بعد وفاة الميت وتركه لوصيته يلزم أهله -وخاصة من أسند إليهم تنفيذ الوصية- المبادرة إلى التنفيذ، وتوزيع الحقوق وقضاء الديون وإعطاء كل ذي حق حقه، والواقع اليوم أن بعض الأوصياء لا يبالون بتنفيذ ما أسند إليهم في الوصية؛ فمنهم من يتأخر في تنفيذها، ومنهم من لا يبالي بها، ومنهم من...
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن التقوى خير زاد للقاء الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: لقد امتن الله على الإنسان في حياته بحرية التصرف في ماله بيعاً وشراءً، وإجارة ورهناً، ووقفاً وهبةً ووصية على حسب الحدود الشرعية التي بينها الشارع الحكيم، وهكذا بعد الممات حفظ الله له المال بأن تولى قَسْمه بنفسه على أولى الناس به، ففرض المواريث وقسمها وأوضحها في عدة آيات من كتابه العزيز، قال تعالى: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:11].
وأخبر سبحانه أن هذه حدوده التي حدها لهم؛ فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [البقرة:229].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"؛ (رواه الترمذي، وقال الألباني: حديث حسن صحيح).
فلا يجوز لأحد أن يوصي قبل وفاته لبعض ورثته دون بعض؛ لا بشيء من أعيان المال، ولا بشيء من منافعه وغلاته، وهذا من الجور المنهي عنه في الوصية، ولا يجوز تنفيذها إلا بإجازة بقية الورثة.
وقد أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وأن الوصية للوارث حرام، وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"؛ (متفق عليه).
ومن أوصى بغير ما شرع الله فقد عمل عملاً يوجب له النار؛ فلنحذر من ذلك.
عباد الله: لقد اعتاد بعض الناس في وصيته بوقف شيء من ماله وتخصيصه ببعض ذريته من بين سائر الورثة، والوصية وقف شيء من المال على بعض الورثة داخل في قوله -صلى الله عليه وسلم- "لا وصية لوارث"؛ فإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض الورثة بشيء لمدة مؤقتة فكذلك لا يجوز أن يوصي لهم بهذا الشيء دائما وأبدا، وإذا كان الله تعالى من فوق سبع سماوات قد فرض لكل وارث حقه ونصيبه؛ فكيف يجوز للموصي أن يوصي لأحد من ذريته أو أقاربه بوقف شيء من ماله عليهم؟! وهذا يعتبر تعدياً على حدود الله، واقتطاعا من حق بعض الورثة لورثة آخرين، وهذا من الجور في الوصية والمضارة للورثة فيكون ذلك حراما؛ فإن العبد ليس له أن يتصرف في ماله بمقتضى هواه، بل عليه أن يوافق الشرع ولا يخرج عن العدل الذي أمر به.
ومعلوم أن هذا العمل فيه مفاسد كثيرة، ومن ذلك:
أولا: الوقوع في الظلم والجور؛ فالظلم واقع على باقي الورثة في حرمانهم حقهم.
ثانيا: التعدي على حقوق الله.
ثالثا: حصول العداوة والبغضاء بين الورثة من خصومة وتقاطع وتشاتم ومرافعات إلى القضاء بسبب هذا الجور في الوصية.
ولو جعل الموصي هذا الوقف في أعمال برٍّ متنوعة لكان أنفع للواقف وأبرأ لذمته، وأرفق بالورثة. وعلى ذلك فيجب على من فعل ذلك أن يبطل هذه الوصية، وأن يرجع عنها حتى وإن كان قد كتبها؛ حتى تبرأ ذمته، ولا يحصل من عمله مفاسد تعود عليه وعلى ورثته من بعده.
وهذا العمل من الأمانة التي أمر الله بها عباده في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك"؛ (أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني في المشكاة).
عباد الله: وليس ذلك نهياً عن الوقف بكل حال -معاذ الله-، إنما النهى عن وقف يتضمن الحيف والوصية لبعض الورثة دون بعض، أما الوقف العادل الذي يبتغي به وجه الله فهو مأمور به إلا أن يكون مفضيا حتما أو غالبا لمفاسد أكبر من مصالحه.
عباد الله: والوصايا على أنواع، وهي:
أولاً: الوصية الواجبة: وهي تجب على من كان له مال أو عليه دين لا بينة له، أو له ورثة من الأقربين من الفقراء ولهم حق في الإرث لقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة:180].
ثانياً: الوصية المستحبة: وهي التي يكون الموصي فيها ذا مال وورثته أغنياء وكذا أقاربه لا حاجة لهم بالمال فهنا يستحب له الوصية بما يراه نفعاً له بعد موته.
ثالثاً: الوصية المكروهة: وهي التي يكون فيها مال الموصي قليلاً فيوقف على نفسه الثلث وورثته محتاجون، وهذا فيه تضييق على الورثة، لذا قال -صلى الله عليه وسلم- لسعد رضي الله عنه "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"؛ (متفق عليه).
رابعاً: الوصية المحرمة: وهي التي أوصى فيها الموصي بما يزيد عن الثلث، وأيضاً إذا كانت لوارث دون الآخرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:180-182].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الحكيم في شأنه، العظيم في تدبيره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم بأمور خلقه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الهادي إلى جنته ورضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الوصية لها شروط، منها:
أن تكون مكتوبة بيد الموصي: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"؛ (متفق عليه).
ومنها: الإشهاد، هذا إذا كان الموصي أميًّا لا يكتب، وإن كان يكتب وأشهد على وصيته فهذا أفضل وفيه خير وزيادة توثيق وإثبات للوصية.
عباد الله: بعد وفاة الميت وتركه لوصيته يلزم أهله -وخاصة من أسند إليهم تنفيذ الوصية- المبادرة إلى التنفيذ، وتوزيع الحقوق وقضاء الديون وإعطاء كل ذي حق حقه، والواقع اليوم أن بعض الأوصياء لا يبالون بتنفيذ ما أسند إليهم في الوصية؛ فمنهم من يتأخر في تنفيذها، ومنهم من لا يبالي بها، ومنهم من يُسَوِّف على أصحاب الحقوق، ومنهم من يقتطع من حقوق الورثة ما لا يجوز له، وهكذا تعتري الوصية بعض الأعراض الخطيرة التي تؤثر سلباً على الموصي، وعلى أصحاب الحقوق -من الورثة والدائنين، وعلى الموصى له أيضاً لما تحمَّله من أمانة- تنفيذ الوصية، وكم سمعنا عن أشخاص يأخذون الزكاة وأموالهم محجوزة من قبل الوصي لم تقسم، وهذا داخل في عدم تنفيذ الوصية.
لذا يجب على الموصى له الشروع في تنفيذ الوصية ما دام أن صاحبها قد توفي، فيقوم بتوزيع الحقوق، فيبدأ أولاً:
* بشراء حاجات الميت التي يحتاجها عند دفنه من كفن وغيره.
* أن يقوم بسداد الديون وأداء الحقوق التي على الموصي لأصحابها بعد تأكد الموصى له من ذلك عن طريق ما ثبت في الوصية، أو تقديم ما يثبت ذلك من الدائنين، لأنه ربما يكون الموصي قد غفل أو نسي هذا الدين، فيجب على الموصى له أداءه بعد التأكد والتثبت.
* القيام بقسمة المواريث كما أمر بذلك الموصي إلا أن يكون هناك إجحاف أو ظلم فيها، فيرجع في ذلك إلى ما شرعه الله تعالى في قسمتها ولا يُنظر لما أمر به ما دام أنه مخالف لما شرعه الله تعالى.
* المبادرة إلى تنفيذ وصية الموصي بما أوصى به من الثلث أو أقل منه من أوقاف وغيرها في وجوه البر العامة كي يتم حصول النفع له، وإذا رأى الموصى له المصلحة في تأخير بعض الوقف لمصلحة الموصي كي يزيد الانتفاع بها فلا بأس في ذلك.
عباد الله: إن الوصية الواجبة على كل مسلم يجب أن تحتوي على بعض الأمور الهامة وقد أهملها الكثير من الناس، ومن ذلك:
أولا: وصية أهل الموصي بتقوى الله، وتوحيده، والتمسك بطاعته، لما ورد عن يعقوب عليه السلام من وصية أبنائه في قوله تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133].
ثانيا: إبراء ذمة الموصي مما يحدث بعد وفاته من أمور الجاهلية من أهله وذويه.
ثالثا: التوصية بعمل خيري ينتفع به الموصي بعد وفاته لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"؛ (رواه مسلم).
رابعا: حماية أموال الموصي ورعاية حقوق الورثة وخاصة القصَّر منهم والمحتاجين.
خامسا: إبراء الذمة من تبعات المال إذا تُرك بغير توجيه له.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يعيننا على كل خير، وأن يغفر لنا التقصير والزلل، وأن يوفقنا لكل عمل يرضيه عنا إنه جواد كريم.
عباد الله: اعلموا رحمكم الله أن ولي أمرنا أمر بصلاة الاستسقاء يوم الاثنين القادم، فاحرصوا على أدائها، واسألوا ربكم من فضله، وألحوا بالدعاء لعل الله أن يرحمنا ويلطف بنا، وينزل علينا الغيث.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله فقد أمركم الله في كتابه بذلك فقال جل في علاه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي