لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

عبد الملك بن محمد القاسم
عناصر الخطبة
  1. تحريم الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله .
  2. حرمة الصلاة في مسجد الضرار أو المكان المغصوب .
  3. الوفاء بالنذر وشروطه .
  4. حال بعض المسلمين اليوم .

اقتباس

فإن مما يؤسف له أن هناك من ينتسب إلى الإِسلام اندثرت عنده معالم الحنيفية، وسرت فيه شوائب لوثت عقيدة التوحيد، وكدرت صفاءها، وزعزعت خلوصها ونقاءها، فصرف أنواعًا من العبادة لغير الله. قصد أضرحة الموتى في مناسبة أو غير مناسبة، يعكفون عندها، يتعبدون وينذرون ويلهجون بالأدعية باكين مستصرخين، يرجون عندها كشف الضرِّ، وجلب النفع، وشفاء المرضى، وردَّ الغوائب

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واحذروا غضب الجبار، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وعليكم بجماعة المسلمين فكونوا يدًا واحدة مع الخير وأهله.

عباد الله: بُنيت الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد، وسدت كل الوسائل والطرق والأبواب التي قد تُفضي إلى المنكرات والمحرمات. فمنعت مشابهة المشركين في الظاهر؛ لأنها تورث المحبة في الباطن، وفي هذا الزمن ظهر هذا الأمر وانتشر، واستشرى واستفحل، مع تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الأمر الخطير.

ومن ذلك: تحريم الذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله؛ لأن ذلك فيه مشابهة ومضارعة للمشركين ظاهرة في المكان، وهو منهي عنه، كما في الحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" رواه أحمد.

ولو قصد الذابح وجه الله، لأنه إحياء للمحل الشركي، وتعظيم له، فيكون وسيلة إلى وجود الشرك ورجوعه، وسد الذرائع من أهم ما جاءت به الشريعة، بل لا يجوز بعدًا عن الشرك ومواضع الغصب.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك إلا أن يمنعه مانع".

ثم قال: "ومنها أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع ظاهرًا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن شابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يُتفطن له".

عباد الله: قال -سبحانه وتعالى-: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108]

هذه الآية خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يُصلي في مسجد الضرار، وكان بناه جماعة من المنافقين مضارة لمسجد قباء وكفرًا بالله ورسوله، (وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ) [التوبة: 107]، وهو أبو عمرو الفاسق، وكان بناؤه قبل خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، فسألوه أن يُصلي فيه رجاء بركة صلاته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله" فلما قفل ولم يبق بينه وبين المدينة إلا يوم أو بعضه، نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه -صلى الله عليه وسلم-، وهدمه وحرقه قبل قدومه، وهذا المسجد -عباد الله- لما أُسس على معصية الله والكفر به، صار محل غصب.

فنهى الله -سبحانه- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقوم فيه، لوجود العلة المانعة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُصلي إلا لله، فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله، فالمعصية قد تؤثر في الأرض، وكذا الطاعة تؤثر في الأرض، فالصلاة في المسجد القديم أفضل من الجديد.

وفي قوله -عز وجل-: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ)، حث على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بُني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله، وجمعًا لكلمة المسلمين، ومعقلاً للإِسلام وأهله، وكان -صلى الله عليه وسلم- يزوره، وفي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجد قباء كعمرة".

وقوله -تعالى-: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ) لما أتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه فقال: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟" قالوا: ما نعلم إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا؛ فقال: "هو ذاك فعليكموه" (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) الذين ينتزهون من القذارات والنجاسات، بعدما يتطهرون من أوضار الشرك وأقذاره.

أيها المسلمون: قال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "أنَّه لما كان مسجد الضرار مما اتخذ للمعاصي ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين؛ نهى الله رسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله؛ فدل على أنَّ كلَّ مكان يُعصى الله فيه أنَّه لا يقام فيه، فهذا المسجد متَّخذ للصلاة، لكنَّه محل معصية؛ فلا تُقام فيه الصلاة".

وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يُذبح فيه لغير الله كان حرامًا؛ لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار، وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنَّهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس؛ فهذا باعتبار الزمن والوقت، والحديث باعتبار المكان.

وفي الحديث عن ثابت بن الضحاك قال: "نذر الرجل أَن ينحر إبلاً ببوانة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟" قالوا: لا.

ثم سأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فهل كان فيها من أعيادهم؟" قالوا: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوف بنذرك".

يذكر راوي الحديث أن رجلاً نذر لله أن ينحر إبلاً في مكان يُسمى (بُوانة)، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نذره هذا؛ فاستفصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك المكان: "هل سبق أن وجد فيه شيء من معبودات المشركين وأوثانهم؟ أو سبق أن المشركين أقاموا فيه عيدًا من أعيادهم"؟

فلما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلو هذا المكان من تلك المحاذير أمره بالوفاء بنذره، وفي هذا دلالة على أن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله من وسائل الشرك، وعلى المسلم البعد عن ذلك سدًا لباب الشرك؛ فمشابهة المشركين في الظاهر تورث المحبة في الباطن.

والحكمة من تحريم الذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله: مشابهة المشركين؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من تشبه بقوم فهو منهم" رواه أحمد.

وكذلك حتى لا يُعظم هذا المكان ويحيا ما اندرس فيه من الشرك. وكذلك تقوية المشركين على فعلهم إذا رأوا من يفعل مثلهم.

إن الواجب على المسلم ألا يذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله إتباعًا لما أمر به -صلى الله عليه وسلم- من وجوب البعد عن مشابهة المشركين في أفعالهم سدًا لباب الشرك، وحماية التوحيد. ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".

عباد الله: لا يجوز الوفاء بنذر المعصية، كما لو نذر أن يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله، أو أن لا يكلم أخاه، ولا يزوره؛ ويلزم صاحبه كفارة يمين.

وكذا لا وفاء لنذر في شيء لا يملكه ابن آدم، كأن يقول: لله على نذر إن شفى الله مريضي أن أتصدق بمال فلان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162- 163]

بارك الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الملك الحق المبين، أحمده -سبحانه- وأشكره، تفرد بالربوبية والألوهية على خلقه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الله لا إله إلا هو، فادعوه مخلصين له الدين.

وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالحنيفية ملة إبراهيم، فصدع بها وأوضحها، وقوَّض خيام الملاحدة والمشركين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن مما يؤسف له أن هناك من ينتسب إلى الإِسلام اندثرت عنده معالم الحنيفية، وسرت فيه شوائب لوثت عقيدة التوحيد، وكدرت صفاءها، وزعزعت خلوصها ونقاءها، فصرف أنواعًا من العبادة لغير الله. قصد أضرحة الموتى في مناسبة أو غير مناسبة، يعكفون عندها، يتعبدون وينذرون ويلهجون بالأدعية باكين مستصرخين، يرجون عندها كشف الضرِّ، وجلب النفع، وشفاء المرضى، وردَّ الغوائب، وإن مدخل الشيطان في هذا لعريض، وإن مسالكه فيه ملتوية.

يوضح ذلك ابن القيم -رحمه الله- حيث يقول: "ما زال الشيطان يوحي إلى بعض الناس ويلقي إليهم: أنَّ البناء والعكوف على القبور من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من مرتبة الدعاء عندها إلى مرتبة الدعاء بها، ثم لا يزال بهم حتى ينقلـهم إلى مرتبة دعائهم من دون الله، وسؤالهم الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبورهم أوثانًا تعلق عليها القناديل والستور، ويطاف بها، ويقبل ويتمسح ويذبح عندها، ثم يتطور الأمر إلى أن يدعو الناس إلى عبادتها واتخاذها عيدًا ومنسكًا".

اللهم إنا نسألك الإِخلاص في عبادتك، وفق شرع محمد صلى الله عليه وسلم .

هذا، وصلوا.

 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي