التحذير من الافتراق في الدين

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. خطر الافتراق في الدين .
  2. الدين واحد لا يتجزأ .
  3. من صفات اليهود –مع أنهم أمة علم- الأخذ ببعض الكتاب وترك بعضه .
  4. داء اليهود أصابنا وعلاج هذا الداء .
  5. سببا الافتراق في الدين .
  6. الفتاوى الشاذة ومواقف العامة منها .
  7. عصمة أمتنا من الإجماع على ضلالة وحسد الغرب لنا .
  8. أثر المنهج الأثري على العالم الإسلامي وتحركات الغرب ضده .
  9. إعلامنا ودعمهم لمن ينتهج هذا المنهج الفاسد .

اقتباس

إن الإعلام المفسد استطاع بمكره وحرفيته أن يوقع بعض المنتسبين للعلم والدعوة في مصيدة تفرقة الدين وتجزئته؛ إذ باتت القنوات الفضائية التي تحارب الفضيلة، وتدعم الرذيلة، وتقف صفاً واحداً مع أعداء الإسلام في القضايا المصيرية.. باتت هذه القنوات تبرز مشايخ التيسير في أبهى حلة، وتنفق بسخاء على برامجهم التي ينحرون فيها كثيراً من الأحكام الشرعية؛ تمسكاً بقول مهجور أو مذهب شاذ ..

 

 

 

 

الحمد لله العليم الحكيم؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأبان الطريق للسالكين، وحذر عباده من سبل الغاوين، وأقام حجته على الناس أجمعين، نحمده حمداً كثيراً، ونشكره شكراً مزيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ دعا إلى الملة، وأوضح المحجة، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم، واثبتوا على الحق من ربكم، واصبروا على دينه وصابروا ورابطوا؛ فإنه لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إلا الذي بَعْدَهُ شَرٌّ منه حتى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

أيها الناس: من أعظم أنواع الافتراق، وأشدها فتكاً بالناس الافتراق في الدين؛ لأن الافتراق فيه يؤدي إلى افتراق القلوب والأبدان، بل يؤدي إلى الفتنة والعداوة والبغضاء والاقتتال.

وحين أراد الله تعالى هدايتنا ونجاتنا بعث إلينا نبياً واحداً، وأنزل عليه كتاباً واحداً، وجعل لنا ديناً واحداً وقبلة واحدة؛ لتجتمع القلوب على عبادة رب واحد لا شريك له، بعد أن كانت العرب تعبد بالباطل آلهة كثيرة؛ ولذا استنكروا ذلك وقالوا (أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص:5].

فكانت أمة الإسلام أمة واحدة بعبادتها لربها، واتباعها لنبيها، وقراءتها لكتابها، واستقبالها لقبلتها (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:92]. أي: إن هذه شريعتكم شريعة واحدة، ودينكم دين واحد، وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين.

ومن استقرأ القرآن الكريم وجد آياته تكرس في وجدان المسلم الانتماء إلى الأمة الواحدة، والاجتماع على الدين، وتحذر من الفرقة والاختلاف، وتبين أن أعظم سبب للفرقة والاختلاف هو التخلي عن الدين كله أو شيء منه. أما إذا تمسك أفراد الأمة كلهم بمحكمات الدين وفرائضه فلن تقع فيهم فرقة أبداً، ولن يظفر أعداؤهم منهم بشيء البتة، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؛ إذ تحطمت قوة المشركين، ومكائد اليهود، ودسائس المنافقين على صخرة الاجتماع على الإيمان والتقوى.

وكل آية ذكر فيها الاجتماع، وحذر فيها من الافتراق نجد فيها ذكراً للدين ومفرداته، وهذا يؤكد أن كل اجتماع في الأمة إنما سببه التمسك بالدين، كما أن كل فرقة سببها ترك شيء من الدين (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103] وحبل الله هو دينه وكتابه واجتماع الأمة عليه.

وفي آية أخرى يوصينا بذلك ربنا العليم الحكيم؛ وما أعظمها من وصية لو وعيناها وعملنا بها (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153] فأمر باتباع صراطه وهو دينه، ونهى عن تركه كله أو شيء منه إلى سبل أخرى فيقع الافتراق عن سبيله، ومن ثم تفترق الأمة بأجمعها.

ولعظيم هذه الوصية الربانية كررت في موضع آخر من كتاب الله تعالى مع الإخبار أنها وصية الله تعالى لنا وللأمم التي كانت قبلنا (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشُّورى:13] تأملوا عظم هذه الوصية الربانية التي وصى بها ربنا سبحانه أولى العزم نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ثم وصى به محمداً صلى الله عليه وسلم، وصاهم أجمعين بقوله تعالى (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشُّورى:13] فهل ترونها وصية هينة وقد كررت في القرآن، وتتابعت وصية الله تعالى بها للبشر أمة بعد أمة، ونبيا في إثر نبي؟!

ثم أكدت هذه الوصية العظيمة بتهديد من أخل بها، وذلك بسلبه شرف الانتماء للنبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام:159] أي: أنت منهم بريء وهم بريئون منك؛ وما أعظم خسارة من بريء منه النبي صلى الله عليه وسلم!! قالت أم سلمة رضي الله عنها: "لِيَتَقِيَنَّ امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء".

فبان بهذه الوصية العظيمة أن تفريق الدين وتجزئته بأخذ بعضه وترك بعضه سبب لافتراق الأمة، وهو سبب افتراق أمة بني إسرائيل قبلنا التي قص الله تعالى علينا خبر افتراقهم وسببه ونتائجه السيئة؛ لنجانب طريقتهم، فأخبر الله تعالى عنهم بقوله سبحانه (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء:150] وأنكر عز وجل ذلك عليهم (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة:85].

فنهانا الله تعالى أن نكون كما كانوا، وأن نتفرق في ديننا كما تفرقوا هم في دينهم (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ) [آل عمران:105] وفي آية أخرى (وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) [الرُّوم:32].

ومن المهم أن نعلم -يا عباد الله- أن أمة بني إسرائيل حين تفرقت عن دينها كانت أمة علم وليست أمة جهل؛ فَكُتُبها بين أيدي أحبارها، وعلماؤها متوافرون، ولكن تجزئة الدين فَرَقَتْهُم عن الحق، وَفَرَّقَتُهم طرائق قِدَدا قال الله تعالى عنهم (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [الشُّورى:14] وفي آية أخرى (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ) [البيِّنة:4].

فالأمة قد تفارق طريق الحق ولو كانت تملك الكتاب الحق؛ إذا هي فرَّقت العمل به، فأخذت ما تهوى، وتركت ما لا تهوى، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاس العلم من هذه الأمة عجب زِيَادُ بن لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وتساءل: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وقد قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَالله لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟" رواه الترمذي وقال: حسن غريب.

ورغم تحذير الله تعالى هذه الأمة من التفرق في الدين، وتحذير رسوله صلى الله عليه وسلم منه إلا أن داء الأمم السابقة سيصيبها؛ فوقع كثير من أفرادها في تفريق الدين، والاختلاف فيه، فكان ذلك سبب افتراقها وهوانها.

ولكن الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم أخبر من أراد من أمته النجاة بما ينجيه عند الافتراق فقال صلى الله عليه وسلم: "دَعُونِي ما تَرَكْتُكُمْ إنما أهلك من كان قَبْلَكُمْ سؤالهم وَاخْتِلَافُهمْ على أَنْبِيَائِهِمْ فإذا نَهَيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وإذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ" رواه الشيخان. فتأملوا -رحمكم الله تعالى- كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر هلاك بني إسرائيل باختلافهم على أنبيائهم قرن ذلك بالأخذ بالدين وعدم تفرقته فأمر بفعل ما يستطاع من الأوامر، وباجتناب النواهي.

وأبين من ذلك وأعظم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التمسك بالدين عند الافتراق موضوع وصيته العظيمة التي ودّع الصحابة رضي الله عنهم بها، فذرفت منها عيونهم، ووجلت قلوبهم، فسألوه الوصية فأخبرهم بما يقع من التفرق في الدين والاختلاف عليه، ثم بين لهم ما ينجيهم فقال صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسَنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ فإن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ"رواه الدارمي.

ما أعظم فضل الله تعالى علينا حين وصانا في القرآن مرتين بعدم الافتراق في الدين، وأمرنا بأخذه كله، وما أعظم فضل النبي صلى الله عليه وسلم علينا حين علم أن الافتراق في الدين واقع في أمته لا محالة فوصاها بما ينجي من تلك الفتنة العظيمة!! وهو التمسك بالدين كله، على هدي سلف هذه الأمة، ومجانبة البدع وأهلها، فهي من أعظم أسباب الافتراق: "فإنه من يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسَنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ فإن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ".

نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق المبين، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يكفينا شرور أنفسنا، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، ومن التفرق في الدين، إنه ولي حميد..

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:131-132].

أيها الناس: الافتراق في الدين ينشأ عن سببين لا ثالث لهما: الهوى (وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله) [ص:26] والجهل (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء:36]؛ فدواء الهوى قهر النفس على اتباع السنة وتعظيم الأثر، ودواء الجهل العلم، وتربية النفس على عدم الكلام بلا علم.

أما ما يتعلق بالمتلقين من عامة الناس؛ فالواجب عليهم الصدور عن العلماء الربانيين، الذين عرفوا بالعلم والورع، واجتناب من يغربون في المسائل، ويشذون في الفتاوى، ويحيون الأقوال المهجورة، ويخالفون إجماع العلماء. وهذا ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم العامة إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "سَيَكُونُ في آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ ما لم تَسْمَعُوا أَنْتُمْ ولا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لاَ يَفْتِنُونَكُمْ"رواه أحمد، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من مجالستهم أو الاستماع إلى أقاويلهم، أو الأخذ بغرائب فتاواهم.

إن هذه الأمة أمة مباركة، معصومة من الإجماع على ضلالة، محفوظة من التتابع على الخطأ، ومحاولات الأعداء في تحريف دينها قديمة بدأت منذ المائة الأولى، ولكن الله تعالى حفظ دينها بتتابع العلماء على بيان الحق، ودحض الباطل، وكشف زيف أهل الجهل والهوى.

ولقد كان للمنهج الأثري الداعي إلى العودة للكتاب والسنة بفهم سلف الأمة أكبر الأثر في النهضة الدينية العلمية في عصرنا الحاضر، حتى آب الناس إلى دينهم في كل البلاد -التي جثم فيها الاستعمار وأزال مظاهر السنة من أهلها- بل تعدى ذلك إلى الجاليات الإسلامية في بلاد الغرب، وهذا ما أفزع الكفار والمنافقين، فتشكل حلف عالمي كفري نفاقي تديره الدول الكبرى، والمنظمات الأممية يهدف إلى ضرب هذا المنهج الأثري، وغزو الإسلام من داخله، وإحداث التفرق فيه..

ومحاربة التمسك بالسنة ومظاهرها كالحجاب والنقاب واللحى في الشرق والغرب ليست تخفى على أحد.

لقد تملأ الأعداء من الكفار والمنافقين على مسخ الإسلام باسم التسامح والتيسير، وعمدوا إلى دعم كل من ينتهج هذا المنهج الفاسد، وأبرزوهم في إعلامهم، وأضلوا العامة بهم، مع تحييد العلماء الراسخين، والطعن فيهم، والافتراء عليهم، بقصد تشويه سمعتهم عند الناس، وتنفيرهم منهم، وإحلال من يسمون فقهاء التيسير مكان من يسمونهم علماء التشديد.

ومعايير التيسير عندهم هي إلغاء كلمة (حرام) من الفتاوى، أو تضييق نطاقها إلى أقصى حد، وتوسيع المباحات ما أمكن ذلك، واستدعاء المهجور من الأقوال، وإحياء شذوذ الفقه، وجمعه في مكان واحد؛ ليكون فقهاً ليبرالياً جديداً، تُوطأ فيه النصوص، ويلغى الإجماع؛ لتقليص الحرام وتوسيع المباح، ولو خالف النصوص المحكمة والإجماع المنعقد، ويتم حصر الدين في الشعائر التعبدية، وإقصائه عن التدخل في الأمور الدنيوية؛ ليكون الإسلام كدين النصارى ليس فيه محرمات ولا واجبات، وإنما هو مجرد مواعظ ووصايا اختيارية.

والهدف النهائي لهذه الحملة الكفرية النفاقية تفرق دين الإسلام، بحيث يكون أجزاء يأخذ الناس منها ما لا يتعارض مع أهوائهم، ويطرحون ما يتعارض معها؛ لينتقل المسلم من عبوديته لله تعالى إلى عبودية الهوى الذي سماه الله تعالى إلهاً يعبد من دونه (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23].

ومع شديد الأسف فإن الإعلام المفسد استطاع بمكره وحرفيته أن يوقع بعض المنتسبين للعلم والدعوة في مصيدة تفرقة الدين وتجزئته؛ إذ باتت القنوات الفضائية التي تحارب الفضيلة، وتدعم الرذيلة، وتقف صفاً واحداً مع أعداء الإسلام في القضايا المصيرية.. باتت هذه القنوات تبرز مشايخ التيسير في أبهى حلة، وتنفق بسخاء على برامجهم التي ينحرون فيها كثيراً من الأحكام الشرعية تمسكاً بقول مهجور أو مذهب شاذ.. ولسان حال هذه الفضائيات يقول: من أراد الأضواء والشهرة والمال فليكن كفلان.

وتثير الصحافة بين حين وآخر بمكر وخبث بعض القضايا الشرعية مع من تتوسم فيهم ليونة وقرباً منها، فتحركهم حيث أرادت، ويقع المخدوعون في مصيدتها؛ فيتكلم أحدهم في إسقاط واجب، أو إباحة محرم بهوى أو بجهل، فيقطعون عليه طريق الرجعة بإظهار قوله وإعلانه، فإذا ثبت على ما أرادوا أعلوا شأنه، ورفعوا ذكره، وأكثروا زيارته، وصار ضيفهم المشتهر في إعلامهم حتى إذا تم تدجينه ومسخه، وإعادة صياغة عقله وفكره كافئوه بعمود في صحيفتهم، أو برنامج في فضائيتهم، ولا يستطيع مخالفتهم فيما يهوون؛ لأن ثراءه وشهرته كانت عن طريقهم.

فإن تدارك نفسه، وأفاق من سكرة الأضواء علم أنه أخذ على حين غرة، واستعمل كأي مادة إعلامية، تحقق أهداف أصحابها المؤدلجة، وتبين له أنه استعمل في مسخ دين الله تعالى، فثاب إلى رشده، وقليل من يقدر على ذلك، وإلا زين له الشيطان سوء عمله، وأوعز إليه أنه حين أحل محرماً أو أسقط واجباً إنما يريد إبراء ذمته، وإنقاذ أمته من ضلال دامت عليه قروناً، أجمع مشايخها وعلماؤها على إضلالها.. هكذا يظن، وللشيطان على العبد مداخل لا يتوقعها.. نعوذ بالله تعالى من نزغات الشياطين، ومن مضلات الهوى، ونسأله العصمة ما بقينا، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ) [آل عمران:8].

اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد..
 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي