المهاجر إلى الله؛ من يستحي من الله في جميع أحواله، حياء من يعلم أن الله مطلع عليه وناظر إليه؛ فحفظ جوارحه ومنعها من الحرام، واشتغل بطاعة خالقه ومولاه، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "استحيوا من الله حق...
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أيها المسلمون: ها نحن قد ودعنا عاماً مضى وفات، واستقبلنا عاماً جديداً، والمرء في سير دائم إلى الدار الآخرة؛ فكل يوم وكل شهر وكل عام يفوت يدني العباد ويقربهم من أجَلهم المحتوم، الذي لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34].
وإذا كان من طبيعة النفس أن تميل إلى شهوات الدنيا ونزواتها ولو كان فيها هلاكها؛ فلابد من ترويضها وكبح جماحها والأخذ بزمامها إلى حيث نجاتها وفلاحها، ولا يتم ذلك إلا بهجر ما تشتهيه النفس وتهواه من ملذات الدنيا وشهواتها من سيء الفعال وقبيح الخصال، إلى ما يحبه الله ويرضاه من جليل الأعمال وجميل الخصال، وهذا ما ينبغي أن يتعلمه العباد من دروس الهجرة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام-؛ فكم من عام مضى ونحن نتذكر فيه هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما تحمله من معان ودلالات؛ فهل تغيرت نفوسنا واستقامت على طاعة الله ورسوله، وهجرت مالا يُرضِي اللهَ ورسولَه؟، وتلك هي الهجرة إلى الله ورسوله، عمل بالطاعات والقربات، وهجر للمعاصي والسيئات.
وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه"؛ فالمهاجر إلى الله ورسوله؛ هو الذي أخذ بزمام نفسه فعمل بطاعة الله، وطاعة رسول الله، وابتعد عن معصية الله، ومعصية رسول الله، قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء: 13، 14]، وقال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب: 36].
والمهاجر إلى الله تعالى؛ من تغلبَ على نفسه وهواه؛ فهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته سبحانه، ومن عبودية غيره إلى عبودية الله وحده، ومن خوف غير الله ورجائه إلى خوف الله ورجائه وحده، ومن دعاء غير الله وسؤاله والخضوع له إلى دعاء الله وسؤاله والخضوع له، وهذا هو الفرار إلى الله، الذي دعا الله تعالى إليه عباده؛ فقال سبحانه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)[الذاريات: 50].
والمهاجر إلى الله؛ من تعلقت نفسه بالله دون أحد سواه، ومن يرجو الله ولا يرجو أحدا سواه، ومن يسأل الله ولا يسأل أحدا سواه؛ فهو القائل -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].
والمهاجر إلى الله؛ من رَوّض نفسه على حب كلام الله؛ فأقبل على كتاب الله -تعالى-، يتلوه ويتدبره، يتخلق بأخلاقه ويتأدب بآدابه، ويلتزم بأحكامه، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[إبراهيم: 1]، وقال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص:29].
المهاجر إلى الله؛ من يستحي من الله في جميع أحواله، حياء من يعلم أن الله مطلع عليه وناظر إليه؛ فحفظ جوارحه ومنعها من الحرام، واشتغل بطاعة خالقه ومولاه، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "استحيوا من الله حق الحياء". قال: قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله، قال: "ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" (صححه الألباني).
والمهاجر إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: من أخذ بسنته واقتفى أثره واهتدى بهديه وتخلق بأخلاقه؛ فقد قال ربنا -سبحانه-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7]، وقال -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
والمهاجر إلى رسول الله؛ من امتلأ قلبه محبة له وشوقا إلى رؤيته وصحبته، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مِن أشَدّ أمتي لي حُبّا: ناسٌ يكونون بعدي، يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله" (رواه مسلم).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" (متفق عليه).
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حبه، وحب رسوله، وحب كل عمله يُرضيه..
الحمد لله ..
عباد الله: المهاجر إلى الله ورسوله؛ هو الذي استطاع أن يحمل نفسه على هجر الذنوب والمعاصي.
أخي الكريم؛ لئن فاتك ثواب الهجرة إلى الله ورسوله في زمن النبوة؛ فقد شرع الله لك هجرة لا تنقطع ما دمت في الدنيا، فيها الثواب العظيم، والأجر الكبير؛ فاهجر المعصية إلى الطاعة، واهجر التفريط إلى الاستقامة، واهجر الكسل والخمول إلى الجد والعمل والاجتهاد فيما يرضي الله -سبحانه-، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، وروى البخاري في صحيح عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- ما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
وعن فضالة بن عبيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في حجة الوداع: "ألا أخبركم بالمؤمن، من أمنه الناس على أموالهم، وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه، ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب" (أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني).
وربنا -سبحانه وتعالى- يقول: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)[المدثر: 5]، أي: اترك كل قبيح مُسْتَقذَر من سَيّءِ الأقوال والأفعال والأخلاق؛ فما من قبيح من الأفعال أو الأقوال أو الأخلاق إلا وقد نهى الله عنه ورسوله؛ قال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33].
وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، وإياكم والشح؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الشح، أمرهم بالقطيعة؛ فقطعوا أرحامهم، وأمرهم بالفجور، ففجروا، وأمرهم بالبخل، فبخلوا"، فقال رجل: يا رسول الله، وأي الإسلام أفضل؟ قال: "أن يسلم المسلمون من لسانك، ويدك"، قال: يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل، قال: "أن تهجر ما كره ربك"، قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الهجرة هجرتان، هجرة الحاضر، وهجرة البادي، أما البادي، فيجيب إذا دعي، ويطيع إذا أمر، وأما الحاضر، فهو أعظمهما بلية، وأعظمهما أجرا" (البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
إخوتي الكرام: كيف يهون على النفس هجر الذنوب والآثام؟ الجواب من عند العالم الصالح: إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-؛ "فقد جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- تعالى؛ فقال له: يا إبراهيم! إني مسرف على نفسي؛ فاعرض علي ما يكون لها زاجرا؛ فقال له إبراهيم: تذكر خمساً؛ فإن عملت بها لن تقع في معصية الله، وإن زلت قدمك سرعان ما ستتوب إلى الله -جل وعلا-، قال: هاتها يا إبراهيم".
"قال إبراهيم: أما الأولى؛ فإذا أردت أن تعصي الله؛ فلا تأكل من رزقه، قال: كيف ذلك والأرزاق كلها بيد الله؟ قال: فهل يجدُر بك أن تعصي الله وأنت تأكل من رزقه؟ قال: يرحمك الله يا إبراهيم، هات الثانية".
"قال: أما الثانية؛ فإذا أردت أن تعصي الله فابحث عن مكان ليس في مُلكه فاعصه عليه، قال: وكيف ذلك يا إبراهيم؟ والمُلك مُلكه، والأرض أرضه، والسماء سماؤه؟! قال: ألا تستحي أن تعصي الملك في مملكته؟ قال: يرحمك الله، هات الثالثة".
قال: أما الثالثة؛ فإذا أردت أن تعصي الله فابحث عن مكان لا يراك الله فيه، قال: وكيف ذلك، والله يسمع ويرى؟! قال: ألا تستحي أن تعصي الله وأنت على يقين أنه يراك؟! قال: يرحمك الله، هات الرابعة.
قال: أما الرابعة؛ فإذا جاءك ملك الموت وأراد أن يقبض روحك، فقل له: أنظِرني ساعة حتى أتوب إلى الله وأدخل في طاعته، قال: كيف ذلك يا إبراهيم؟ والله -جل وعلا- يقول: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]؟ قال: فهل يَجدُر بك وأنت تعلم ذلك أن تُسَوّف التوبة وتؤخر عمل الطاعات؟! قال: يرحمك الله هات الخامسة.
قال: أما الخامسة؛ فإذا جاءتك زبانية جهنم لتأخذك إلى جهنم فإياك أن تذهب معهم؛ فبَكى الرجلُ، وعاهَدَ الله -عز وجل- على الطاعة.
وأنت يا عبد الله؛ أما آنَ لك أن تتخلى عن الذنوب والمعاصي، وتعاهد الله تعالى على الطاعة؟ أما آنَ لك أن تقف مع نفسك لتتذكر ذنوبك وتبكي على خطيئتك، وتعود إلى ربك؟
دَعْ عنك ما قد مضى في زمن الصبا****واذكر ذنوبك وابكها يا مذنبُ
لم ينسه الملكان حين نسيته****بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعبُ
والروح منك وديعةٌ أُودعتها****ستردها بالرغم منك وتسلبُ
وغرور دنياكَ التي تسعى لها****دارٌ حقيقتها متاعٌ يذهبُ
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى كل خير، وأن يعصمنا من كل ضير.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا يا مولانا من عبادك الصالحين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصَلِّ اللهم وسَلّمْ وباركْ على سيّدنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي