يطلع عليكم رجل من أهل الجنة

خالد بن عبدالرحمن الشايع
عناصر الخطبة
  1. شرح حديث: "يطلع عليكم رجل من أهل الجنة" .
  2. بعض الفوائد المستفادة من هذا الحديث .
  3. تذكير المسلم بواجبه تجاه إخوانه المسلمين .

اقتباس

فحَرِيٌّ بالمسلم ألا تمر عليه لحظة من اللحظات إلا وهي مشغولة بعمل صالح يرضاه الله؛ بعمل قلبي أو فعلي أو قولي؛ فكل ذلك مجال رحب للتقرب من رضوان الله -سبحانه وتعالى-، وليكن الإنسان في هذا الحرص أشد من حرص التاجر الذي ينوِّع بضائعه، ويُكثر...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ: فقد ثبت عند الإمام الترمذي -رحمه الله- في جامعه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ قال: "يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة".

وتأملوا -أيها الإخوة في الله- هذه البشارة العظيمة التي جعلت كل واحد في هذا المجلس -بل كل مَن سمع بهذا المجلس- يتمنى أن يكون ذلك الرجل الذي بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة، فإذا بهم يطلع عليهم رجل من الأنصار تَنطِفُ لحيته من الوضوء لتوِّه، قد توضأ وأثَّر ماء الوضوء على وجهه، فجاء وجلس في مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتكرر هذا الأمر، ولَمَّا كان من الغد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "يطلع عليكم رجل من أهل الجنة"، فكان الرجل نفسه في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث؛ فما كان من الصحابة -رضي الله عنهم وكانوا أحرص الناس على الخير-، إلا أن يتطلعوا إلى العمل الذي بلَّغ هذا الرجل هذه المنزلة العظيمة.

نحن في حياتنا الدنيا قد يسمع بعضنا بعضًا أنه سبق إلى فرصة من الفرص، وإلى أمر متميز في معايش هذه الحياة الدنيا؛ فإن من الطبيعي أن يبادر الإنسان إلى هذا الأمر، وبخاصة إذا كان أمرًا عظيمًا ويتحقق بلا مشقة ظاهرة، لكن الصحابة -رضي الله عنهم- كان ميزان الآخرة عندهم أرجح، وكان حرصهم على درجات الدار الآخرة أعظم من حرصهم على أمور الحياة الدنيا.

ولذلك انتدب عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- نفسه للنظر في هذا العمل الذي بُلِّغه هذا الأنصاري -رضي الله عنه وأرضاه-، حتى يبلغ هذه البشارة العظيمة، فذهب إلى هذا الرجل وقال: "إنه كان بيني وبين أبي ملاحاة، فآليتُ ألا أبيت في البيت ثلاثًا"، حتى يتوصل بذلك إلى أن يبيت معه؛ لينظر في عمله وكيف يصنع، فبات عنده ثلاث ليال، فكان لا يَرى منه كثيرَ عملٍ، لم يره متهجدًا في الليل، ولا زائدًا بالعمل في النهار، ولكنه كان في ليله إذا انقلب أو استيقظ من الليل ذكر الله -تعالى-، ولا يزال هذا دَيدنه حتى يكون الصبح، وحتى يخرج الفجر.

فلما انقضت الليالي الثلاث، قال له: يا فلان، إنا كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يطلع عليكم رجل من أهل الجنة"، فكنت أنت ثلاث مرارًا الذي ينال هذه البشارة العظيمة، فأردت أن أنظر ما هو العمل الذي بلَّغك هذه المنزلة؛ فلم أر كثيرَ عملٍ، فقال له: ما هو إلا الذي رأيت؛ يعني: ليس ثمة شيء أُخفيه، وإنما هذه هي حالي في ليلي ونهاري، فلما هَمَّ عبد الله أن ينصرف، ناداه الأنصاري وقال له: ما هو إلا الذي رأيت، وإني أبيت إذ أبيت، وليس في قلبي غش لأحد من المسلمين، ولا أحسد أحدًا على نعمة آتاه الله -تعالى- إياها، قال عبدالله: هذه التي بلَّغتك وهي التي لا نستطيعها.

هذه القصة وهذا الحديث العظيم فيه فوائد عديدة:

أولها وأعظمها: أثر عمل القلب هذا المذكور في الحديث، وأثره في الفوز والنجاة والفلاح، والقرب عند الله -جل وعلا-، إنه عمل عظيم جليل، وهو سلامة القلب من أن يكون فيه حقد على أحد من المسلمين، أو أن يحسد الإنسان أحدًا على نعمة آتاه الله إياها، فهذا المسلك القلبي وهذه العبادة القلبية، وهذا الشعور من المؤمن نحو إخوانه المسلمين، مكانته عظيمة عند الله -جل وعلا-، وله أثر كبير، ولذلك فإن الله -تعالى- يُعظم أجور أصحابه ويرفع درجاتهم.

وإن شئتم -أيها الإخوة في الله- أن تدركوا حاجة الإنسان إلى أن ينظف قلبه من مثل هذه الأمراض والأوضار التي تضر الإنسان في دينه ودنياه، وتُفرِّق بين المسلمين وتباعد بينهم، وتجعلهم شِيَعًا وأحزابًا، فلكم أن تدركوا وتعلموا يقينًا أن الجنة حرام على أحد تحمَّل قلبُه شيئًا من مثل هذا المرض، واقرؤوا إن شئتم قول الله -تعالى-: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].

فأهل الجنة لا يمكن أن يدخلوا الجنة وفي قلب أحد منهم شيء من مثل هذه الأمراض القلبية التي تحمله على حسد أخيه، أو أن يكون فيه غش لأخيه المسلم، ولذلك -كما ثبت في صحيح البخاري- فإن أهل الجنة بعد أن يجاوزوا القنطرة -وهي جسر عظيم يجمع فيه أهل الجنة- بعد أن يجاوزوا الصراط، وقبل أن يدخلوا الجنة؛ قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنهم يحبسون في هذا المكان"؛ يعني يُوقَفون؛ لماذا؟ قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "يَتقاصُّون مظالِمَ كانت بينهم".

هذه المظالم ليست من قبيل الآثام التي تحتاج إلى التطهير؛ إما في الدنيا، أو في أرض المحشر، أو على الصراط، ولكنها أمور خفية ربما لا تترجم إلى أفعال وإلى واقع، ولكنها تبقى ساكنة في القلب؛ فمثل هذه الأمور لا يصلح لأهل الجنة أن يدخلوا وهي لا تزال معهم؛ لأن أهل الجنة فيهم من الطهر الحسي والمعنوي ما يمتنع أن يدخل هؤلاء ولا يزال في قلوبهم مثل هذا الوضر العظيم، ومثل هذا الوسخ القلبي، ولذلك فإنهم يُطهَّرون بأن يُسامح بعضهم بعضًا من هذه الأوضار التي حملتها قلوبهم إبَّان وجودهم في الحياة الدنيا.

أيها الإخوة في الله: ولنتأمل قولَ عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "هذه التي بلغتك، وهي التي لا نستطيعها"، إذًا معنى ذلك أن هذه المنزلة وهذه الدرجة الرفيعة، ليس من السهولة بمكان أن يبلغها الإنسان؛ لأن الإنسان كما أخبر ربنا -سبحانه- عنه: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72]؛ فقد يحمل الشحُّ بعض الناس على أن يكون في قلبه نحو أخيه شيء من حسد أو شيء من النظر إلى نعمة أنعم الله بها عليه، ولذلك قال ربنا -جل وعلا-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [طه:131].

فكثير من الناس تجده يعيش في أنواع من النعم، ولكنه يقفز من هذه النعم المتنوعة ويتناساها؛ لينظر إلى ما أنعم الله به على أحد من الناس، فيرى أنه أُعطي بينما هو محروم، يرى أن ذلك الآخر قد أعطي وأنه هو في نفسه محروم، مع أنه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه وهو في نعم عظيمة لو تأمَّلها وتدبَّرها، ولكن هكذا جبلة الإنسان التي تحمله عليها نفسه الأمَّارة بالسوء، فهو يحتاج إلى أن يقيد هذا الأمر من خلال النفس اللوامة التي تلومه على هذا المسلك المعوج؛ فإنه لو عقل لأدرك أن أنعم الله -جل وعلا- منحة منه سبحانه، يُعطيها من يشاء ويمنعها ممن يشاء، ولا يجوز له بحال من الأحوال أن يحسد أحدًا على نعمة أُوتيها من الله -جل وعلا-؛ لأن المنعم المتفضل هو الله -جل وعلا-، وهو في حال نظره ووجود الحسد في قلبه على شيء من تلك النعم، إنما يعترض على ربه -جل وعلا-.

وفي قصة هذا الرجل الذي بشَّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة من الفوائد أيضًا: حاجتنا في مجتمعاتنا الإسلامية إلى هذا الخلق العظيم والمسلك القويم؛ لأنه عند النظر في أحوالنا في عموم مجتمعاتنا، نجد أن هذه الخصلة -وهي وجود شيء من الشح أو الغش أو الحسد- يكاد ألا يسلم منها أحد من الناس إلا ما شاء الله -جل وعلا-، تجد هذا في بعض الأحيان بين الزملاء في العمل، وربما بين الجيران أو بين الأصحاب، والأقارب والأرحام، أو غير ذلك، والمؤمن الموفق حينما يسمع بنعمة حلَّت بأحد من المسلمين، يفرح وكأنما أُوتيها هو، وحين يسمع ببلوى أو بمصيبة نزلت بأحد من المسلمين، يحزن وكأنما نزلت به هو، ولذلك قال ربنا -جل وعلا- واصفًا ما ينبغي أن يكون عليه أهل الإسلام، ومَن اتصف بالإيمان؛ قال جل وعلا: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة:71].

مقتضى الولاية أن يكون المؤمن فرحًا بكل خير يسوقه الله -جل وعلا- لأخيه المسلم، وأن يكون حزينًا لكل مصيبة تحل بأحد من إخوانه المسلمين.

أيها الإخوة الكرام: ومن الفوائد والعظات العظيمة في قصة هذا الرجل الأنصاري، وبشارة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة: أن أهل الجنة واستحقاقهم لها بفضل الله -جل وعلا-، لا يمكن أن يربط بالمظاهر، فقد يظن بعض الناس أن أحدًا يظهر عليه جانب من التعبد، أو أنه منتسب إلى العلم والتدين، فيقال: هذا من أهل الجنة، أو يقال: هذا أقرب إلى الجنة، ونحو ذلك، ومثل هذه الأمور الله أعلم بها، ولا يمكن أن يحكم لأحد من الناس بجنة أو بنار إلا مَن حكَم الله -تعالى- عليه، أو أخبرنا عنه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فالأمور ليست بالمظاهر والأشكال، ولكنها بالحقائق التي تكنها القلوب، ويطلع عليها رب العباد -جل وعلا-؛ ولذلك ثبت في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأشكالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أشكالكم؛ فالتديُّن والتعبد ليس مظهرًا ولا تزيُّنًا ولا أشكالاً، ولكنها في حقيقة الأمر ما استقر في القلوب وصدَّقته الأعمال، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، ومن هذا أخذ الإمام الحسن البصري -رحمه الله- مقولته العظيمة: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي".

ليس الإيمان الحقيقي بأن يتمنى الإنسان ولا أن يتحلى به بزي أو مظهر، أو نحو ذلك، ولكن الإيمان ما استقر في القلب وصدَّقه العمل.

ومن الفوائد العظيمة التي تضمَّنها هذا الحديث، وهذه القصة التي أخبر بها أنس -رضي الله عنه- في شأن هذا الأنصاري، وما بُشِّر به من الجنة: أن الحاسد بعيد عن رحمة الله -جل وعلا-، وبعيد عن فضله وإحسانه؛ لأن الحاسد طحلب يعيش في المجتمع، لا يسره أن يزداد الخير ولا أن يتنامى، ولكنه ينظر إلى كل نعمة تحل بأحد من المسلمين أنها مصيبة من المصائب؛ فيحزن ويتكدر، ولا يزال ينظر يَمنة ويَسرة ينظر في هذه النعم التي يتفضل الله -تعالى- بها على عباده فيضيق صدره ويحزن قلبه؛ لأنه يرى هذه النعم تتتابع على عباد الله -جل وعلا-، وهو في حقيقة الأمر معترض على ربه قبل أن يكون كارهًا للنعمة التي تنزل بأحد من خلقه سبحانه، ولذلك فإن الواجب على المؤمن أن يَحذر من تسلُّل هذه الصفة إلى نفسه، وأن يربي نفسه على مسلك تطهير القلب من هذه الخصلة الشنيعة، ولذلك أنكر الله -جل وعلا- على هؤلاء: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء:54].

وبيَّن سبحانه ما ينبغي من الاستعاذة من هذه الأنفس القذرة التي تعترض هذه النعم، فقال -جل وعلا-: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق: 5]؛ فمثل هؤلاء لا شك أنهم قد قعدوا بظل طريق من طرق الخير، يكرهون هذه النعم، ويتمنون زوالها عن الناس، وهذا ما عرف به العلماء الحسد، وهو أن يتمنى زوال النعمة عن الغير، وإن لم تصل له هو، فَهَمُّه ألا يتنعم أحد من الناس، وألا ينزل فضل الله بأحد من الخلق، وهذه الخصلة لا تزال تتمادى بالعبد حتى تنهي أعماله، وحتى يضمحل معها أجرُه وثوابه، ولذلك أخبر -عليه الصلاة والسلام- "أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"؛ لأنه -كما تقدم- ذنب عظيم ووزر كبير، لا يقتصر على الخلق، ولكنه ينعكس به الحاسد نحو ربه -جل وعلا-، يكره أنعمه ويعترضها، وكأنما هو المتفضل المنعم -نعوذ بالله من مثل هذه الحال-!

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحْبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ: في قصة هذا الرجل الأنصاري الذي بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه من أهل الجنة، وما كان من حقيقة عمله الذي أخبرنا عنه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، حينما بات عنده الليالي الثلاث، وقال: لم أرَ كثير عمل، فرد عليه هذا الأنصاري قائلاً: إنه كما ترى ليس ثمة شيء أُخفيه، ولكني أبيت إذ أبيت وليس في قلبي غش لأحد من المسلمين، ولا أحسد أحدًا على نعمة آتاه الله إياها.

في ذلك من الفوائد غير ما تقدم أنه ينبغي للمسلم: ألا يحتقر أي عمل صالح يقوم به، وأن يبادر لكل الأعمال الصالحة؛ فإنه لا يدري أي الأعمال الذي يؤذن له به بدخول الجنة.

لا شك أن الأصول واجب على الإنسان أن يحافظ عليها، فهي التي تؤهِّله؛ لئن يكون من أهل الجنة، من إيمانه بربه وإيمانه برسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقيامه بالفرائض والأركان والواجبات، لكن ثمة من الأعمال ما يصل معه الإنسان؛ ليأذن الله -تعالى- له حينها أن يكون من أهل الجنة؛ فلا يزال يحاط بنعمة الله وفضله، ويحفظ من كل ما يبعده عن الجنة، حتى تستقر قدماه في جنات رب العالمين.

فهذا الأنصاري إنما كان العمل الذي وصل به في مرحلة من المراحل لئن يكون من أهل الجنة هو هذه الخصلة القلبية، وهي سلامة قلبه نحو إخوانه المسلمين، وجاء في نصوص الكتاب والسنة ما يُبيِّن أن من الأعمال ما يبلغ به الإنسان الجنة في لحظة من اللحظات، فأنتم تعلمون -أيها الإخوة- من الأحاديث عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما ذكر فيه أن مِن الناس مَن أُدخل الجنة بعمل من الأعمال، أخبر -صلى الله عليه وسلم- على سبيل المثال بالرجل الذي دخل الجنة بسبب إزاحته غُصن شجرة عن طريق المسلمين؛ لئلا لا يُؤذيهم، وأخبر بأن الله غفر لامرأة بَغِيٍّ وأدخلها الجنة في شربة ماء ليست لإنسان، ولكنها لحيوان لكلب؛ كما جاء في الصحيحين.

وأخبر -عليه الصلاة والسلام- عن مثل هذا في أنه ربما حل في لحظة من اللحظات عمل يعمله الإنسان، يكتب الله له به رضوانه، أو قول حتى يقوله؛ كما جاء في الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام- إذ قال: "إن الرجل ليتكلم بالجنة من رضوان الله -تعالى- لا يلقي لها بالًا، يكتب الله له بها رضوانه حتى يلقاه".

فبهذا يعلم -أيها الإخوة الكرام- أن الإنسان لا يستصغر عملًا يعمله يقرِّبه إلى الله -جل وعلا-، فلعله أن يصاحب هذا العمل من الإخلاص لله -جل وعلا- ومراقبته وخشيته ما يأذن الله به بعده بدخول الجنة، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: "ينبغي للمؤمن أن يستكثر من الأعمال الصالحة؛ فإنه لا يدري أي الأعمال يوجب الله له به الجنة"، أو كما قال -رحمه الله-.

فحَرِيٌّ بالمسلم ألا تمر عليه لحظة من اللحظات إلا وهي مشغولة بعمل صالح يرضاه الله؛ بعمل قلبي أو فعلي أو قولي؛ فكل ذلك مجال رحب للتقرب من رضوان الله -سبحانه وتعالى-، وليكن الإنسان في هذا الحرص أشد من حرص التاجر الذي ينوِّع بضائعه، ويُكثر سِلَعَهُ؛ بُغية تكثير المدخلات، وهذا الأمر لا شك أنه أجدر بالملاحظة؛ لأن الإنسان يتوقف عليه مصيره في الدار الآخرة؛ إما سعادة أبدية لا حد لها ولا حصر، وإما الأخرى -نعوذ بالله منها-.

ألا وصلوا وسلموا على نبي الهدى، فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

ومما يذكر -أيها الإخوة- قبل الختام أنه ينبغي للمسلم ألا ينسى إخوانه المسلمين الذين يعيشون أنواعًا من الفتن التي تَعصف بهم؛ حيث انعدام الأمن، وحيث الخوف على الأرواح والأعراض والأموال كما يعيش إخواننا في ليبيا وفي سوريا وفي اليمن؛ فإن حالهم لا يعلم بها إلا الله -جل وعلا-؛ فكم من الخوف والرعب يسود! وكم من الأرواح تُزهق! وكم من الأعراض تُنتهك! وكم من الأموال تُنتهب! وهذا لون من ألوان الفتن التي تجعل الحليم حيران، والتي تجعل الإنسان لا يأمَن على نفسه، ولا يستطيع التفرغ لعبادة ربه -جل وعلا-؛ فإخواننا يخبرون هنالك عن أنهم لا يكادون يطمئنون على أعراضهم من سطوٍ على الأنفس أو على الأموال، أو على الأعراض أو على غير ذلك، قطع للطريق وانعدام للأمن، وغير ذلك مما لا يخفى على الجميع مما تبثه وسائل الإعلام، وما يخفى أكثر وأكثر.

فواجبنا -أيها الإخوة- في الله أن نخلص الدعاء لهم أن يرفع الله عنهم هذه المحن العظيمة، وأن يجعل لهم من الاستقرار ما ينعمون به في التقرب إلى العزيز الغفار -جل وعلا-، هذا من مقتضيات الأخوة الاسلامية والولاية بين المؤمنين، وربنا -جل وعلا- يقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض) [التوبة:71]، ينبغي أن يكون ثمة إحساس بهم وبمصائبهم العظيمة التي حلت بهم، وأقل شيء وهو عظيم جدًّا الدعاء لهم في ظهر الغيب بأن يرفع عنهم هذا البلاء العظيم.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.

اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا.

اللهم اهدِ قلوبهم للخيرات، واجعلهم رحمة على رعاياهم يا رب العالمين.

اللهم أصلح أحوال إخواننا في البلاد المنكوبة في ليبيا وفي سوريا واليمن.

اللهم ارفع ما بهم من الضر والبلاء.

اللهم أمِّن خوفهم، اللهم احقن دماءهم.

اللهم احمِ أعراضهم، اللهم ادفع عنهم كلَّ ضرٍّ وبلاء يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ارحم إخواننا المحتلين في فلسطين، وفي غيرها من البلاد.

اللهم ارفع ما بهم من الضر والبلاء، اللهم عليك بالمحتلين.

اللهم اشدد وطْأتك عليهم، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يا قوي يا عزيز.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.

اللهم بمنِّك وفضلك وإحسانك، لا تَدَعْ لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أصلح لنا أنفسنا وأهلينا وذُرياتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.

اللهم بلِّغنا شهر رمضان على أحسن حال، ووفِّقنا لما تحبه يا رحمن.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180-182].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي