إذا أحبَّ أحدُكم أن يعلم أَصَابَتْهُ الفتنةُ أم لا فلينظر: فإن كان رأى حلالًا كان يراه حرامًا فقد أصابته الفتنةُ، وإن كان يرى حرامًا كان يراه حلالًا فقد أصابته.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، أكرَمُ مَنْ يُرجى وأعظمُ مَنْ يُنِيلُ نوالا، خلَق الخلقَ تُمسي وتُصبح ترنو البقاءَ وتؤمِّل الآمال، والحادثات تَنْعَى المنى وتقرِّب الآجال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة تترى وتبقى وتتوالى.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فالتقوى عز ونجاة، والمعاصي شؤم ومهواة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102].
أيها المسلمون: لا خُلْدَ في الدنيا يرتجى، ولا بقاء فيها يُؤَمَّل، وَمَنْ مِنَ الناسِ إلا راحلٌ وابن راحل، وما الدهرُ إلا مرُّ يومٍ وليلةٍ، وما الموت إلا نازل وقريب، وما نَفَسٌ إلا يباعد مولدا، ويدني المنايا للنفوس فتخرج، ويا لَلمنايا ما لها من إقالة إذا بلغت من مدة الحي حدَّها، ستُسلمك الساعاتُ في بعض أمرها إلى ساعة لا ساعة لكَ بعدَها.
ما أسرعَ الأيام في طينا، تمضي علينا ثم تَمْضِي بنا، في كل يوم أَمَلٌ قد نأى مرامُه عن أَجَل قد دنا، أين مَنْ كان قبلنا، أين أين؟ مِنْ أناسٍ كانوا جَمَالا وَزِينَة، إن دهرا أتى عليهم فأفنى عددًا منهم سوف يأتي علينا، كم رأينا من ميت كان حيًّا ووشيكًا يُرى بنا ما رأينا. ما لنا نأمن المنايا كأنها كأنا لا نراهن يهتدين إلينا.
يا غافلا: أنسيتَ أننا بشر، يَلَفُّنَا قَدَر، ونحن في سَفَر، نمضي إلى حُفَر، الموت يشملنا والحشر يجمعنا، فحتام لا ترعوي وتنتهي، حتام سمعُك لا يعي لمذكر، وصميم قلبك لا يلين لعاذل، ألم يأن أن تخشع، وأين التهجد؟ أفي سنة كنا أم القلب جلمد؟ تيقَّظْ –أخي- واحذر وإياك تَرْقُد، أترقد يا مغرور والنار تُوقَد، فلا حرها يُطفا ولا الجمر يخمد.
كان النبي ولم يخلد لأمته -صلى الله عليه وسلم-، لو خلد الله خلقا قبله خُلِّدَا.
للموت فينا سهام غير خاطئة مَنْ فاته اليوم سهمُه لم يَفُتْهُ غدًا، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 34].
أين من عاشرناه كثيرا وألفنا؟***أين من ملنا إليه بالوداد وانعطفنا
كم أغمضنا من أحبابنا جفنا***كم عزيز دفناه وانصرفنا
كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا، فهل رحم الموت منا مريضا لضعف حاله؟، هل ترك
كاسبا لأجل أطفاله؟ هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟
إلى كم تمادى في غرور وغفلة***وكم هكذا نوم متى يوم يقظة
لقد ضاع عمرٌ ساعةٌ منه تُشترى***بملء السما والأرض أية ضيعة
أفانٍ بباقٍ تشتريه سفاهة***وسُخْطًا برضوان ونارا بجنة؟
أأنت صَدِيق أم عدو لنفسه؟***فإنك ترميها بكل مصيبة
لقد بعتَها حُزْني عليكَ رخيصةً***وكانت بهذا منك غير حقيقة
يا عبد الله: اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي، وغدا تموت وتُرفع الأقلام، يا عبد الله: ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أصر بالصغيرة.
لا يخرج المرء من الإيمان بموبقات الذنب والعصيان، وواجب عليه أن يتوب من كل ما جر عليه الحوب، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النُّورِ: 31].
عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (أخرجه مسلم).
أستغفر الله من ذنبي ومن سرفي***إني وإن كنت مستورا لخطاء
لم تقتحم بي دواعي النفس معصيةً***إلا وبيني وبين النور ظلماء
ولقد عجبت لغفلتي ولغرتي***والموت يدعوني غدا فأجيب
ولقد عجبت لطول أمن منيتي***ولها إليَّ توثُّب ودبيب
عصيت الله أيامي وفي ليلي***وفي العصيان قد أسبلت ذيلي
فويلي إن حُرِمْتُ جنان عدن***وويلي إن دخلت النار ويلي
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزُّمَرِ: 53]، وأستغفر الله فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكمَلَ لنا الدينَ وأتمَّ علينا النعمةَ، أحمده على نِعَمِهِ الجمةِ، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادةً تكون لمن اعتصم بها خير عصمة، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله أرسله ربُّه للعالمين رحمة. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تبقى وسلاما يترى.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه ولا تعصوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التَّوْبَةِ: 119].
أيها المسلمون: الدين رأس المال، وشرف الحال والمآل.
كل كسر فإنه الدين يجبره***وما لكسر قناة الدين جبران
كل المصيبات إن جلت وإن عظمت***إلا المصيبات في دين الفتى جلل
وها هي الفتن قد تلاطم سيلُها، واضطرب واصطك، ومسارب الحيَّات بادية في السهول، والدسَّاسة تحت التراب والعقربان دخال الأذن، يسري في خفاء، وبيض السامّ تحت الصخور، والدنيا ما بين بلاء وفتنة فَأَعِدُّوا للبلاء صبرا، عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي شَرٍّ فَذَهَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ، وَجَاءَ بِالْخَيْرِ عَلَى يَدَيْكَ، فَهَلْ بَعْدَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، تَأْتِيكُمْ مُشْتَبِهَةً كَوُجُوهِ الْبَقَرِ لَا تَدْرُونَ أَيًّا مِنْ أَيٍّ" (رواه أحمد).
وقال رضي الله عنه: "فإنها لا تضرك الفتنةُ ما عرفتَ دِينَكَ، إنما الفتنة إذا اشتبه عليكَ الحقُّ والباطلُ فلم تَدْرِ أيهما تتبع. فتلك الفتنة". (أخرجه ابن أبي شيبة)، وقال رضي الله عنه: "إذا أحبَّ أحدُكم أن يعلم أَصَابَتْهُ الفتنةُ أم لا فلينظر: فإن كان رأى حلالًا كان يراه حرامًا فقد أصابته الفتنةُ، وإن كان يرى حرامًا كان يراه حلالًا فقد أصابته". (أخرجه الحاكم)؛ والمعنى: أن يتغير رأي الرجل بالرأي والهوى والتشهِّي، وكان مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- يقول: "كلما جاءنا رجل أَجْدَل من رجل أرادنا أن نَرُدّ ما جاء به جبريلُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟".
أأقعد بعدما رجفت عظامي***وكان الموت أقرب ما يليني
أجادل كل معترض خصيم***وأجعل دِينه عَرَضًا لِدِينِي
فأترك ما علمتُ لرأي غيري***وليس الرأي كالعلم اليقين
وقد سُنَّت لنا سُنَن قوام***يلحن بكل فج أو وجين
وكان الحق ليس بها خفاء***أغر كغرة الفلق المبين
وما عوض لنا منهاج جهم***بمنهاج ابن آمنة الأمين
صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "لست تاركا شيئا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملتُ به، وإني لأخشى إن تركتُ شيئًا من أمره أن أزيغ". فاثبُتُوا يا عباد الله على كتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الدين والشريعة والقِيَم والأخلاق، واحذروا الغواة الفتَّانين، (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [الْمَائِدَةِ: 49].
وصلُّوا وسلِّمُوا على أحمد الهادي، شفيع الورى طُرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الآل والأصحاب وعنا معهم يا كريم يا وهاب، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق إمامَنا وولِيّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لِمَا تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقه ووليّ عهده لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك وفجأة نقمتك، اللهم اجعل رزقنا رغدا، ولا تُشمت فينا أحدًا، ولا تجعل لكافر علينا يدًا، اللهم اشفِ مرضانا وعافِ مبتلانا، وفُكّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا يا رب العالمين.
اللهم انصر جنودنا المجاهدين المرابطين على ثغورنا وحدودنا يا رب العالمين، اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم اجعل للمستضعفين من المسلمين في كل مكان فرجا ومخرجا يا رب العالمين.
اللهم طيِّبْنَا للقائك، وقنعنا بعطائك، وارزقنا الرضا بقضائك، واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم باعد بيننا وبين الخطايا، وَأَجِرْنَا من الشيطان الرجيم، يا عظيم العفو، يا عظيم العفو، يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا واسع المغفرة، اغفر لنا أجمعين، اغفر لنا أجمعين، اغفر لنا أجمعين، يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل دعاءنا مسموعا ونداءنا مرفوعا، يا كريم يا رحيم يا عظيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي