الليل آية من آيات الله الباهرة

عبد الله بن محمد الطيار
عناصر الخطبة
  1. من نعم الله على عباده آية الليل والنهار .
  2. مكانة الليل في قلوب المؤمنين .
  3. مزايا الليل وفضائله .
  4. دعوة لقيام الليل والمسابقة فيه .

اقتباس

إن الله -جل وعلا- فضل أهل القرآن الذين يتلونه ويتدبرونه، ويعملون به، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في صحيح البخاري من حديث عثمان -رضي الله عنه-: "خيركم مَن تعلم القرآن وعلمه"؛ فخيرُ هذه الأمة مَن قرأ القرآن، وعمل بالقرآن، وتدبر القرآن، وسعى في تعليم الناس القرآن...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل الليل آية من آياته الباهرة وأشهد ألا إله الله القائل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)[يونس:67]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي عرف نعمة الله في الليل فعمره بطاعة الله فكان عبداً شكورا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]

عباد الله: لقد امتن الله على عبادة بالليل وجعله آية عظيمة تدل على وحدانيته وعظيم صنعه وإبداعه في هذا الكون الفسيح، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)[الإسراء:12].

فلولا الليل والنهار لما عرف الناس عدد السنين والحساب ولما استمتعوا بروعة النهار وضياء الشمس ولما حصل لهم السكن في الليل واللذة بالراحة بعد عناء النهار وصدق الله العظيم: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[القصص:71-72].

في هذه الآيات امتنان الله على عباده ودعوته لهم لشكره وعبادته حيث جعل لهم من رحمته النهار ليبتغوا من فضل الله الرزق وينتشروا لطلبه وجعل لهم الليل ليهدؤوا فيه ويسكنوا وتستريح أبدانهم من تعب النهار فهل أحد يقدر على ذلك إلا الله.

قال العلامة ابن سعدي: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) مواعظ الله وآياته سماع فهم وقبول وانقياد. (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) مواقع العبر ومواضع الآيات فتستنير في بصائركم وتسلكوا الطريق المستقيم، وقال في الليل: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ)؛ لأن سلطان السمع في الليل أبلغ من سلطان البصر، وقال في النهار (أَفَلَا تُبْصِرُونَ)؛ لأن سلطان البصر في النهار أبلغ من سلطان السمع.

عباد الله: الليل حبيب المخلصين ومأوى المحبين وخلوة المتعبدين وأنيس الراكعين الساجدين! الليل إعلان الرهبة وعنوان السكون تظهر فيه العبرات ويحلو فيه اللقاء حيث يخلو المحب بمن يحب! كم في الليل من العجائب مريض يئن وحزين يتأوه ومهموم يتألم وسجين يشكو طول الليل ومحب ميتم يشكو قصره؛ فلله كم في الليل من الآيات والأسرار.

لقد سبق الصادقون في استغلال الليل وعبث المجرمون في استغلال ستوره وظلمته، كم استغله العلماء في تقليب الأوراق والدفاتر، وكم قطعه أهل العبادة بطول القيام والقراءة؛ فيا ويح من كان الليل شاهداً عليه بجرمه، وياهنيئاً لمن شهدت له دقائق الليل وثوانيه بفعل الخير.

أجل أيها المؤمنون: لقد وقفت على رجل صادق من أهل هذا البلد يستغل ظلمة الليل لإيصال صدقاته للمحتاجين؛ لكي لا يعرفوه، ولما اضطر للسؤال عن مسألة معينة، وسألته عن سبب فعله هذا، قال أرجو أن أدخل ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ"(رواه البخاري)، وهنا علمت أن أسرار الليل لا تنتهي إلى حد.

لقد شرَّف الله الليل بميزات وفضائل وأعظمها: أنه خصه زمناً لنزوله -جل وعلا- إلى السماء الدنيا على الوجه اللائق به -سبحانه-.

وأسرى بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الإسراء:1].

وفي الليل بدأ الوحي إلى موسى وكلمه ربه -جل وعلا- قال تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه:9-14].

والليل جعله الله زمنا لنجاة الأنبياء من أعدائهم؛ فموسى -عليه الصلاة والسلام- سرى بالليل وتخلص من فرعون الطاغية، قال تعالى: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)[الدخان:22-24].

ولوط نجا من قومه بالليل، قال تعالى: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ…)[هود:81].

وأنزل الله القرآن في الليل، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القدر:1].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام الخاشعين وقدوة الطائعين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فاعلموا -أيها المؤمنون- أن من أصدق علامات الإيمان: أن يقوم الإنسان ليركع في جوف الليل ركعات تدل على صلته بخالقه -سبحانه- قال قتادة -رحمه الله-: "ما سهر الليل منافق"؛ أي ما قام يصلي في الليل، وهل تجد الصبر وعلو الهمة وعمل السر إلا في قيام الليل؟! إن من الخطأ الأكبر أن تنظم الحياة من حولك، وتترك الفوضى في قلبك، فإذا تعلمت الإخلاص فضحت الأمل الكاذب.

أليس في القيام تركُ دفء الفراش، وتقديم مراد الله على مراد النفس؛ فإن مثل القلب مثل الطائر كلما علا بعد عن الآفات، وكلما نزل احتوشته الآفات! هناك أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأقوام أحياء تقسو القلوب برؤيتهم، والليل ميدان المنافسة وزمن المرابطة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون! قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[البقرة:148]، وقال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران:133]. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69]، وقال تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:9]، وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[السجدة:16].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"(رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: "يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا"(رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الأخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (رواه الترمذي)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم وذكر منهم الذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل فيقول الله تعالى يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في ضراء وسراء"(رواه الطبراني  وحسنه الألباني).

قال الحسن -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة"، وقال: "من نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره"، وقال: "بعضهم إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل".

عباد الله: إن صاحب الهمة العلية والنفس الشريفة التواقة لا يرضى بالأشياء الدنيئة الفانية وإنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا وإياكم منهم.

هذا وصلوا وسلموا على صاحب اللواء المعقود والحوض المورود محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي