إن ثَمَّت نوعًا من المبادرة -أيها الإخوة في الله- ولونًا من ألوان المتاجرة مع الله، وهي المتاجرة التي لا يكتفي فيها العبد بالأجور اليسيرة، بل إنه يختار الأجور المضاعفة؛ لأنه يدرك أنه في تجارة مع الله، وأن الله يضاعف لعباده، وأن من الأعمال ما له مَزيَّة على غيره بكثرة أجوره ودوام أثره، وبقاء أصله الذي...
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: اتَّقوا الله حقَّ تقاته، واعملوا بما فيه مرضاته، وبما فيه قُربكم من جنة ربكم، وحاذِروا كل ما يُسخط ربكم -جل وعلا-؛ فإنَّ عذابه أليم، وإنَّ أخذه شديد، والموفَّق من العباد من فَقِهَ حقيقة وجوده في الحياة، ولأي شيء خُلِق، وبأي شيء كُلِّف وأُمِر!
وإنَّ المؤمن يدرك أن له أمدًا محدودًا وأجلًا معدودًا لبقائه في هذه الحياة الدنيا؛ فهو يستثمرها كما أُمِر، ويبادر بالخيرات، وينكفُّ عن الشرور والآثام؛ فالموفَّق حقَّ التوفيق مَن يَقدَمُ على ربه -جل وعلا- وقد سُطِّرتْ في صحائف حسناته الأعمالَ الصالحات التي يَبْيَضُّ وجهُه معها يوم يلقى ربَّه -جل وعلا-؛ كما قال سبحانه: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آلعمران:106]، ثم أخبر عن الجزاء: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 106-107].
أيها الإخوة في الله: إنَّ المجال لفعل الخيرات مجالٌ رحبٌ وسيع، وكلٌّ يبادر بما فتح الله عليه، وكلما أُوتي الإنسان العلم، فإن ذلك يساعده ويُعينه على أن يبادر إلى الخير، وأن يَستكثر من الأعمال الصالحات؛ فالعلم لا شك أنه يفتح هذه الأبواب، ويُهيئ الإنسان للمبادرة إلى الخيرات والمسارعة إلى الصالحات، ولذلك حثَّ ربنا -جل وعلا- على هذه المبادرة والمسارعة، فقال -عز من قائل-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران: 133]، وقال سبحانه: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد: 21].
فتأمَّل أن الله أمَر بالمبادرة والمسارعة، وأمر أيضًا بالمسابقة؛ وذلك لأن من عباد الله الأخيار مَن بادَروا إلى هذه الأعمال الصالحات، فتجدهم أسبقَ الناس إليها؛ وذلك لعلمهم بما يجب من اغتنام اللحظات -كل اللحظات- في حياتهم؛ حتى ينالوا الخير، ويبادروا إليه كما أمر ربهم -جل وعلا-.
ثم إن ثَمَّت نوعًا من المبادرة -أيها الإخوة في الله- ولونًا من ألوان المتاجرة مع الله، وهي المتاجرة التي لا يكتفي فيها العبد بالأجور اليسيرة، بل إنه يختار الأجور المضاعفة؛ لأنه يدرك أنه في تجارة مع الله، وأن الله يضاعف لعباده، وأن من الأعمال ما له مَزيَّة على غيره؛ بكثرة أجوره ودوام أثره، وبقاء أصله الذي يأتي معه الأجر العظيم، وفي هذا السياق نبَّه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذا الملحظ الجليل؛ حيث قال فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له"، فدل هذا الحديث على أن الإنسان إنما يكتب له من الأعمال ما كان وقت تكليفه، وهو من حين جَريان قلم التكليف عليه عندما يبلغ الحُلم، وذلك بداية التكليف وتحميله المسؤولية؛ حيث إنه إذا عمل العمل الصالح أُجِر، وإذا عمِل العمل السيئ أَثِمَ عليه وأُوخِذ، وهذا يحمل المؤمن على أن يتدبر في أن هذا الوقت الذي كُلِّف فيه ينبغي أن يكون مملوءًا بالأعمال الصالحات، وألا يُضيع منه شيئًا في ما لا يفيده؛ لأنه سينقطع علمه وسيكون الجزاء بعد ذلك في حياة أبدية سرمدية؛ إما في نعيم دائم، وإما في عذاب مقيم، وذلك أن المنزلة في الآخرة منزلتان؛ إما إلى جنة، أو إلى نار، وقد يعذب الله من عباده الذين اقترفوا السيئات مع بقائهم على أصل التوحيد أمدًا معدودًا، ثم يؤخذون إلى الجنة، لكن المؤمن لا يخاطر في هذا الأمر العظيم، بل الواجب عليه أن يكون مبادرًا بالأعمال الصالحات؛ حتى يكون من أهل الجنة!
"إذا مات الإنسان انقطع عمله"، وبهذا يدرك الإنسان شرف الوقت، وأنه ينبغي ألا يُضيَّع، وألا يُصرَف إلا في الخير؛ لأنه حينئذٍ سوف يحال بينه وبين الأعمال الصالحة، وتأملوا في تلك الأمنية العزيزة الغالية الكبيرة التي يتمناها الإنسان في لحظات مغادرته الحياة الدنيا؛ فإنه إذا عاين الملائكة -ملائكة الموت- الذين حضروا لقبْض رُوحه، فإنها تحضر تلك الأمنية الكبيرة، وهي (رَبِّ ارْجِعُونِ)، لماذا؟ لأمور الدنيا ومتاجرتها ولهوها وأفراحها، وغير ذلك من أمورها، كلاَّ، تأملوا في أُمنيته: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100].
فهو يتمنَّى الرجعة إلى الدنيا للعمل الصالح، يتمنى أن يرجع؛ ليتفرغ، ويجعل كل لحظات حياته في الأعمال الصالحة المحضة، لا يلتفت إلى الأمور الحياتية أيًّا كان نوعها، مع أنه -ولله الحمد- من كمال هذا الدين، ومن فضل رب العالمين أن المسلم إذا احتسب الأجر فيما يأتي ويذر، فإن أعماله الحياتية وما يقتضيه طلب الرزق والذهاب للمعاش، مما يؤجر عليه إذا نوى النية الصالحة الطيبة.
ألم تسمعوا قول رسولنا الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنك لن تعمل عملًا إلا أُجرت عليه"، أو قال -عليه الصلاة والسلام- حينما ضرب المثل عما يؤجر عليه الإنسان: "حتى ما تجعله في فِي امرأتك" يعني رفعك الطعام، وإحضار ما يحتاجه الأهل والأولاد؛ فإن هذا مما تؤجر عليه، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار تصدَّقت به، ودينار أنفقته على أهلك، خيرها الذي أنفقته على أهلك".
فتأملوا إلى ما ينبغي أن يَحتسبه الإنسان من الأجر عند الله في كل ما يأتيه وما يذره من أمور هذه الحياة فهو يتقلب حينئذٍ مع هذه النية الصالحة في أعمال خيِّرة طيبة، وربنا يقول: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162-163]؛ فالمؤمن كل لحظات حياته لله رب العالمين.
والمقصود -أيها الإخوة في الله- أن فترة بقائك في الحياة الدنيا -يا عبد الله- أنها فترة ينبغي أن تكون مُسخرة للأعمال الصالحة؛ لأنك إذا حضر أجلك انقطع عملك، وطُويت صحائفك، وحينئذٍ يكون الجزاء بعدها، وحينئذٍ أيضًا في تلك اللحظات -لحظات حضور ملك الموت- تحضر الأُمنيات على نحو ما أخبر الله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100].
والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يُخبرنا في هذا الحديث أن ثمت أعمالًا هي على خارج هذا السنن والقانون، وهو أنه يستمر ثوابها، تأملوا: طويت الصحائف بموت الإنسان، لكن تبقى الملائكة تكتب استثناءً أعمالًا محددة، والسبب في هذا والجامع في هذه الأعمال أنها امتدادٌ للعمل الصالح الذي ابتدأه الإنسان إبَّان حياته، والله -جل وعلا- لا يضيع عمل عامل: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) [آلعمران:195]، والله -جل وعلا- هو القائل: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البقرة:143].
فهذا المؤمن الذي خطَّط وفكَّر وتأمَّل، وأراد الأعمال الدائمة فإن الله يقبل صفقته هذه وتجارته، ويُبقي له هذا العمل يُكتب طالَما بَقِي هذا العمل واستمر، وهذا من فضل الله ومن رحمته، ومن عدله وإحسانه، ولذلك كان خير العباد الذين إذا ماتوا لم تَزَل حسناتهم تَتْرَى، وتتتابع وهم في قبورهم.
تأملوا -يا عباد الله- إنسانٌ مات لكن الأجور متوالية مستمرة، وعلى المقابل أيضًا كان من أسوأ الناس مَن إذا مات لم تطوَ صحائف سيئاته، بل تبقى تُسجَّل عليه، وهذا الذي بذَر الشر، وابتدأ الإثم، ودلَّ الناس عليه، وكان سببًا في اقترافهم له، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يُنبه إلى خطورة مثل هذه الأعمال، حينما قال: "ما مِن نفسٍ تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم كِفلٌ مِن دمها؛ وذلك لأنه أول مَن أسنَّ القتل"؛ كما أخبر ربنا في كتابه العزيز: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) [المائدة: 27]، وقال الله -تعالى- أيضًا: (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:30]؛ لأنه أدرك فداحة هذا العمل، فهذه أول رُوح أُزهقت وأول دم أُريق على وجه الأرض.
ولذلك فإن كل الدماء التي تراق والأرواح التي تزهق فإنها في صحيفة هذا الابن من أبناء آدم؛ لأنه أول من سن القتل، فيحذر المؤمن أنه لا يموت ومن ورائه أبواب أعمال سيئة، ما زالت مفتوحة، ولذلك قال علماؤنا: إن الأعمال السيئة الفردية، والآثام والخطايا التي يعملها الإنسان نفسه دون إشهار ولا مجاهرة، ولا دعوة للناس إليها؛ أهون من ذلك الذي يشهر ويجاهر، ويتسبب في آثام الناس.
ونحن نشاهد اليوم كيف أن كثيرًا من الناس مِن الذين كانت لهم أعمال سيئة، فحضر ما نشاهده اليوم من تسجيل وتصوير وهم في قبورهم ولكن أعمالهم ما زالت بعدهم تُعرض وتسمع وتشاهد، مما هو من الآثام والخطايا؛ فنعوذ بالله من الخِذلان!
فالمتاجر حق المتاجرة مَن يحرص أن يُبقي أعمالًا صالحة مستمرة له بعد موته، وهنا نبَّه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أصول هذه الأعمال، فقال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
أما الصدقة الجارية فهي أن يبقي الإنسان أصلًا وأن يُثبته، وأن تكون منفعته حاضرة مستمرة يتناولها الناس، وهذا ما يعبر عنه بعض العلماء بالوقف؛ فإن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، والمعنى أن الإنسان يُبقي شيئًا يستمر أثره في الناس بالخير بالإحسان إليهم في أمور دنياهم ومعاشهم، أو أمور تعبُّدهم وطاعتهم، كأن يبني مسجدًا، فهذا نوع من الصدقة الجارية، أو يحفر بئرًا ينتفع الناس من مائه، فهذا نوع من الصدقة الجارية، أو أن يجعل من مصادر المياه كالبرادات والآبار والثلاجات ونحوها التي ينتفع الناس بمائها، والماء على وجه الخصوص وسقياه له منزلة عند الله؛ فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "خير الصدقة سقي الماء"، ذلك أن الماء كما تعلمون من قول ربنا -جل وعلا-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء: 30]، ولا حياة للناس بدونه.
والمقصود أن الإنسان يُبقي أصلًا يجعله ثابتًا، ويكون موقوفًا لا يتصرَّف فيه، وإنما ينال الناس منفعته وأثره، ولَمَّا كان هذا العمل بهذه المنزلة فإنَّ خيار المسلمين بادروا إليه في القديم والحديث، ولذلك فإنه في زمن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يبق أحدٌ من الصحابة عنده جِدة ومقدرة إلا وقَّف؛ أي: عمِل وقفًا، وهذا مما بادر إليه كثير من الصحابة، وخاصة أغنياءَهم؛ مثل: سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه وأرضاه؛ فإنه كما حُفِظ في السيرة قد أوقف من الأعمال الصالحات ما بقِي أثره مستمرًّا أزمنة طويلة؛ حيث وقَّف مزارع وآبارًا بالمدينة -رضي الله عنه-، واستمرت أمدًا بعيدًا.
وهكذا تتابع المسلمون جيلًا بعد جيل وإلى زماننا هذا، وتعلمون أيضًا مما حُفِظ في التاريخ ما عملته زوجة هارون الرشيد -رحمه الله-، فإنَّ زُبيدة زوجته -رحمها الله- بادرت إلى توفير الماء لحجاج بيت الله الحرام، وجعلته في طرقهم ومنازلهم التي ينزلون، وهو ما عُرِف بـ"عين زُبيدة"، وما زالت مجاري تلك الماء وبِرَكه حاضرة إلى يومنا هذا، وقد أُثر في سيرتها أنها رؤيتْ في المنام -رحمها الله-، فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: رأيت ذلك العمل أن الله غفر لي مع أول فأس ضُرِبت في الأرض لشق طريق الماء!
والمقصود -أيها الإخوة المؤمنون- أنَّ المؤمن ينبغي أن يتأمل في هذه المبادرة، وكل يعمل بحسب ما يستطيع، ولا يلزم من ذلك أموال كثيرة؛ فلو أن إنسانًا أسهم في بناء مسجد ولو بقدر طوبة واحدة فإنه يرجى له هذا الثواب والعمل، وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "من بنى لله مسجدًا ولو كمَفحص قطاة، بنى الله له بيتًا في الجنة".
وهذا ما يحمل عليه هذا الحديث، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ضرب مثلًا في سَعة هذا المسجد، وهو أنه على قدر عش الطائر فإن الله يبني له بيتًا في الجنة، وهذا يحمل على أن الإنسان لو بادر بمثل هذا الحجم من الإسهام في بناء المسجد فإنه يرجى له هذا الثواب الموعود.
فحريٌّ بالمؤمن أن يكون مبادرًا إلى هذا العمل الصالح العظيم، ولذلك بقيت آثار هذه الأعمال الصالحة في أهل الإسلام أوقافًا يُنفق من خلالها على مصالح المسلمين؛ على المساجد، ودُور العلم، وعلى حفظ القرآن، وعلى طباعة الكتب؛ فلا تزال ديار المسلمين تشهد أوقافًا مما ينفق على الحرمين الشريفين، من قديم وإلى زماننا هذا، ولذلك توجد أوقاف على سبيل المثال في الهند وفي غيرها من البلاد، مما أوقفه أغنياء المسلمين، والمسلم مأمور بأن يبادر إلى هذا العمل الخيِّر، وليس بالضرورة أن يكون فقط على الأعمال من مثل المساجد ونحوها فإن هذا الخير يشمل أمورًا أخرى؛ كأوقاف للمستشفيات، وأوقاف لمصالح المسلمين بعامة، مما يتعلق بالعلم وتعليمه، وبغير ذلك من الأمور.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نبَّه إلى المجال الآخر، فقال: "صدقة جارية، أو علم يُنتفع به"، والعلم حينما يُطلق يراد به علم الشريعة فإن المؤمن إذا بادر إلى أن يُبقيَ من بعده علمًا يُنتفع به، فلا يزال الأجر حاصلًا له، طالما بقي هذا العلم في أهل الإسلام، وأعظم من نال هذه الفضيلة، وبلَّغ هذه المنزلة الشريفة، هو سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فإن كل علم من هذه العلوم التي تدل على رب العالمين، هو أصلها وعلى يديه تعلمت الأمة، ولذلك كان كل عمل صالح، وكل خير في الأرض من بعد بَعثته -عليه الصلاة والسلام- فله مثل أجره.
وهكذا أول مَن آمَن به وهي السيدة خديجة -رضي الله عنها-وصدَّقه فله مثل هذه الأعمال الصالحة؛ فإنها لما سبقت إلى هذا الخير، وفتحت الباب للناس، كان لها مثل أجور كل من يتبع النبي -عليه الصلاة والسلام- من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ويدل على هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر مَن عمِل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا".
فحريٌّ بالمؤمن أن يكون له هذا الأثر، ولا يشترط في هذا أن يكون الإنسان متبحرًا في العلم، بالغًا درجة الاجتهاد، فأنت -يا عبد الله- لو علَّمت أولادك من هذه العلوم التي ينتفعون بها، بأن تُعلمهم أركان الدين؛ مثل: مَن ربُّك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وأن تُعلمهم الفاتحة وقصار السور من القرآن، وأن تُعلمهم ما يجب عليهم من الآداب ومكارم الأخلاق، كل هذا من العلم الذي ينتفع به الذي يأتيك أجره.
ولذا يلتفت بعض المربين التفاتةً كريمة إلى الأجور التي يحصلها المعلمون والمربون الذين يبدؤون في تعليم الأطفال سورة الفاتحة فإن المسلم لا يستغني عن تعلُّمها؛ لأنها ركن في الصلاة، فأنت -يا عبد الله- كلما قرأت الفاتحة في صلاتك وصلواتك التي تعملها منذ عقَلت؛فإن أجر تلاوة هذه السورة وأجر الصلاة، يكون لذلك الذي علَّمك الفاتحة أول مرة، فهي تجارة مع الله ينبغي للمؤمن أن يعرف كيف يبادر إليها: "أو علم يُنتفع به"، ويدخل في هذا العلم أيضًا العلوم التي يحتاجها الناس في أمور حياتهم ومعاشهم، فإن الإنسان الذي يُبقي من العلوم الحياتية المعاشية ما ينتفعون به في الطب والتجارة والصناعة والعمارة وغيره؛، فإنه إذا علَّمها محتسبًا الإحسان إلى الناس فإنه يكتب له من الأجر في ذلك بأمر الله وفضله وإحسانه.
ثم نبَّه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى مجال آخر، وهو: "أو ولد صالح يدعو له"؛ فالولد من كسب الإنسان وهو سببٌ، والإنسان سببٌ في وجود هذا الولد ذكرًا كان أو أنثى، فإذا علمه ورباه فإنه يحصل له من الأجر أنه يناله من دعاء هذا الولد حتى ولو بعد موته، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو داود بسند جيد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "إن العبد يرى من الأعمال يوم القيامة مثل الجبال، فيقول: يا رب، من أين هذا؛ فإني لم أعمله؟ فيقال: من دعاء ولدك لك".
فأكثِر -يا عبد الله- من الدعاء لوالديك، وخاصة إن كانا قد رحلا عن هذه الحياة الدنيا، فإنهم يريان أثر هذا الدعاء كما في هذا الحديث المتقدم، وكما في هذا الحديث: "أو ولد صالح يدعو له"، وهذا يحمل المؤمن على أن يجتهد في صلاح أولاده، فإن صلاحهم خير له، فكل عمل صالح يعملونه، وكل دعاء يدعونه له مثل هذا الأجر؛ لأنه سبب في وجودهم، وسبب في تربيتهم الخيرة: "أو ولد صالح يدعو له".
ويتكامل هذا الفضل بأمر الله -جل وعلا- يوم القيامة فيما دل عليه قول ربنا -سبحانه-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور: 21].
من فضل الله أنه يجمع الأولاد بآبائهم وأمهاتهم يوم القيامة في المنزلة الأعلى في الجنة؛ فلو أن أحدًا من الأولاد أو الآباء كان في منزلة أقل فإن الله تعالى يتبع بعضهم بعضًا إلى الدرجة الأعلى فضلًا منه وإحسانًا!
فهذا الحديث -أيها الإخوة المؤمنون- ينبغي أن يكون حاضرًا في كل أمورك، حتى تكون عاقدًا لهذه التجارة مع الله -جل جلاله-، فتفوز برضوانه وإحسانه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
يقول الإمام النووي -رحمه الله-: "قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة، لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف.
وفي هذا فضيلة الزواج لرجاء وجود الولد الصالح، وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه، وبيان فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع" انتهى كلامه -رحمه الله-، وكذلك قال العلامة السبكي: إن التصنيف في العلم أقوى لطول بقائه على مر زمانه.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: إن مما يحتاج الناس إلى تأكيده والعناية به: ما يتعلق بالعقود والعهود فيما بينهم؛ فإن طبيعة حياة الناس قائمة على رعاية هذا الأصل؛ لأن الإنسان كما يقول العلماء مدني بطبعه، لا ينفك عن حاجته للارتباط مع الآخرين بنوع من المعاملات، وهذه الارتباطات المعاملاتية تحتاج إلى عقود وعهود ومواثيق؛ فمنها ما يكون مكتوبًا، ومنها ما يكون ملفوظًا شفويًّا، وهو واجب الوفاء، ولذلك أثنى الله -جل وعلا- على المؤمنين وعلى عباده الأخيار بأن من صفاتهم: أنهم يُوفون بالعهود، ويرعون المواثيق؛ كما قال -جل وعلا- في كتابه الكريم في صفات المؤمنين: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 1 - 2]، ثم قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون: 8].
قال العلماء: الأمانات، الأمانة هي العهد، وهذا يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولًا وفعلًا، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، وغاية هذا أن يُحفظَ وأن يقام به، والأمانة أعمُّ من العهد؛ فكل عهد هو أمانة فيما تقدم من قول أو فعل أو معتقد.
ولذلك كان من وصف أهل الإيمان أنهم يوفون بهذه العقود والعهود، وبعض هذه العقود والعهود والمواثيق لها مزية وتأكيد أكثر من غيرها، وخاصة ما يتعلق بعقود الزواج؛ فقد أخبر عمر -رضي الله عنه- أن أعظم ما يُوفَى به من العهود والمواثيق ما استُحِلَّت به الفروج؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإنكم أخذتموهنَّ أو استحللتموهنَّ بعهد الله وميثاقه"، والله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1]، والله -جل وعلا- يؤكد هذا الأمر، ويُبين أنه من صفات أهل الإيمان أيضًا؛ حيث قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [الرعد: 21]، على خلاف أهل النفاق، فإنه قد جاء في وصفهم خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الواحد منهم: "إذا عاهد غدر".
فحريٌّ -أيها الإخوة في الله- أن يلاحظ هذا الأمر، وألا يكون الإنسان متعرضًا للوعيد بسبب نقضه لعهد أو ميثاق، وقد كان نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- يوصي رسله وبعوثه أنهم إذا عاقدوا أو عاهدوا حتى غير المسلمين: أن يكونوا موفين بهذه العقود والعهود، وأن يكونوا مستقيمين عليها.
نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لذلك، وأن يعيدنا من كل نكثٍ أو غدرٍ أو إخلاف.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم أدم علينا في بلادنا الأمن والإيمان، والاستقرار وصلاح الأحوال.
اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء، فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّقهم لما فيه صلاح العباد والبلاد، وأعِذْنا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
اللهم آتنا في الدينا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي