حكمة مشروعية تعدد الزوجات

محمود بن أحمد الدوسري
عناصر الخطبة
  1. مصالح المرأة من التعدد .
  2. مصالح الرجل من التعدد .

اقتباس

قد تكون المرأة التي يُريد الزَّوج أن يتزوَّجها قريبةً له، وليس لها مَنْ يعولها أو كانت عانساً أو تُوفِّي زوجها ولها أيتام صغار في حجرها، فيعمد الرَّجل إلى التَّزوُّج بها لرعايتها ورعاية أولادها من ناحية، ولصلة الرَّحم من ناحيةٍ أُخرى، وبهذا الحلِّ الإسلامي تُواجه المرأة...

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله ...

أيها المسلمون: الشَّريعة الإسلاميَّة هي المنهج الربَّاني الذي ارتضاه الله -سبحانه وتعالى-؛ لِيُطبَّق في الأرض، والذي لا يرضى عنه بديلاً.

وهذا المنهج الربَّاني جاء شاملاً ومتكاملاً، فاستوعب كافَّة مناحي الحياة، وبكلِّ تفاصيلها ودقائقها، فلم يترك شاردةً ولا واردةً فيما يخصُّ حياة النَّاس ويُنظِّم حركتهم فيها، إلاَّ وبيَّنها إجمالاً أو تفصيلاً، حسبما تقتضي الحكمة وتدعو الحاجة.

كما أنَّه اتَّسم بالواقعيَّة والقابليَّة للتَّطبيق في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ مِصْرٍ، فلم يعمد إلى المثاليَّة المُفرطة في مواجهة المشكلات، كما أنَّه لم يركن إلى الاستسلام والمواراة في مواجهتها، وإنَّما قدَّم الحلول الواقعيَّة لكلِّ مشكلةٍ قد تُواجه النَّاس في حياتهم؛ مُراعياً في ذلك كلِّه تحقيق مصالح الفرد والمجتمع على حدٍّ سَواء، دون أن يطغى أحدُهما على الآخر، أو أن يُخِلَّ بأحدهما لحساب الآخر.

ومن هذه الأحكام الشَّرعيّة التي راعت فيها الشَّريعة مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع حُكم تعدُّد الزَّوجات، فعندما أباحت الشَّريعة الغرَّاء للرَّجل أن يجمع في عصمته بين أكثر من زوجة في وقتٍ واحد فقد حقَّقت بذلك مصالح ومقاصد سامية لكلٍّ من المرأة والرَّجل على حدٍّ سواء، وكذلك للمجتمع الذي يعيشون فيه، وذلك كما يلي:

أوَّلاً: المصالح المرتبطة بالمرأة التي منها:

1- صيانة المرأة وحفظ كرامتها؛ فالتَّعدُّد يصون المرأة، ويحفظ لها كرامتها، هذه هي الحقيقة الكبرى وراء مسألة التَّعدُّد؛ فالتَّعدُّد إنَّما شُرع خصِّيصاً من أجل المرأة، ومن أجل الحفاظ عليها؛ وذلك لأنَّ المرأة في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ هي أكثر من الرَّجل، وهي في نفس الوقت بحاجة إلى الرَّجل؛ لِيُلَبِّي لها حاجاتها الفطريَّة، فإذا لم تجد المرأة طريقاً شرعيَّة سهلةً وموصلة إلى هذا الغرض ربَّما دُفِعَت دفعاً إلى طرقٍ غير شرعيَّة لتحصل على ما تريد، وفي هذه الحالة أيُّهما يكون أكرم للمرأة أن تكون زوجةً ثانية أو ثالثة أو حتى رابعة في إطارٍ شرعيٍّ، وعلى مرأىً ومسمعٍ من الجميع، أم تكون غير ذلك؟!

إنَّ التَّعدُّد جاء ليحافظ على المرأة ويُنقذها من مخالب الذِّئاب البشريَّة الذين يريدونها متاعاً يلهون به، وخيرٌ للمرأة أن تكون زوجةً ثانية من أن تكون خليلةً.

وهذا ما يتناسب مع الفطرة السَّليمة والعقل القويم، حتى من غير المسلمين؛ ففي استطلاع للرَّأي العامِّ جرى في الصَّحافة الأمريكيَّة، عن رأي الفتيات في تعدُّد الزَّوجات، قالت إحداهنَّ: "تعدُّد الزَّوجات في رابعة النَّهار في رعاية الله خير من الخليلات في سواد اللَّيل وفي رعاية الشَّيطان"(1).

كما أنَّ التَّعدُّد قد جاء ليقرِّر حقَّ المساواة بين النِّساء؛ فمن حقِّ كلِّ امرأةٍ أن تكون زوجةً وأن تكون أُمّاً، ولا سبيل إلى ذلك في ظلِّ كثرة أعداد النِّساء عن أعداد الرِّجال إلاَّ بالتَّعدُّد، وإذا كان أعداء التَّعدد يرون حلاً آخر فليأتونا به إن كان في إمكانهم ذلك!

كما أنَّ على المرأة التي لا تقبل أن يأتيَ زوجها بزوجة ثانية أن تُجيب على هذا التَّساؤل: أيُّهما أفضل للمرأة: أن يُشاركها في زوجها -سرّاً أو جهراً- بعض السَّاقطات الزَّانيات، وربَّما انتقل إليها من جرَّاء ذلك أمراض مستعصية؛ كالإيدز، أو تُشاركها زوجة أخرى ذات دينٍ وخُلُقٍ في عيشٍ طاهرٍ في ظلِّ نظام التَّعدُّد؟

"إنَّ حياة رجلٍ واحدٍ مع عددٍ من النِّساء ظاهرة اجتماعيَّة موجودة على امتداد الزَّمان والمكان، إمَّا باسم (تعدُّد الحليلات) وهو أكرم وأسلم للمرأة وللأسرة وللمجتمع. وإمَّا باسم (تعدُّد الخليلات) وهو ضياع للمرأة، ونكال على الأسرة، ووبال على المجتمع.

وثمَّة حقيقة يجب أن يعتبر النَّاس بها، وهي أنَّه إذا كانت الزَّوجة الأُولى ينالها ضرر بالزَّواج بالثَّانية، فإنَّ الثَّانية ينالها ضرر أشدُّ بالحرمان من الزَّواج؛  إذ تكون مُعَرَّضة لإحدى ثلاث: إمَّا أن تموت أُنوثتها، وإمَّا أن تضيع بين أحضان الرِّجال، وإمَّا أن تتسكَّع في الطُّرقات وعلى أبواب المساجد تسأل النَّاس، أو تتعرَّض لذلِّ الخدمة"(2). وبالتالي فالإسلام قد دفع أشدَّ الضَّررين بأخفِّهما، وقدَّم مصلحة المجموع على مصلحة الفرد، وهذا هو العدل بعينه.

2- قد تُفضِّل المرأة إذا كانت مريضة مرضاً لا يُرجى برؤه، أو مُسِنَّة، أو عقيماً أن تعيش في كنف زوجها؛ حيث لا يوجد لها عائل غيره، فتُفَضِّل العيش معه مع زواجه بأخرى على أن يُطَلِّقها فتصبح بلا مأوىً أو بلا عائل؛ فالحكمة تقتضي -والحالة هكذا- أن يُسمح للزَّوج بالتَّعدُّد حرصاً على مصلحة هذه الزَّوجة، وإن كان في هذا التَّعدُّد بعضُ الضَّرر الذي يلحق بها، فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الضَّرر الذي يلحق بها بطلاقها أشدُّ من الضَّرر الذي يلحق بها إذا جمع الزَّوج بينها وبين زوجةٍ أُخرى.

كما أنَّ المرأة ربَّما كانت مُحِبَّة لزوجها للدَّرجة التي تجعلها تقبل بأن تُشاركها فيه زوجة أخرى عن أن يفارقها، فالحكمة هنا تقتضي أيضاً أن يُسمح له بالتعدُّد مراعاةً لمصلحة هذه الزَّوجة ولعاطفتها نحوه، والمثال على ذلك: موقف أُمِّ المؤمنين سَوْدَة بنتِ زَمْعَةَ -رضي الله عنها- عندما تنازلت عن حقِّها في رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لأُمِّ المؤمنين عائشةَ -رضي الله عنها-(3)؛ بما عَرَفَتْه من حُبِّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عائشةَ ومنزلتها منه(4)، ولرغبتها أن تُبْعَثَ في نِساءِ النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم-(5)؛ فمثل هذه الرَّغبات تُحترم في الإسلام، والتَّعدُّد من هذا المُنطلق يُصبح حلاًّ مثاليّاً نُواجه به مثلَ هذه الحالات وتلك المشاعر.

3- قد تكون المرأة التي يُريد الزَّوج أن يتزوَّجها قريبةً له، وليس لها مَنْ يعولها أو كانت عانساً أو تُوفِّي زوجها ولها أيتام صغار في حجرها، فيعمد الرَّجل إلى التَّزوُّج بها لرعايتها ورعاية أولادها من ناحية، ولصلة الرَّحم من ناحيةٍ أُخرى، وبهذا الحلِّ الإسلامي تُواجه المرأة مشاكلَ الحياة وتُواصل عطاءها الدَّائم في كنف رجلٍ يحميها ويرعى مصالحها ومصالح أولادها.

وهكذا يحمي نظامُ التَّعدُّد في الإسلام الأسرةَ المسلمة من التَّشتُّت والضَّياع، ويحفظ المجتمع من الفساد والانحلال في آنٍ واحد.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ...

ثانياً: المصالح المرتبطة بالرَّجل وهي كما يلي:

1- مراعاة اختلاف طبيعة الرَّجل والمرأة:

يُقرِّر الطِّب الحديث أنَّ هناك اختلافاً بين التَّكوين الجسمي والخَلْقِي للرَّجل عن المرأة، حيث يُلاحَظ أنَّ فترة الإخصاب عند الرَّجل قد تمتدُّ إلى أكثر من سنِّ السَّبعين، بينما تقف المرأة عند سنِّ الخمسين أو أقل(6).

"والعلم في عدم استعداد المرأة لأداء النَّسل بعد الخمسين أنَّها تتناقص قوَّة، وتزداد ضعفاً؛ لما نالها من الحمل والولادة والرَّضاع، فإذا تقدَّمت بها السُّنون ازدادت ضعفاً على ضعف، فرحمةً بها لم يجعلها الله تعالى مستعدَّة للنَّسل في هذه السِّن"(7).

إذاً الرَّجل في فترة الإخصاب يزيد عن المرأة بنحو عشرين سنة أو أكثر "فإذا لم يَبُحْ للرَّجل التَّزوُّج بأكثر من امرأة يُعطَّل ما يقرب من نصف عمره الطَّبيعي في الأُمَّة، بتعطيل النَّسل الذي هو مقصود الزَّواج"(8). فإباحة الزَّواج بامرأةٍ أخرى يُعطيه فرصة الإنجاب في هذه السِّنين الطَّويلة، ويتحقَّق أيضاً مقصد من مقاصد الإسلام في إكثار النَّسل.

2- مراعاة القوة الجنسيَّة للرَّجل:

بعض الرِّجال لديه قوَّة جنسيَّة فلا تكفيه زوجة واحدة، ولا سيَّما أنَّ المرأة يعتريها من الأُمور ما يمنع المعاشرة؛ كالحمل والنِّفاس والحيض ونحوِها؛ فأيُّها أكرم: أن نُبيح له الزَّواج بامرأةٍ أخرى يتعفَّف بها، وهو ما فعلته الشَّريعة، أو نترك له المجال لإشباع غريزته عن طريق الحرام، وهو ما تُنكره الشَّريعة، ويأباه الخُلُق القويم؟. إنَّ التَّعدُّد الشَّرعي هو الطريق الصحيح لإشباع الرَّغبات دون التردِّي في مهاوي الشهوات.

وثمَّة فائدة في غاية الأهمية -لا يعيها كثير من الناس- وهي أنَّ نظام التَّعدُّد يُعدِّد فيه الرَّجل شهوته إلى قَدْر محدود، بينما يُضاعف أعباءه ومتاعبه ومسؤوليَّاته إلى قدرٍ غير محدود(9).

3- معالجة عقم الزَّوجة:

فلا يستحيل شرعاً ولا عقلاً أن تكون المرأة عقيماً ولا تلد، وبينها وبين زوجها من أواصر المحبَّة والمودَّة ما يمنعه من تطليقها، وفي حرمانه من الذُّريَّة ظلم له، وفي طلاقها وتسريحها ظلم أكبر(10)؛ فلو مُنِع التَّعدُّد لأدَّى إلى طلاق المرأة؛ بُغية تحقيق رغبة الزَّوج الفطريَّة في الإنجاب، ناهيك أنَّه من مقاصد الزَّواج؛ فالزَّواج بأخرى أفضل من أن يُطلِّقها؛ ليتحقَّق له ما يتطلَّع إليه من الولد، فإن حُرِمَت هي من الإنجاب، فلا تُحْرم من زوجٍ يُكرمها ويُعزِّز مكانتها(11).

4- معالجة مرض الزَّوجة:

قد تُصاب المرأة بمرضٍ مزمن أو عضال أقعدها عن واجبات الزَّوج، أو مُنفِّر يمنع من العشرة الزوجية، وكان الزَّوج لها مُخْلِصاً ولعشرتها وفيّاً، وهنا يكون أمام خيارات ثلاثة:

(أ) أن يستبقيها زوجةً، ونمنعه من مزاولة نشاطه الغريزي، أو يلجأ إلى إشباغ رغباته بطرق غير مشروعة!

(ب) أن يُطلِّقها؛ لأنَّه بحاجة إلى زوجة أخرى، رغم أنه يُحبُّها، وهي بحاجة إلى رعايته.

(ج) أن تبقى في رعايته وتتمتَّع بكافَّة حقوقها الزوجية، ونتيح له التزوُّج بامرأة أخرى، وهو الاختيار الأمثل المتوافق مع الفطرة، والواقع، والمنسجم مع الوفاء للعشرة الزوجيَّة(12).

5- مراعاة كثرة أسفار الزَّوج:

بعض الأزواج تضطرُّهم طبيعة أعمالهم إلى كثرة الأسفار، وقد تستغرق إقامته في سفره بضعة أشهر، وربما امتدَّت إلى بضع سنوات، وهو لا يستطيع أن يصحب زوجته وأولاده معه كلَّما سافر، ولا يستطيع أن يعيش في غربته وحيداً، ولا يستطيع مقاومة الفتن، ولا سيَّما في زماننا؛ فلا ريب أنَّ العقل والمنطق والشَّرع قبل ذلك يبيح له الزَّواج بأخرى؛ ليحصِّن فرجه ويعفَّ نفسه.

6- الابتعاد عن الطَّلاق حفاظاً على الأسرة:

في حالة وجود خلاف بين الزَّوجين وتعذُّر الصُّلح، فخيرٌ للرَّجل أن يتزوَّج بامرأة أخرى مع إبقائه على بيته الأوَّل وحفظه لأولاده تحت إشرافه ورعايته؛ حفاظاً عليهم من التَّشرُّد والضَّياع.

------------

(1) الإسلام في قفص الاتهام، لشوقي أبو خليل (ص24).

(2) دحض الشبهات الواردة على تعدد الزوجات في الإسلام، لعبد التواب هيكل (ص305)، وهو بحث مُقدَّم إلى المؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية - الدوحة، محرم (1400هـ).

(3) انظر: صحيح مسلم، كتاب الرَّضاع، باب: جواز هِبَتِها نَوْبَتَها لِضُرَّتِها (2/1085)، (ح1463)؛ الدر المنثور (2/710-712)؛ تفسير الطبري (5/310).

(4) انظر: تفسير ابن كثير (1/563).

(5) انظر: تفسير البغوي (1/486).

(6) انظر: المرأة المسلمة أمام التحديات (ص273)؛ المرأة المسلمة بين الشريعة الإسلامية والأضاليل الغربية (ص31).

(7) تفسير المنار (4/352).

(8) تفسير المنار (4/353).

(9) انظر: المرأة بين الفقه والقانون (ص86).

(10) انظر: إتحاف الخلان بحقوق الزوجين في الإسلام (ص318)؛ المرأة المسلمة بين الشريعة الإسلامية والأضاليل الغربية (ص32).

(11) انظر: المرأة المسلمة أمام التحديات (ص274)؛ حقوق المرأة المسلمة، د. جميلة الرفاعي ود. محمد رامز العزيزي (ص353).

(12) انظر: إتحاف الخلان بحقوق الزوجين في الإسلام (ص320)؛ المرأة المسلمة بين الشريعة الإسلامية والأضاليل الغربية (ص33).


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي