لماذا هذا التسلطُ العظيمُ على المسلمين؟ لماذا يفعل بهم أعداءهم ما يفعلون؟! والإجابة هي: أنَّ بُعدَ المسلمين عن دينهم, وعدم تحقيق كثير منهم العبودية الكاملة لربهم, وإصرارَهم على المعاصي وازديادَهم منها, وتفرُّقَهم وتحزُّبَهم حتى في البلدان التي يخوض فيها المسلمون حرباً ضد أعدائهم كما هو حاصل في الشام والعراق من كثرة راياتهم مع عدم اجتماعهم على أمير واحد...
الحمد لله ذي القوة والجبروت والعظمة والكبرياء والملكوت, القويُّ القاهر, والمعينُ والناصر, له الملك وحده لا شريك له, يبتلي عباده بأنواع الابتلاءات تكفيرا وتمحيصاً, وإيقاظاً وتنبيهاً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, خلق فسوَّى وقدَّر فهدى, وأمر ونهى, وأعزَّ من شاء بحكمته وأذل من شاء, وهو الحكيم القدير, وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيُّه وخليله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما, أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون- واعلموا أنَّ الأمة جسدٌ واحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى, فإذا ما أصيب الجسد في أحد أعضائه فعلى سائر الجسد أن يسعى إلى الدفاع عنه من أن يلج إليه آفاتٌ تزيد عليه الجراح والآلام.
أيها المسلمون: إنَّ الفجائع والرزايا والمحن التي تحلُّ بالأمة في العراق وفي سوريا وفي حلب وفي الموصل وفي اليمن وفي مانيمار وفي ليبيا قد تُدخل القنوط واليأس في قلوب البعض, فيصبحُ منهزماً مرعوباً قانطاً يائساً, وقد نهى الله عن ذلك فقال -تعالى-: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87], وقال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) [يوسف: 110], فإياكم واليأس أو القنوط أو الانهزامية لما ترونه من الجرائم الفظيعة التي يرتكبها الأعداء في حربهم علينا.
عباد الله: إنَّ المصاب عظيم والخطب جلل لما حلَّ بأهلنا في حلب وكذلك الموصل, وما سبقهما من بلدان ومدن, فقد أجرم الأعداء إجراماً عظيماً في مشاهد يعجز المرء عن وصفهما, حرب بالحصار وحرب بالتجويع وحرب بالإعلام وحرب بالفكر, وحرب بالمخدرات, وحرب بالتعذيب وحرب بالأسلحة الفتَّاكة, في حروب قذرة تدلُّ على خبثهم وانسلاخهم إلى الوحشية بعدما خدعوا الشعوب باسم حقوق الإنسان وباسم حقوق المرأة وباسم حقوق الطفل, فأين هي حقوق الإنسان؟! وأين هي حقوق المرأة؟! وأين هي حقوق الطفل عن جرائمهم ومجازرهم التي يرتكبونها على هؤلاء؟!.
أما رأيتم الموتى بالتجويع؟! أما رأيتم قتل الأطفال وتعذيبَهم؟! أما رأيتم قتل الأبرياء الذين لم يخوضوا في الحرب ولم يحملوا سلاحاً في وجه أعدائهم؟! كيف شرَّدوهم وعذَّبوهم واغتصبوا نساءهم؟! هل لكم أن تتصوروا هذه المشاهد أمام أعينكم؟! فما هي حيلتُكم؟! هكذا هم أهلنا في حلب وفي الموصل, لا ذنب لهم, وما قصَدَهم الأعداء في حربهم إلا لأنهم مسلمون مثلكم, فهم لم يحملوا سلاحاً ولم يعتدوا على أحد.
أيها المؤمنون: لسائل أن يسأل: لماذا هذا التسلطُ العظيمُ على المسلمين؟ لماذا يفعل بهم أعداءهم ما يفعلون؟! والإجابة هي: أنَّ بُعدَ المسلمين عن دينهم, وعدم تحقيق كثير منهم العبودية الكاملة لربهم, وإصرارَهم على المعاصي وازديادَهم منها, وتفرُّقَهم وتحزُّبَهم حتى في البلدان التي يخوض فيها المسلمون حرباً ضد أعدائهم كما هو حاصل في الشام والعراق من كثرة راياتهم مع عدم اجتماعهم على أمير واحد, وهذا سببه إما الجهل وإما حُبُّ الرئاسة والطمع فيها, قال -تعالى- آمراً عباده بطاعته وعدمَ التنازع: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
أيها المسلمون: إنَّ الذلة التي أصابت المسلمين إنما هي بسبب ركونهم إلى الدنيا ونسيانهم الآخرة, عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ، وَمَا يَرَى أَحَدُنَا أَنَّهُ أَحَقُّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِآخِرِهِ أَصْبَحْنَا وَالدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَتَبِعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ" (أخرجه الطبراني) وفي رواية عند الإمام أحمد -رحمه الله-: "لَيُلْزِمَنَّكُمُ اللَّهُ مَذَلَّةً فِي أَعْنَاقِكُمْ، ثُمَّ لَا تُنْزَعُ مِنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ".
فعلى المسلمين جميعا أن يتوبوا إلى الله وأن يعملوا بما أبمرهم به لينصرهم على أعدائهم, قال الإمام الألباني -رحمه الله-: "من أهم النصوص المؤيدة لهذا المعنى مما يناسب واقعنا الذي نعيشه تماما حيث وصف الداء والعلاج معا, قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تبايعتم بالعينة, وأخذتم أذناب البقر, ورضيتم بالزرع, وتركتم الجهاد؛ سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".
أيها المسلمون: إنَّ على المسلمين جميعاً أن لا يركنوا إلى أعدائهم, وأن لا يستجدوا بهم في حلِّ قضاياهم, لأنَّ الأعداء لا يحلُّون القضايا بل يزيدونها تعقيداً, كيف لا يكون ذلك منهم وهم سبب الحروب والدمار والثورات والقلاقل, وهم من يُشعل فتيل الحروب فيها, وهم من يمارس أبشع الجرائم في حقِّ إخواننا المستضعفين؟! قال -تعالى-: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113], وقال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب: 1 - 3], أي: تُوكل إليه الأمور، فيقوم بها، وبما هو أصلح للعبد خصوصًا وقد أمره بإلقاء أموره إليه، ووعده، فهناك لا تسأل عن كل أمرٍ يتيسر، وصعبٍ يَسَهُل، وخطوبٍ تهون، وكروبٍ تزول، وأحوالٌ وحوائج تُقضى، وبركاتٌ تنزل، ونقمٌ تُدفع، وشرورٌ تُرفع, قال ذلك الإمام السعدي -رحمه الله-.
أيها المسلمون: هل تظنون أنَّ حلب والموصل هما آخر أهداف الأعداء من الصليبين والصهاينة والروس والمجوس, كلا فما يسقطون بلداً إلا ويقصدون أخرى لإسقاطها.
فالواجب على المسلمين جميعاً أن يقفوا إلى جانب أهلهم في حلب ويناصرونهم بما يستطيعون من قوة؛ لرفع الظلم عنهم وطرد عدوهم, وعليهم أن يتحدوا ويجتمعوا ويعتصموا بحبل الله جميعا, وأن لا يتفرقوا وأن يتوبوا إلى الله ويراجعوا دينهم, ويُصلحوا علاقتهم بربهم, وأن يُعدوا العدة خشية أن يبتدئهم العدو فيغزوهم وهم عنه غافلون, قال -تعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي