أجور عظيمة على أعمال في الظاهر وبادئ الرأي سهلة ليس فيها كبير عناء، وكلفة وشقاء، ولكن الأمر ليس كذلك، وإنما عظم جزاء مع عظم البلاء؛ فالذي رتب هذه الأجور يعلم حقيقة هذه الأعمال وما وراءها وتبعاتها فهو وحي يوحى -عليه الصلاة والسلام-، وما ينطق عن الهوى....
إن الحمد لله...
أما بعد:
معاشر الإخوة: الدنيا دار ابتلاء (ولكن ليبلو بعضكم ببعض) [محمد:4]، وهي دار كبد وعناء (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]؛ من أجل ذلك جعل الله من صفات المؤمنين التواصي والتعاون (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد:18]، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة:2].
وإنما تطيب الحياة وتسهل مصالحها وتتحقق مقاصدها وتنجز مشاغلها بمثل هذه المشاعر العظيمة، والأرواح المتكاملة، والأيادي المتساعدة؛ فلا تخلو بيوت كثير من الناس من باب من أبواب الجنان، ومدخل إلى تحصيل الخير والفور برضا الرحمن.
فليكن حديثنا حول هذا! أجورنا في بيوتنا!
نعم!
تأمل معي طائفة من أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم-
عن سهل بن سعد، قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، وأشار بالسبَّابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا"؛ (أخرجه البخاري)، وفي رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وقال بأصبعيه السبابة والوسطى".
وعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل"؛ (رواه مسلم).
وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته، كن له حجابا من النار يوم القيامة"؛ (رواه ابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو -وضم أصابعه-"؛ (رواه مسلم).
وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ"؛ (متفق عليه).
أجور عظيمة على أعمال في الظاهر وبادئ الرأي سهلة ليس فيها كبير عناء، وكلفة وشقاء، ولكن الأمر ليس كذلك، وإنما عظم جزاء مع عظم البلاء؛ فالذي رتب هذه الأجور يعلم حقيقة هذه الأعمال وما وراءها وتبعاتها فهو وحي يوحى -عليه الصلاة والسلام-، وما ينطق عن الهوى.
فحقيقة كفالة اليتيم والقيامِ على الأراملِ والمساكينِ، ورعايةِ البنات حقيقته رباط وصبر، وملاحظة مستمرة تستدعى ممن اختارهم الله لهذه الأعمال حياة خاصة، متكيفة مع حال هؤلاء فهو رباط لا يدري متى تنقضي مدته؟ وجهد بدني! وأكلف منه الجهد الذهني لا يكاد يفرغ منه.
فحق هؤلاء علينا أن يواسوا بكلمات تعينهم على استمرارهم، وتجدد نشاطهم، وتزيح شيئاً من الملل الذي قد يتسرب إلى نفوسهم (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28].
لذا جاءت النصوص بموفور الأجور للقائمين على هؤلاء، ولم تذكر أجوراً لليتامى ولا للأرامل والمساكين أنفسهم ولا شك أن لهم أجور الصابرين، وتنالهم رحمة أرحم الراحمين.
أيها الإخوة: الأعمال المتعدية لها حظوة في ميزان الشرع، والنفع الذي يصل منك لغيرك أكرم الله منزلته، وأعظم مثوبته؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه -ولو شاء أن يمضيه أمضاه- ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة -حتى يثبتها له- أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام"؛ (رواه ابن أبي الدنيا في كتاب: قضاء الحوائج، والطبراني وغيرهما، وحسنه الألباني).
والنصوص في أمثال هذا كثيرة ولو لم يكن منها إلا أنها إحسان إلى الخلق و (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56].
إذن معاشر الإخوة: حديثنا إلى قوم هم بيننا وهم مجاهدون فيها يبذلون، وجمعوا مع جهادهم الرباط حيث حبسوا أنفسهم لغيرهم؛ فأوقاتهم ليسوا أحراراً فيها ينازعهم من جعل الله حاجتهم ورعايتهم إليهم فهم يعيشون تكليفاً بتشريف؛ فما أعظم أجرهم وهم يرون منة الله عليهم بهذه المسؤلية، حين كلفهم وأعظم أجرهم.
فربما تطلَّبت هذه الرعاية والتكليف أسفاراً متوالية، وربما أحوجتهم في طور آخر إلى لزوم بيوتهم، وعدم المغادرة منها فهم رجال الطوارئ؛ لأن من تحت أيديهم قد يحتاجهم بما لا يحتمله الانتظار فضلاً عن التأجيل!
أرأيتم عظم التكليف، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:68]!
فيامن اختارهم الله لهذه الأمور العظام، فهم رعاة لأيتام، وقائمون على أرامل ومساكين، ومسؤولون عن بنيات لهم في نفقة وتربية وتعليم في زمن تزل فيه أقدام بعد ثبوتها، ويكثر فيه الساقطون "وما تركت بعد فتنة أضر على الرجال من النساء" قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأنتم كذلك يامن هم قائمون على كبار السن من الآباء والأمهات وعموم القرابات أو غيرهم، ويا من هم يرافقون المرضى لا يدرون ما الله صانع بهم، ارتبط نومكم بنومهم، وأكلكم بأكلهم إن نشطوا نشطتم، وإن انتكست صحتهم قلقتم وأشفقتم.
وقد قيل: إن المريض الحقيقي هو مرافق المريض؛ فهو يعتل بعلته، ويبرأ لبرئه!
ولما مرضت بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن يبقى عندها ليُمرضها، ويقوم على شؤنها، وتخلف عن غزوة بدر الكبرى، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وقسم له سهمه من الغنيمة كأحد الغزاة الحاضرين"؛ (رواه البخاري).
هكذا المواساة لمن ربط نفسه لغيره، وهكذا فهم الصحابة هذه الموازنة العظيمة بين الأعمال؛ فالعمل المقدم ما قدمه الشرع، وإن فاتك بعض محبوباتك، وآثرت عليه شيئاً من أعمالك، وفي صحيح مسلم قال سعيد بن المسيب: "وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها"؛ فلله درهم؟
هل يعي هذا شباب يضربون الأرض طولا وعرضا ليأنسوا بزملائهم، وهل يتنبه له من أوقدوا نيرانهم يدافعون شدة البرد على كثبان الرمال وقد خلفوا أباً شيخاً كبيراً، أو أما عجوزاً؟!
ألا إن التوفيق من الله، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:35]!
الحمد لله...
أما بعد: فإن وجود كبير سن في البيت لا يخدم نفسه، وهو ينظر في أموره كلها إلى غيره، وربما يكون مع ضعفه في بدنه ضعيفاً في عقله بلغ الطور الذي قال عنه (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) [الحج:4]
ومثل هؤلاء ذوو الإعاقة الحركية فهو لا يصلح ثوبه ولا يهش الذباب عن وجهه، وكذا المتخلفون عقليا، ومن قدر الله عليهم أمراضاً مستعصية، وأصحاب مرض التوحد، وانفصام الشخصية، والوساوس القهرية، والعلل النفسية.. كل هؤلاء هم من أسباب نزول الرحمة في البيت، وأن الله يدفع السوء عن أهله.
وهم من أسباب والرزق في البيت بل في المجتمع كله؛ كما قال عليه السلام: "إنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم".
فاحذر الضجر منهم والتأفف من حالك أو من حالهم؛ فهذا من مداخل الشيطان يذهب على إثرها الأجر كله أو كثير منه أو حتى شيء منه!
وأشعِرْ ذوي البيت من الأهل والأولاد أن وجودهم بركة البيت وخير لأفراده، وشجعهم على التنافس في خدمتهم، وكسب الأجر عن طريقهم؛ فالتعامل مع هؤلاء يكسب المتعامل رحمة ورقة، ويربيه على خلق التواضع والإيثار، ويذهب عن النفوس أشرها وبطرها.. والمستعان على هذا كله هو الله وعليه التكلان!
ولا تدري لعل دعوة من هذا العاجز وأنت تخدمه تسعد بها في الدنيا والآخرة، بل لعل عملا منك أو قولا لهؤلاء يقع موقع الرضا من الله؛ فيذلل الله لك به صعاب الدنيا، ويكشف به عنك كرب الآخرة.
بل أنت -أيها المباشر خدمة هؤلاء الضعفاء- ترى ضعف من تحت يدك، وترى ضعفك تجاهه وهو يعاني مرضاً أو تعباً، وليس بيدك له حول ولا قوة، فتلهج بدعوة صادقة اجتمع عليها قلبك، وصدق فيها لسانك فتكون بوابة قرب من الله، وتوفيقاً من عنده!
فيا معاشر الغافلين، أو المتغافلين: هذه ميادين التنافس في بيوتكم وقريبة من دياركم، وما فاتك بعملك احذر أن يفوتك بنيتك الصادقة وأنك لو قدرت لعملت، ولو تيسر لك لبذلت والجزاء من جنس العمل.
والقائمون على اللجان الخيرية في دور الأيتام والمعاقين، والمعلمون في محاضن المتخلفين فكرياً هم من أول من ترجى لهم رحمةُ الله وعظمُ مثوبته فـ"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة:7] و"إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أُوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله".
اللهم ألن قلوبنا، واملأها رحمة لعبادك المؤمنين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي