الفرح بالله

خالد بن علي الغامدي
عناصر الخطبة
  1. خطأ فَهْم الناس لمفهوم الفرح .
  2. الفرح الحقيقي هو الفرح بالله وبما يرضيه -تعالى- .
  3. المؤمنة تفرح بحيائها وحجابها وحشمتها .
  4. الفرح بالله هبة ربانية وعطية إلهية .

اقتباس

إن العبد إذا أيقن أن له رَبًّا وإلها ومدبِّرًا ورازقا ومَلِكًا قاهرًا بيده كل شيء ولا يُعجزه شيءٌ تطمئن نفسُه ويفرح بهذا الرب -سبحانه- فرحًا ليس كمثله شيء من أفراح الدنيا..

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي شرَح صدورَ أوليائه بأفراح محبته، وأنار بصائرَهم بجلائل علمه وحكمته، وبهَر العقولَ بأعاجيب قدرته، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأُثني عليه وأُمَجِّده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، عز جاهه وعَظُمَ سلطانُه، وتقدست أسماؤه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصَفِيُّه وخليله، أعلمُ الخَلْقِ بربِّه، وأخشاهم وأزكاهم روحًا وأنقاهم، وأزكاهم روحًا وأتقاهم، صلى الله وسلم عليه وعلى أهل البيت والآل وعلى الصحابة الأماجد أُولِي الفضائل والكمال، وعلى التابعين لهم بإحسان ما سبَّح المحبون وهللوا بالغدو والآصال.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي -عباد الله- بتقوى الله في الحِلّ والترحال، والسرّ والإعلان، واعلموا أن التقوى هي النجاة والسعادة، وأساس الولاية والريادة، وما استجلبت رحمة الله وفتحت أبواب كرامته بمثل تقواه -سبحانه-، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الْأَعْرَافِ: 96].

أيها المسلمون: الفرح حالة من سرور القلب وابتهاج النفس تغمر الإنسانَ بسبب نَيْل مطلوب أو تحقيق لذة، والأشياء الْمُفْرِحَة في حياة الناس متنوعة، وهي تختلف باختلاف مشاربهم وقناعاتهم ومنطلقاتهم، وكثير من الناس يظن أن الفرح الحقيقي هو الفرح بالأموال والمناصب والجاه، والمراكب والدُّور وغير ذلك من مُتَع الدنيا، والحقيقة أن هذه أفراح قاصرة ناقصة، مشوبة بالمنغِّصات والأكدار لا تصفو ولا تدوم لصاحبها، بل قد تكون في أحيان كثيرة هي سبب الشقاء والآلام والأحزان، (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الْأَنْعَامِ: 44]، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فَاطِرٍ: 2].

وأكثرُ الناسِ غافلونَ عن أن هناك نوعًا من الأفراح لا يشبهه شيء من أفراح الدنيا التي يلهث خلفَها اللاهثون؛ فرح عجيب له جلالتُه وحلاوتُه ونداوتُه، إذا تخللت نسماتُه القلوبَ وعبقت برائحته النفوسُ، وتشرَّبت بطلاوته الأرواحُ؛ إنه الفرح بالله؛ الفرح بالله والسرور بالرب -سبحانه جل في علاه-، الفرح بالله وبكل ما يأتي من الله، الفرح بالله وبرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وبشريعته، الفرح بالقرآن وبالصلاة والصيام والصدقة وأعمال الخير كلها التي ترضيه -سبحانه وتعالى.

هذا هو الفرح الحقيقي الذي يُثمر حالةَ الحبور والسرور والسعادة والأُنْس، هذا هو الفرح الدائم الذي لا يزول، والسعادة التي مَنْ لم يذق طعمَها فما ذاق شيئًا من النعيم، وليس في التعبير عن الفرح بالله إلا حروف وكلمات قاصرة لا توفِّيه حقَّه، ولا تستطيع وصفَه على الحقيقة، (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الرَّعْدِ: 36]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يُونُسَ: 57-58]، وفضل الله هنا هو الإسلام ورحمته هي القرآن؛ كما قال ذلك جمهورُ المفسرين، ومعنى الآية؛ يقول ربنا -سبحانه-: افرحوا بالإسلام، وافرحوا بالقرآن؛ فهو خير مما يجمع الناس من الدنيا وأزكى وهو الأحق بالفرح.

إن الفرح بالله -سبحانه- وبكل ما يرضيه -عز وجل- من الأقوال والأعمال عبادة عظيمة لَطَالما غفل كثيرٌ من الوعاظ والمصلحين عن إرشاد الناس إليها وتذكيرهم بها؛ فهي عبادة منسية، عبادة منسية مع أن فيها شفاء الأرواح من آفاتها ودواء القلوب من أحزانها، وبَلْسَم النفوس من همومها وآلامها وتنشِّط الجسدَ وتقويه وتخلِّصه من آفات الملل والفتور، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "من أعظم مقامات الإيمان الفرح بالله والسرور به، فيفرح به إذ هو عبده ومحبه، ويفرح به -سبحانه- رَبًّا وإلها ومُنْعِمًا ومربِّيًا أشدَّ من فرح العبد بسيده المخلوق".

أيها المسلمون: إن الفرح بالله هو سلوان المؤمنين في معترك الحياة، ومن أعظم أسباب انشراح الصدور، وهو أَجَلّ نعيم للقلوب وأحلى لذَّات النفوس، ومقامه من أعلى المقامات التي يحبها الله ويُعلي من شأن أصحابها.

إن العبد إذا أيقن أن له ربا وإلها ومدبِّرًا ورازقا ومَلِكًا قاهرًا بيده كل شيء ولا يُعجزه شيءٌ تطمئن نفسُه ويفرح بهذا الرب -سبحانه- فرحًا ليس كمثله شيء من أفراح الدنيا.

وتتواصل أفراحه ويكمل سروره إذا استشعر هذه الحالةَ واستحضرها في كل زمان ومكان، إن المؤمن لَيفرح بربه وسيده ومولاه أشدَّ من فرح العبيد بأسيادهم، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [الْبَقَرَةِ: 165]، يفرح المؤمن بربه حين يشعر أن الله معه ينظر إليه ويسمع كلامَه ويُعينه ويؤيده، ويكون سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطش بها؛ فما أسعد عيشَ هذا المؤمن، وما أطيبَ حياتَه، وما أقواه وأحراه بالنصر والتأييد ولو كادته السمواتُ والأرضينُ ومَنْ فيهن.

يفرح المؤمن حين يخلو بربه في هزيع الليل الآخر يتلو كلامه ويتدبر خطابه، ويستمد منه -سبحانه- مددَ القوة واليقين والصبر، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السَّجْدَةِ: 16-17].

يفرح المؤمن بفضل الله ومِنَّتِه وتوفيقه له للثبات على دينه وأمره وطاعته، والبعد عن معاصيه ومساخطه في وقت هوى كثيرٌ من الناس في قاع الشهوات وتساقَطُوا في الفتنة، تساقطوا في الفتنة وتهاونوا بالفرائض والواجبات واستخفوا بالعزائم والمبادئ والمسلَّمَات.

يفرح المؤمن بأن جعله اللهُ من أمة سيد المرسلين -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرَّفه باتباع سُنَّتِه وهديه، يوم أن أضل عن ذلك أقواما ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، وخالفوا سنته -صلى الله عليه وآله وسلم-، أولئك هم الأخسرون أعمالا؛ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الْكَهْفِ: 104].

يفرح المؤمن حين يتواضع للناس صِدْقًا لا تصنُّعًا ولا تكلُّفًا، ويرحمهم ويُحسن إليهم ويسعى في حوائجهم ونفعهم، ويُطعم جائعهم ويقضي دَيْنهم ويُعينهم على نوائب الدهر طاهرًا قلبُه، وسالما صدرُه من آفات الحسد والحقد والغل والشحناء والتكبر والترفُّع والعصبية المقيتة.

وتفرح المؤمنة بحيائها وحجابها وحشمتها وطاعتها لزوجها وقرارها في بيتها وأدائها لرسالتها الحقيقية في الحياة الدنيا الخالدة التالدة؛ التي شرفها الله -تعالى- بها؛ وهي كونها مَدْرَسَةُ الأجيالِ ومربِّية الرجال وصانعة القدوات.

وكل هذه الأفراح وغيرها كثير هي من الفرح بالله ومن أَجْل الله، وبكل ما يرضي الله؛ فلا تَسَلْ عن ألوان السعادة والحبور والسرور التي يعيشها المؤمنُ في هذه الحياة؛ فهو في أفراح متواصلة ونعيم لا ينقطع ولذة وبهجة لا يجدها ولا عُشْر معشارها من خَطِئَ طريقَ الفرح بالله، وذهب يَنْشُد السعادةَ في سراب ظنَّه ماءً وصحراءَ قاحلة يحسبها واحةً غنَّاء، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النُّورِ: 40].

عباد الله: إن الفرح بالله من أعلى منازل الإيمان وأعظم أبواب الإحسان؛ لأنه في الحقيقة ثمرة ونتيجة مقامات إيمانية جليلة من المحبة والرضا واليقين والصبر وحُسْن الظن بالله، وما فتح الله على عبده من ختم الخير وكنوز الإكرام بمثل أن يمتلئ قلبُه فرحًا بربه وفاطره ومولاه؛ فهناك تَقَرّ به العيونُ وتأنس به الأرواح وتُجِلُّه النفوسُ ويجمع اللهُ عليه شملَه، ويجعل اللهُ غناه في قلبه، وتأتيه الدنيا وهي راغمة.

واستمعوا -رحمكم الله- إلى ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه- يقول كلاما يشبه كلام الأنبياء، كأنه تنزيل من التنزيل أو قول من نور الذِّكْر الحكيم، يقول -رضي الله عنه-: "إن مِنْ ضَعْف اليقين أن تُرضي الناسَ بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يُؤْتِكَ اللهُ، وإن رزق الله لا يسوقه إليك حرصُ حريصٍ، ولا يرده عنك كراهيةُ كارهٍ، وإن الله بقسطه وعدله جعل الروحَ والفرحَ في الرضا واليقين، وجعل الهمَّ والحزنَ في الشكِّ والسخطِ". (أخرجه البيهقي في شُعَب الإيمان).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله عدد خلقه، وزنة عرشه، ومداد كلماته ورضا نفسه، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام الموحدين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإن الفرح بالله هبة ربانية وعطية إلهية لا يوفَّق لها إلا عبادُ الله الصادقون وأولياؤه المخلصون، الذين عاشوا ليلَهم ونهارَهم مع ربهم -سبحانه وتعالى-، واستحضروا قربَه ومعيته؛ فالحياة مع الله أسمى ألوان الحياة، والعيش مع الله أرقى أحوال العيش، وكم من الناس حُرموا من هذه الحياة الطيبة، وخُذلوا وهم لا يشعرون بمرارة خِذْلان الله لهم، ولا يَحُسُّون بألم إعراض الله عنهم.

وفرحوا في الحياة الدنيا، نَعَمْ فرحوا في هذه الحياة الدنيا ولكنه فرح كفرح الأطفال بِلُعَبهم، لا كفرح الكبار بالمهمات الكبار، فرحوا بأموالهم ومناصبهم وجاههم لا فرح الشكر لله والحمد لله، بل فرح الأشر والكِبْر والغرور؛ فهم في سكرتهم يعمهون، كما طغى قارون وبغى فقال له قومه: (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [الْقَصَصِ: 76]، الأشرين المتكبرين، فرحوا بما يأتون من القبائح والمخازي والمعاصي القولية والفعلية، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوه؛ فجمعوا بين فعل الشر والمنكر وقوله والفرح به، وبين محبة المدح على الخير الذي لم يفعلوه،  (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آلِ عِمْرَانَ: 188]، فرحوا بالمصائب والكوارث التي تنزل بالمسلمين وتمنَّوْا زوالَ نعمة الله عنهم؛ فكانوا كما وصَف اللهُ -تعالى- المنافقين بقوله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) [التَّوْبَةِ: 50].

فرحوا بما عندهم من العلم الزائف وعاشوا في أوهام الفوقية والترفع على مَنْ دونَهم وقطعوا دينَهم قطعا، وفرقوا شرائعه وتعصَّبُوا لذلك، وفقَدُوا الإنصافَ والعدلَ حتى صاروا شِيَعًا وأحزابًا، (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الْمُؤْمِنَونَ: 53]، فرحوا بذلك كله، وهو فرح زائف خاوٍ، (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) [غَافِرٍ: 75].

أما المؤمنون الصالحون فلهم أفراح لا تُشبه أفراحَ التائهين الحائرين الهالكين في أودية الدنيا؛ فأفراحهم متصلة بالله -سبحانه-، وبكل ما يرضي اللهَ -عز وجل-، يستبشرون بها ويتنعمون بروحها ولذتها، كما فرح صِدِّيقُ هذه الأمة أبو بكر -رضي الله عنه- فرح بصحبة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الهجرة وبكى من شدة الفرح، ما فرح الصحابة -رضي الله عنهم- بشيء أشد من فرحهم بقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للأعرابي: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ".

وانظروا إلى فرح أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه- حينما قرأ النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- عليه سورة البَيِّنَة وقال له: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَهَا عَلَيْكَ"، قال أُبَيٌّ: "وَسَمَّانِي لَكَ"، قال: "نَعَمْ"، فبكى أُبَيٌّ من شدة الفرح؛ أن الله سمَّاه باسمه في الملكوت الأعلى.

وما ألذَّ فرحَ التائبين بتوبة الله عليهم؛ فقد خَرَّ كعبُ بنُ مالك -رضي الله عنه- ساجدًا لله من شدة الفرح لَمَّا بشروه بتوبة الله عليه، وفرح بذلك النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- وقال له ووجهُه يبرق من الفرح والسرور: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مِنْذُ وَلَدَتْكُ أُمُّكَ".

وهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "ما فرحتُ بشيء في الإسلام أشدَّ فرحًا بأن قلبي لم يدخله شيءٌ من هذه الأهواء".

أيها المسلمون: ما لنا لا نفرح بربنا؟ ما لنا ألا نفرح بربنا -سبحانه- وهو الذي وَسِعَتْ رحمتُه كلَّ شيء؟ والذي هدانا سُبُلَنَا وآوانا وكفانا وأطعمنا وسقانا، أفلا يُحَبّ هذا الإلهُ البرُّ الرحيمُ؟ أفلا يُفرح به وهو بكل خير إلينا أسرعُ؟ أَشْعِرُوا أنفسَكُم بقُرْبه وإحاطته، وظُنُّوا به خيرًا؛ فهو عند ظن عبده به، واستغنوا بربكم -سبحانه- عن الناس جميعا، استغنوا بالله -سبحانه وتعالى- عن الناس جميعا، فهو الغَنَاءُ كل الغَنَاء، وَأَشْغِلُوا أنفسَكم بِذِكْر ربكم وتلاوة كلامه تسعد أرواحُكم وتَطِب أيامكم.

أيها المسلمون: وما لنا ألا نفرح برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- سيد الخَلْق وأكرمهم على الله الذي، بعثه اللهُ رحمةً وهدى للعالمين، افْرَحُوا برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الفرحَ الذي شرَعَه اللهُ، اقرءوا سُنَّتَه الشريفةَ وعِيشُوا مع سُنَّته المباركة، وَاتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا؛ فقد كفيتم، وأحبوه -صلى الله عليه وآله وسلم- كما كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يحبونه؛ بلا غُلُوّ ولا إطراء، ولا تنقُّص ولا جفاء، وما كان شيء أكره إلى نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- من البدعة في الدين والغُلُوّ والإطراء.

يا أمة الإسلام: افرحوا بفضل الله وبرحمته؛ فالإسلام دين الأفراح والسرور والحنيفية السمحة، وما دعا الإسلامُ إلى رهبانية قَطُّ ولا إلى ضِيق ولا إلى حُزْن بل ما ذُكِرَ الحزنُ في القرآن إلا منهيًّا عنه، عَدِّدُوا نِعَمَ اللهِ عليكم فهو أجدرُ أن تكثُر أفراحُكم وتوقَّعوا الخيرَ منه -سبحانه وتعالى- وارضوا بما قسم الله لكم، وتفاءلوا بالخير وأَبْشِرُوا واستبشروا ولا تيأسوا ولا تحزنوا، فمن فرح بالله لم يحزن على فائت ولم ييأس من واقع ولم يسخط على حال.

مَنْ فَرِحَ بالله لم يجزع لمصيبة ولم يخضع لمخلوق ولم ينهزم لأول عارض ولا تستفِزُّه الأحداثُ؛ لأنه مع ربه -سبحانه وتعالى- في ليله ونهاره يمدُّه بعونه وتوفيقه ويُذيقه لذةَ الأُنْس به، والركون إليه ويطعمه من أفراح الأرواح ونعيم النفوس ما يُنسيه كلَّ هَمّ وحزن وضيق كما كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يبيت عند ربه يُطعمه ويسقيه ويفيض عليه حتى غَدَا -صلى الله عليه وآله وسلم- أشرحَ الناس صدرًا وأسعدَهم قلبًا وأقواهم يقينًا؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرَّعْدِ: 28]، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 69].

عباد الله: صَلُّوا وسلِّموا على رسول الله؛ فقد أمركم بذلك اللهُ؛ حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 56]. وثبَت عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرَ صلواتٍ"، فاللهم صَلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبيِّنا وحبيبنا وسيدنا وقدوتنا محمد، وعلى آله وأزواجه وذرياته الطيبين الطاهرين وسائر صحابته الكرام الأبرار الأطهار، وخُصَّ منهم أبا بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذا النورين، وعليًّا أبا الحسنين، والتابعينَ لهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعباد الصالحين، اللهم انصر عبادك الموحدين واخذل الطغاة والمجرمين بقوتك يا قوي يا عزيز، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انصرهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، اللهم انصرهم في الشام وفي العراق وفي اليمن بقوتك يا قوي يا عزيز.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين المرابطين على الحدود، اللهم انصر إخواننا المجاهدين المرابطين على الحدود، اللهم كن لهم عونًا ونصيرًا ومؤيدًا وظهيرًا بقوتكَ يا قويُّ يا عزيز.

اللهم وَفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، الله وفِّقه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد، واجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيينا إذا كانت الحياة خيرا لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، اللهم إنا نسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي