عبادة التفكير

عبد العزيز بن داود الفايز
عناصر الخطبة
  1. الغاية من خلق العباد .
  2. أمور ينبغي التفكر فيها .
  3. ثمرات التفكر في خلق الله .
  4. بعض الوسائل المعينة على التفكر .

اقتباس

التفكر في مخلوقات الله -تعالى- عبادة جليلة من أفضل العبادات القلبية، قام بها الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وعلى رأسهم حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد قام آخر الليل ونظر إلى السماء، ثم...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على طريقته ونهجه، وعنا معهم بمنك وعفوك وكرمك.

أما بعد:

فيا عباد الله: (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

معاشر المسلمين: إن الله -تعالى- خلق العباد لعبادته، قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].

ولا يمكن أن يقوموا بهذه المهمة العظيمة إلا إذا عظموا الله -تعالى- بقلوبهم.

ومن أسباب تعظيم الله في القلوب -يا أمة الإسلام-: أن نتأمل وأن نتفكر في مخلوقاته جل في علاه، وهذه الوظيفة أعني التفكر في مخلوقات الله -تعالى- عبادة جليلة من أفضل العبادات القلبية قام بها الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وعلى رأسهم حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد قام آخر الليل ونظر إلى السماء، ثم تلا قول الله -تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]، من هم؟ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]، وقال جل وعلا: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، ويقول جل وعلا: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105].

نعم -يا عباد الله- إن عبادة التفكر غفل عنها كثير من الناس، يمرون بالآيات ويمرون بالعبر وينظرون إلى السموات والأرض ولا يتفكرون، وإذا نظروا إلى صنع من صنع البشر عظموا ذلك في نفوسهم، وهذا الذي صنع وأبدع في صنعه من الماديات التي خلقها الله -تعالى-، فهذا من خلق الله -تقدست أسماؤه وصفاته-، سُئلت زوجة أبو الدرداء -رضي الله عنه- بعد وفاته عن عبادته وأكثر عبادته، فقالت: "كانت أكثر عبادته التفكر" يتفكر في ملكوت الله -تعالى-، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "النظر في مخلوقات الله العلوية والسفلية مندوب إليه، مأمور به".

نعم -يا عباد الله- إن التفكر عبادة، فينظر الإنسان في خلقه، قال الله -تعالى-: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21].

تفكر في نشأتك -يا عبد الله- كيف نشأت من ضعف؟ من الذي حفظك في ظلمات ثلاث؟ أليس الله -تعالى-؟ كيف كان يصل إليك الغذاء؟ من الذي أعطاك السمع والبصر والفؤاد؟ من الذي أعطاك سائر النعم؟ من الذي يحفظك ويكلؤك في الليل والنهار؟

تفكر في بصرك، لماذا هذا الماء الذي في عينك بهذه الصفة؟ ولماذا هذه المادة اللزجة التي في أذنيك بهذه الصفة؟

فسبحان المبدع، تفكر وانظر إلى السماء وإلى الكواكب: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات: 47 - 49].

انظروا إلى السماء وإلى الكواكب: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة: 75 - 76].

من الذي رفع السماء بغير عمد ترونها؟ أليس الله -تعالى تقدست أسماؤه وصفاته-؟ (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ) [الرحمن: 19-20].

من الذي أتقن البحر بما فيه من العجائب؟ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59].

المكتشفون والباحثون يغوصون في البحار ليكتشفوا بعض أسراره، وربنا فوق عرشه يعلم ما في البر والبحر: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا).

تفكروا -يا عباد الله- بشيء من مخلوقات الله، قال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "أُذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين عاتقه وشحمة أذنه مسيرة سبع مائة عام" (وهذا الحديث رواه أبو داود وصححه الألباني).

سبحان الخالق -جل في علاه-، قال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت جبريل على هيئته التي خلقه الله عليها مرتين، رأيته وله ستمائة جناح قد سد الأفق بجناحه" حمل ديار قوم لوط حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب وصياح الديكة فقلبها عليهم: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) [لقمان: 11]؟

ومن ثمرات -يا عباد الله- التفكر في خلق الله -تعالى-: زيادة الإيمان وخشية الرحمن -جل في علاه-، فإذا تأمل المسلم في صنع الله، وفي خلق الله -تعالى- انكسر قلبه، وعظم خالقه -تعالى-، وزاد إيمانه من التوكل على المبدع، من التوكل على الجبار، من التوكل على القهار، من التوكل على الذي بيده خزائن الدنيا والآخرة، وزادت خشيته ومراقبته لله -تعالى-، وعلم بأن الله -تعالى- على كل شيء قدير، فانتهى عن معصية الله وانزجر عن معصية الله وعن التساهل في طاعة الله.

ومن ثمرات التفكر في خلق الله -تعالى-: زوال العجب وانكسار القلب، فإذا أعجب الإنسان بعقله وذكائه ودهائه وجاهه ومنصبه، فليتذكر عظمة الله الذي أعطاه هذه النعم: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ) [النحل: 53].

ومن ثمرات التفكر في خلق الله -تعالى-: المسارعة في الخيرات؛ لأن الإنسان يعلم علم اليقين أن الله -تعالى- لم يخلق هذا الكون عبثا، وإنما خلقه لغاية عظيمة، ثم يعمل ويسابق وينافس في الطاعات وينزجر عن معصية الله.

اللهم اجعلنا من الذين يتفكرون في مخلوقاتك يا رب العالمين، ويخشون حق خشيتك.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا يليق بجلال الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله وافعلوا الأسباب التي تساعدكم على التفكر في خلق الله.

أقول: انتشرت بعض الوسائل التي تشغل الناس عن التفكر في خلق الله وفي صنعه.

انتشرت الملهيات حتى في الجيب التي تشغل الإنسان عن طاعة الله -تعالى- وعن التفكر في المصير وعن التفكر بنعم الله وآلائه، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "أفضل العبادة التفكر في نعم الله".

من الوسائل التي تساعدك -يا عبد الله- على التفكر: أن تسأل الله أن يرزقك قلبا حاضرا خاشعا متفكرا متدبرا متأملا.

ومن الوسائل: أن تبتعد عن الوسائل التي تشوش على قلبك وعلى ذهنك، وأن تجلس في مكان فيه هدوء، فقد رُوي عن بعض أهل العلم أنهم كانوا يخرجون وقت الغروب ويتفكرون في صنع الله وفي غروب الشمس: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 38 - 40].

فاخرج إلى الخلاء، اخرج إلى الصحراء وقت الغروب أو عند خروج الشمس وتفكر في صنع الله -تعالى- وفي عظمة الله -جل في علاه-، وإذا ركبت البحر لا تلهيك الصوارف، تفكر في هذه البحار وما فيها من العجائب التي خلقها الله -تعالى-، وآخر الليل كما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك النووي -رحمه الله- يقول: "يستحب إذا استيقظ الإنسان آخر الليل أن يتلو هذه الآية: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [آل عمران: 190] قال: "مع النظر إلى السماء؛ لأنها تدل على عظمة الله".

اللهم يا حي يا قيوم أصلح فساد قلوبنا.

اللهم طهر قلوبنا من سائر الأمراض واملأها يا رب حبا لك وشوقا إليك وتعظيما لك يا رب العالمين.

اللهم املأها حبا وتعظيما وإخلاصا وتوكلا عليك يا قوي يا عزيز.

اللهم يا حي يا قيوم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.

انكسروا بين يدي الله واسألوا الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يفرج هم المهمومين في كل بلدان المسلمين، وأن ينشر الأمن والاستقرار في اليمن والعراق والشام وفلسطين، وفي كل أنحاء الأرض، اسألوا القادر على ذلك جل في علاه.

اللهم يا حي يا قيوم اشف كل مريض من المسلمين، وفرج هم كل مهموم، وأعد كل مشرد إلى بلده.

اللهم انشر الأمن والاستقرار في بلاد المسلمين، اللهم يا حي يا قيوم احفظ بلادنا من كيد الحاقدين والحاسدين، اللهم احفظها بحفظك، من أراد ببلادنا يا رب العالمين سوء اللهم فأشغله بنفسه، واجعل يا رب كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء يا رب العالمين، اللهم افضحه على رؤوس الأشهاد.

اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، سدد أقوالهم وبارك في جهودهم يا رب العالمين ولا تكلهم إلى أنفسهم ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين يا رب العالمين.

اللهم يا حي يا قيوم كما جمعتنا في بيتك اللهم اجمعنا في أعلى الجنان مع سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم-.

اجعلنا ممن يطول عمره ويحسن عمله وتحسن خاتمته.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك يا الله من الشر كله ما علمنا منه وما لم نعلم، نسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

اللهم صل على محمد عدد ما صلى عليه المصلون، وذكره الذاكرون.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي