والتقى الأمينان

إبراهيم بن صالح العجلان
عناصر الخطبة
  1. مقدمات التهيئة لالتقاء الأمينين .
  2. التقاء الأمينان .
  3. ما بعد التقاء الأمينين .
  4. كلام صاحب كتاب العظماء المائة في النبي صلى الله عليه وسلم .

اقتباس

والتقى الأمينان؛ أمين من في السماء، وأمين من في الأرض، وإذا بقلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَهلع، ويَرجف، ويُرَوَّع، وحق له أن يفجع.. فما كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- ينتظر رسالة، ولا ويحاً يوحى إليه، ولا كتاباً يبشر به (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). واقترب جبريل...

الخطبة الأولى:

إخوة الإيمان:

انْطَفَأَتْ الرِّسالاتُ، وَتَرَاكَمَت الظُّلماتُ، وعَمَّت الجَهَالاتُ، وَأَصْبحتِ البَشَريةُ على حالٍ تَسْتوجِبُ مَقْتَ اللهِ تعالى, فالتقى الأَمِيْنَانُ، وَحَصَلَت المِنَّة من الملك الدَّيَّان، في يومٍ مَوْعود، وَحَدَثٍ مَشْهُودٍ.

نَعيش اليومَ معَ أعظمِ خَبَرِ، وأَدْهشِ قِصَّة. مع الحدثِ الذي هزَّ أكرمَ وأكملَ مخلوقٍ، وأَشْرَفَ إنسان. نعيش مع اللحظةِ التي انتظرتْهَا المخلوقاتُ العلويةُ والسفليةُ، وغيَّرتْ تاريخَ البشرية.

ها هي مكةُ بجبالها وفجاجِها تحتَضِنُ أشرفَ مَنْ وَطِئَ ثَرَاهَا، وَاسْتَنْشقَ هَوَاءَها، عرفتُه مكةُ فعرفتْ فيه الصدقَ والأمانةَ، والعفافَ ومكارمَ الأخلاق.

وبدأتْ التهيئةُ والإعدادُ لأعظمِ حدثٍ في تاريخِ محمد -صلى الله عليه وسلم- بعدَ أنْ بلغَ الأربعينَ من عمره، وإذا أراد الله شيئاً هيَّأ له أسبابه.

بدأت التهيئة لهذا الحدث بالرؤيا الصالحة في النوم، فكان -صلى الله عليه وسلم- يرى الرؤيا في النوم فتجيء في اليقظة كاملةً تامةً كما رءاها في المنام كأنما نُقشت في قلبه.

بدأت إرهاصات النبوَّة يوم أن كان -صلى الله عليه وسلم- يسير في شعاب مكة فإذا بالأحجار الصمّاء تحيّه بالسلام، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ".

بدأت التهيئة لهذا الحدث الضخم العظيم بحبّه للخلاء في غار حراء، فكان -صلى الله عليه وسلم- يخلو بنفسه بعيداً عن صخب مكة، ولغو النّاس، ومشاغل الحياة.

كان يخلوا بربّه فيتحنّث في ذاك الجبل الشامخ، والغار المظلم، وبين تلك الصخور، هناك في تلك القمة السامقة والغار الضيق.

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمكث خالياً لوحده، يعكف بكل شوقه على مناجاة ربِّه، والتأمل في ملكوته؛ فكم نحن بحاجة مع طنين الحياة ومشغلاتها إلى جلسات مع النفس للذكر والتفكر، وإصلاح الحال وتصحيح المسار، خلوات يذكر فيها العبد عظمة ربه، ويسكب عبرته على تقصيره وذنبه، ويتفكر بعدها ماذا أعد لمصيره ورحيله.

وفي ظلام الفجاج وغبسة الليل حيث عمَّ الهدوء والصمت إلا من نسمات الهواء التي ترتطم بالجبال، وكأنما هذه الجبال التي تسبح الله بكرة وعشياً تتحين للحظة تاريخية منتظرة.

ودنت لحظات الاصطفاء، ودقت ساعة النبوَّة، وحصل اللقاء الأهم، ليس في تاريخ محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل في تاريخ الدنيا، فكان أشرف لقاءٍ، وأعظم اجتماع؛ لتشرق الأرض بالهدى والنور، والهداية والسرور (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى)[طه:1-3].

والتقى العظيمان الأمينان، أمين من في السماء، وأمين من في الأرض. وإذا بقلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَهلع، ويَرجف، ويُرَوَّع، وحق له أن يفجع. فما كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- ينتظر رسالة، ولا ويحاً يوحى إليه، ولا كتاباً يبشر به (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)[القصص:86].

واقترب جبريل حتى ضم النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وبلغ منه الجهد مبلغاً كبيراً، ثم أرسله، فقال له: اقرأ.

فيأتي الجواب -بصوت قد لفه الخوف-: "ما أنا بقارئ"، فلم يكن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قبل يقرأ ولا يكتب.

ولم تكد النفسات المحمدية تهدأ، وإذا بجبريل -عليه السلام- يأخذه ويضمّه ضمّاً شديداً، حتى بلغ الجهد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَرْسَلَه، فَقَالَ: اقرأ، فيجيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذات الجواب: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ". فيغطّه جبريل الثَّالثةَ ويقول: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الذي علَّمَ بالْقلمِ * علَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم)[العلق:1-5] بهذا النور المبين، بدأت الرسالة العظمى.

بُشْرى منَ الغَيْبِ أَلْقَتْ في فَمِ الغَارِ *** وحْيَاً وأَفْضَتْ إلى الدُّنيا بأَسْرَارِ

بُشْرى النُّبُوَّةِ طَافتْ كَالشَّذَى سَحَراً *** وَأَعْلَنَتْ في الرُّبَى مِيْلادَ أَنْوارِ

وَشَقَّتِ الصَّمْتَ والأَنْسَامُ تَحْمِلُها *** تحتَ السَّكينةِ مِنْ دارٍ إلى دارِ

تَدَافعَ الفَجْرُ في الدُّنيا يَزُفُّ إلى *** تَارِيخِهـا فَجَـرَ أَجْيَـالٍ وأَدْهَـارِ

بهذه الآيات الخمس كانت قصة بداية الوحي.

فالذي أنزل عليك الوحي هو الذي خلق الإنسان من علق، وهي رسالة سماوية، أن هذا الإنسان يظل ضعيفاً فقيراً عاجزاً، فمهما عوديت يا محمد وكادوك، فهم مخلوقون من علقة صغيرة طرية ضعيفة، وهم تحت قدرة الله، فلن يُسلمك ولن يخزيك؛ فربك الأكرم من كل كريم، ومن كرمه إنزال الوحي عليك.

عباد الله: وإذا كان العلم هو جوهر كل حضارة أقامها الإنسان فإن دين الإسلام بدأت رسالته بالأمر بالعلم والتعلم، رسالة جاءت في بناء الإنسان بالإيمان والعلم؛ ليرسم للبشريةِ مستقبلَها وحضارتَها وسعادتَها؛ فرسالة الدين لا تصادم العلم النافع أيَّا كان، ولا تعاديه ولا تزهد فيه؛ كما فعلت النصرانية إبان عصور ظلامها؛ فمن الظلم والجهل قياس أرباب العلمنة أننا لن نتقدم ونتطور إلا إذا خلعنا عباءة الدين عن المجتمعات.

وانتهى اللقاء، وغادر أمينُ من في السماء وقلب النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غشَّاه من هول الموقف ما غَشَّاه، فغادر الغار، والرهبة تغذُّ خطاه غذَّا، يرجفُ فؤاده، وترتعد فرائصه، سائراً على وجهه! إلى أين؟ إلى زوجته وشريكة حياته، ومفزعه في ملماته؛ ليبث إليها هول ما حصل، فألقى نفسه على حجرها وبين يديها، وهو يقول: "زملوني زملوني"، وكان مما قال لها: "يا خديجة لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي".

ولكن خديجة التي كمل عقلها، الخبيرة بأخلاق زوجها، تلقت هذا الموقف بالتهدئة والمواساة، فواسته بكلمات طيبات، وخصال شريفات، بثت فيه روح الطمأنينة، قالت: "كَلَّا وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ".

ثمّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: "يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك"َ: فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟" قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم..

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فيا إخوة الإيمان: وكأننا به -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا الموقف العصيب قد عاش هماً وحزنا غائراً، وكيفية تبليغ رسالته لقوم تصخَّرت قلوبهم من الكفر، واشربوا عبادة الأصنام وعظموها.

هذا النبي الكريم الذي ارتجف فؤاده لهذا اللقاء وَعَدَهُ ربُّه أن دينه سيظهر ولو كره الكافرون، وستبلغُ رسالتُه ما بلغ الليل والنهار! هذا النبي العظيم الذي ثقل عليه أمر الرسالة هو سبب هدايتنا وَنَجَاتِنَا مِنْ عَذَابِ الجَحِيمِ، فَإِحْسَانُهُ لَنَا لاَ يُقَابَلُ وَلاَ يُوازَى، وَمَعْرُوفُهُ عَلَيْنَا لاَ يُقَدَّرُ وَلاَ يُجَازَى.

صاحب كتاب" العظماء المائة"، قضى ثمانية وعشرين عاماً يؤلف في هذا الكتاب، وبعد أن أتمَّ تأليفه أعلنَ في محاضرةٍ له في لندن عن أعظم شخصية في التاريخ، وكان الجمهور يصفِّرُ عليه ويقاطعه بالاحتجاج والصراخ؛ لكي لا يتم حديثه، والذي قال فيه : "وقف الرجل في قرية صغيرة، هي مكة، قال للناس فيها: أنا رسول الله إليكم، جئت لأتمم لكم مكارم الأخلاق، فآمن معه أربعة، زوجته وصاحبه وطفلان،! الآن بعد مرور 1400 عام، عدد المسلمين تجاوز المليار ونصف وكلُّ يوم في ازدياد؛ فلا يمكن أن يكون كاذباً؛ لأنه ليس هناك كذبة تعيش 1400 سنة، ولا يمكن لأحد أبداً أن يخدع أكثر من مليار ونصف إنسان،... أمر آخر: رغم مرور هذا الزمن الطويل هناك الملايين من المسلمين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل كلمة تمسُّ نبيَّهم، إنه أعظم شخصية في التاريخ"، بعدها ساد صمت رهيب إجلالاً لسيد البشر.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي