عليهم يتوقون عيب غيرهم وقدحهم، والسخرية بهم، والحط منهم؛ حفاظا على الأخوة، وتأليفا للقلوب، وخوفا من الإثم، وحذرا من الوقوع في عيوب أهل العيوب، وكان ابن مسعود رضي الله عنه من أشد الناس في ذلك حتى نقل عنه قوله " لو سخرت من كلب لخشيت أن أكون كلبا " وكان رضي الله عنه يقول: " البلاء موكل بالقول" رواهما ابن أبي شيبة.
وجاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: " لو رأيت رجلا يرضع شاة في الطريق فسخرت منه خفت أن لا أموت حتى أرضعها " رواه ابن أبي شيبة.
واجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت صلاة يجهر فيها فقدموا الكسائي يصلي فأرتج عليه في قراءة (قل يا أيها الكافرون) فلما أن سلم قال اليزيدي: " قارئ أهل الكوفة يرتج عليه في" (قل يا أيها الكافرون) فحضرت صلاة يجهر فيها فقدموا اليزيدي فارتج عليه في سورة (الحمد) فلما أن سلم قال: "احفظ لسانك، لا تقول فتبتلي إن البلاء موكل بالمنطق".
وكان إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى يقول: " إني لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله" .
وقال يحيى بن جابر رحمه الله تعالى: " ما عاب رجل رجلا قط بعيب إلا ابتلاه الله بمثل ذلك العيب " وهذا واقع مشاهد، وقد يجده الإنسان في نفسه، فيسخر من شخص في صفة اتصف بها، أو فعلة فعلها، ثم إذا هو يفعل مثل فعلته، ويتخلق بصفته التي عابها منه، أو ضحك بسببها عليه، ويكون ذلك عاجلا أو آجلا، فإن لم تصبه أصابت ولده حتى يراها فيه، وهذا جزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحدا.
إن السخرية بالناس في هذا الزمن الذي كثر فيه الانحراف قد أضحت فنا من الفنون يُسوَّق له في وسائل الإعلام فيما يسمى بفن الفكاهة أو الكوميديا، يتقمص فيه الممثلون شخصيات من يريدون السخرية بهم في هيئاتهم أو طريقة كلامهم أو أفعالهم ليضحكوا الناس في كراسي المسارح أو من وراء الشاشات عليهم.وقد يتعدى ذلك إلى السخرية بالدين وأحكامه وأهله؛ لصد الناس عنه، وتنفيرهم منه، نعوذ بالله تعالى من الضلال.
ولا تسلم الصحف والمجلات من وباء السخرية بالناس فيما يسمى بالكاركتير والمقالات الساخرة التي لا تخلو من غمز أشخاص ولمزهم وإضحاك الناس عليهم، ويزعم أصحاب هذه التوجهات الساخرة أنهم يفعلون ذلك من باب النقد الهادف، ومحاولة الإصلاح، ولا يدري العقلاء كيف يكون الإصلاح في السخرية بالناس؟!
وثمة أشخاص متخصصون في صنع النوادر والنكت على أقوام بالبخل أو قلة المروءة، وعلى آخرين بالجشع والطمع، وعلى غيرهم بالغباء والغفلة، وهكذا دواليك ... لا يتركون قبيلا من الناس، أو بلدا من البلدان إلا أبرزوا بعض عيوب أفراده وعمموها على جميعهم في طرائف ونكت يبثونها على العالمين. وهذا النوع من السخرية لا تكاد أرض تخلو منه، فأهل كل بقعة يخترعون النوادر على جيرانهم، ساخرين بهم، مقللين من شأنهم، وتكثر في أهل القرى والمدن الصغيرة المعاير، حتى لا يعرف الواحد باسمه أو بكنيته بل يعرف بما يعيره الناس به.
وقد يسخر بعض الناس بخدمهم وعمالهم، وقد يسخر المدرس ببعض طلابه، والمدير ببعض موظفيه، وقد تسخر الرعايا براعيها، والرؤساء بشعوبها، وقد يسخر أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وتكون سخريتهم لهم بتقليد أصواتهم، أو محاكاة ما يضحك من أفعالهم، أو إظهار معايبهم ، أو تعييرهم بقول أو فعل أو همز أو لمز أو إشارة أو إيماء أو غير ذلك، أو يسخرون بغيرهم في لسانهم أو جنسهم أو لونهم أو قبائلهم أو حِرَفهم أو عاداتهم أو صفاتهم حتى تغلب السخرية على كثير من الناس فتكون ديدنهم، ولا ينكرها عليهم غيرهم!!
وقد تُخص السخرية بمجالس وبرامج يتمتع فيها روادها ومشاهدوها بالهزء بعباد الله تعالى، والسخرية بهم، والضحك عليهم كما هو الحال في عصرنا هذا!! ومن هنا نفهم جواب النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟! فقال: " الفم والفرج " . وفي حديث معاذ رضي الله عنه قال له النبي عليه الصلاة والسلام: " وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " رواهما الترمذي وصححهما.
فرحم الله عبدا حفظ لسانه عن الهمز واللمز والسخرية بالناس، واشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره " والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ولله در يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى حين قال: " من سلم منه الخلق رضي عنه الرب".
وصلوا وسلموا على نبيكم....
مربع (1) لكن ينقح ويرتب:
اختلف أهل اللغة والتفسير في معنى الهمز واللمز والفرق بينهما:
لسان العرب - ابن منظور ج5/ص426
الهماز و الهمزة الذي يخلف الناس من ورائهم ويأكل لحومهم وهو مثل العيبة يكون ذلك بالشدق والعين والرأس الليث الهماز و الهمزة الذي يهمز أخاه في قفاه من خلفه واللمز في الاستقبال
المفردات في غريب القرآن - الأصفهاني ج1/ص454
لمز اللمز الاغتياب وتتبع المعاب يقال لمزه يلمزه ويلمزه قال تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات - الذين يلمزون المطوعين - ولا تلمزوا أنفسكم أي لا تلمزوا الناس فيلمزوكم فتكونوا في حكم من لمز نفسه ورجل لماز ولمزة كثير اللمز قال تعالى ويل لكل همزة لمزة
المفردات في غريب القرآن - الأصفهاني ج1/ص546
وهمز الإنسان اغتيابه
معاني القرآن - النحاس ج3/ص220
يقال لمزه يلمزه إذا عابه ومنه فلان همزة لمزة أي عياب للناس
ويقال اللمزة هو الذي يعيب في سر وإن الهمزة هو الذي يشير بعينيه
وهذا كله يرجع إلى أنه يعيب
زاد المسير - ابن الجوزي ج9/ص227
قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة اختلفوا في الهمزة واللمزة هل هما بمعنى واحد أم مختلفان على قولين
أحدهما أنهما مختلفان ثم فيهما سبعة أقوال
أحدها أن الهمزة المغتاب واللمزة العياب قاله ابن عباس
والثاني أن الهمزة الذي يهمز الإنسان في وجهه واللمزة يلمزه إذا أدبر عنه قاله الحسن وعطاء وأبو العالية
والثالث أن الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في أنساب الناس قاله مجاهد
زاد المسير - ابن الجوزي ج9/ص228
والرابع أن الهمزة بالعين واللمزة باللسان قاله قتادة
والخامس أن الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمزة الذي يلمزهم بلسانه قاله ابن زيد
والسادس أن الهمزة الذي يهمز بلسانه واللمزة الذي يلمز بعينه قاله سفيان الثوري
والسابع أن الهمزة المغتاب واللمزة الطاعن على الإنسان في وجهه قاله مقاتل
والقول الثاني أن الهمزة العياب الطعان واللمزة مثله وأصل الهمز واللمز الدفع قاله ابن قتيبة وكذلك قال الزجاج الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويغضهم قال الشاعر
إذا لقيتك عن كره تكاشرني
وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
تفسير ابن كثير ج4/ص549
مكية الهماز بالقول واللماز بالفعل يعني يزدري الناس وينتقص بهم وقد تقدم بيان ذلك في قوله تعالى هماز مشاء بنميم قال بن عباس همزة لمزة طعان معياب وقال الربيع بن أنس الهمزة يهمزه في وجهه واللمزة من خلفه وقال قتادة الهمزة واللمزة لسانه وعينه ويأكل لحوم الناس ويطعن عليهم وقال مجاهد الهمزة باليد والعين واللمزة باللسان وهكذا قال بن زيد وقال مالك عن زيد بن أسلم همزة لحوم الناس
الكشاف - الزمخشري ج4/ص801
الهمز الكسر كالهزم واللمز الطعن يقال لمزه ولهزه طعنه والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم واغتيابهم والطعن فيهم وبناء فعلة يدل على أن ذلك عادة منه قد ضرى بها ونحوهما اللعنة والضحكة قال وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
التفسير الكبير - الرازي ج32/ص87
المسألة الثانية الهمز الكسر قال تعالى هماز مشاء واللمز الطعن والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم والطعن فيهم قال تعالى ولا تلمزوا أنفسكم وبناء فعله يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ونحوهما اللعنة والضحكة وقرىء ويل لكل همزة لمزة بسكون الميم وهي المسخرة التي تأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم وللمفسرين ألفاظا أحدها قال ابن عباس الهمزة المغتاب واللمزة العياب وثانيها قال أبو زيد الهمزة باليد واللمزة باللسان وثالثها قال أبو العالية الهمزة بالمواجهة واللمزة بظهر الغيب ورابعها الهمزة جهرا واللمزة سرا بالحاجب والعين وخامسها الهمزة واللمزة الذي يلقب الناس بما يكرهون وكان الوليد بن المغيرة يفعل ذلك لكنه لا يليق بمنصب الرياسة إنما ذلك من عادة السقاط ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا وقد حكى الحكم بن العاص مشية النبي صلى الله عليه وسلم فنفاه عن المدينة ولعنه وسادسها قال الحسن الهمزة الذي يهمز جليسه يكسر عليه عينه واللمزة الذي يذكر أخاه بالسوء ويعيبه وسابعها عن أبي الجوزاء قال قلت لابن عباس ويل لكل همزة لمزة من هؤلاء الذين يذمهم الله بالويل فقال هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الناعتون للناس بالعيب
واعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب ثم هذا على قسمين فإنه إما أن يكون بالجد كما يكون عند الحسد والحقد وإما أن يكون بالهزل كما يكون عند السخرية والإضحاك وكل واحد من القسمين إما أن يكون في أمر يتعلق بالدين وهو ما يتعلق بالصورة أو المشي أو الجلوس وأنواعه كثيرة وهي غير مضبوطة ثم إظهار العيب في هذه الأقسام الأربعة قد يكون لحاضر وقد يكون لغائب وعلى التقديرين فقد يكون باللفظ وقد يكون بإشارة الرأس والعين وغيرهما وكل ذلك داخل تحت النهي والزجر إنما البحث في أن اللفظ بحسب اللغة موضوع لماذا فما كان اللفظ موضوعا له كان منهيا بحسب اللفظ ومالم يكن اللفظ موضوعا له كان داخلا تحت النهي بحسب القياس الجلي ولما كان الرسول أعظم الناس منصبا في الدين كان الطعن فيه عظيما عند الله فلا جرم قال ويل لكل همزة لمزة
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج16/ص521
قوله و يل لكل همزة لمزة هو الطعان العياب كما قال هماز مشاء بنميم و قال و منهم من يلمزك فى الصدقات و قال الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين و الهمز أشد لأن الهمز الدفع بشدة و منه الهمزة من الحروف و هي نقرة في الحلق و منه و قل رب أعوذ بك من همزات الشياطين و منه قول النبى صلى الله عليه و سلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه و نفخه و نفثه و قال همزه الموتة و هى الصرع فالهمز مثل الطعن لفظا و معنى
و اللمز كالذم و العيب و إنما ذم من يكثر الهمز و اللمز فإن الهمزة و اللمزة هو الذي يفعل ذلك كثيرا و الهمزة و اللمزة
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج16/ص522
الذي يفعل ذلك به كما فى نظائره مثل الضحكة و الضحكة و اللعبة و اللعبة
يرجع ابن القيم وابن عاشور
مسألة: قال الغزالي في الإحياء الجزء : 3 الصفحة : 131-132
وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح وقد سبق ما يذم منه وما يمدح وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به لما فيه من التحقير والتهاون وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم أو على أفعاله إذا كنت مشوشة كالضحك على خطه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته إذا كان قصيرا أو ناقصا لعيب من العيوب فالضحك من جميع
ذلك داخل في السخرية المنهى عنها .اه
تبحث مسائل النكت على الشعوب والأشخاص والبلدان مع هذه المسألة، والنكت التي تتداول في الصحف والكتب والجوالات وغيرها. ويراجع خوارم المروءة لمشهور حسن سلمان، وفي كتب الفقه، وفي الآداب الشرعية وغيرها وممكن مركز الملك فيصل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي