من أراد أن يحاسب نفسه صادقاً فليتفقد نفسه في صلاته وصلته مع ربه. ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، إنها آخر ما يفقد العبد من دينه فليس بعد ضياعها والتفريط فيها إسلام.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي خير الزاد ليوم المعاد.
أيها المسلمون، هاهو الحج قد قُوِّضت خيامه. وها هي قوافل الحجيج قد انطلقت موليةً وجوهها شطر ديارها. امتطت ما سخّر الله لها جواً وبراً وبحراً. أحسن الله منقلبنا ومنقلبهم، وبلَّغهم ديارهم سالمين غانمين مأجورين غير مأزورين.
لقد أتم الله عليهم بفضله نعمته. حجوا بيت ربهم وأتموا نُسُكَهم في أمنٍ وأمانٍ، وراحةٍ واطمئنان. فالحمد لله على ذلك كثيراً.
وماذا بعد ـ أيها الإخوة ـ من أحق بالذكر والشكر ممن والى عليه ربه نعمه وهو يتأمل ويأمل في خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، بادرَ في تلبيته النداء، وسارع في الإجابة (لبيك اللهم لبيك).
يا هذا لقد قال ربك: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ) [البقرة:200] ليس لطاعة ربك زمن محدود، وليس لتقوى الله موسمٌ مخصوص، العبادة حقٌ على العباد لله مفروض، يعمرون بها كل أوقاتهم، ويستعملون فيها كل جوارحهم، ويخلصون فيها من كل قلوبهم.
كيف سيعود الحجاج إلى ديارهم؟ وما هي عزائم الخير التي انعقدت عليها قلوبهم؟ وكيف سيكون الكف عن نوازع الشر التي تختلج في نفوس بعضهم؟؟.
كيف يكون حال مسلم لا يعرف ربه إلا في أيام معلومات أو ساعات محدودات، ثم ينتكس بعدها في رجس المعاصي ويرتكس في أوضار الآثام؟؟.
أيها الأخوة، لإن تفاضلت بعض الأيام والشهور، وتضاعفت في بعض المواسم الأجور، فما ذلك إلا من اجل مزيد العمل وتنشيط الهمم، ليزداد فيها حب الطاعة ويستيقظ فيها أهل الغفلة.
ومن أجل محاسبة دقيقة ومعالجة لأحوال النفس صادقة. واختبارٍ للعمل بيِّنٍ، فهذه وقفةٌ مع فريضة من فرائض الله ليست مرتبطة بموسم، ولا موقوفة على مناسبة، فريضة ليست في العمر مرة ولا في العام مرة، بل ولا في اليوم مرة ولكنها في اليوم والليلة خمس مرات.
مفروضة على كل مسلم مكلف الغني والفقير، والصحيح والمريض، والذكر والأنثى، والمسافر والمقيم في الأمن والخوف لا يستثنى منها مسلم مكلف ما عدا الحائض والنفساء.
إنها قرة عيون المؤمنين، ومعراج المتقين، بل إنها قبل ذلك قرة عين سيد المرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
إنها الصلاة يا عباد الله. الصلاة الصلاة. أيها المسلمون!! ركن الدين وعموده، ((لا دين لمن لا صلاة له))، ((ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)) ، ((وليس بين الرجل والكفر والشرك إلا ترك الصلاة)) ، ((ومن ترك صلاة مكتوبة متعمداً برئت منه ذمة الله)).
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) هذه كلها أخبار وزواجر وآثار صحت عن نبيكم عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام.
من أراد أن يحاسب نفسه صادقاً فليتفقد نفسه في صلاته وصلته مع ربه. ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، إنها آخر ما يفقد العبد من دينه فليس بعد ضياعها والتفريط فيها إسلام. ومن أجل هذا فإنها أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة فإن قبلت قبل سائر العمل، وإن ردت رد سائر العمل.
الصلاة ـ حفظك الله ـ أول ما فرض على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من الأحكام. فرضت في أشرف مقام وأرفع مكان، لما أراد الله أن يتم نعمته على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويظهر فضله عليه أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله، ثم رفعه إليه وقربه فأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى. أعطاه من الخير حتى رضي، ثم فرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.
هي أول ما فرض وهي آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته وهو على فراش الموت منادياً: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)).
أيها المحاسب نفسه: الصلاة لم يُرخص في تركها لا في مرضٍ ولا في خوف، بل إنها لا تسقط حتى في أحرج الظروف وأشد المواقف في حالات الفزع والقتال والمسايفة والمنازلة: (حَـافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:238، 239]. الله أكبر رجالاً أو ركباناً، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها تومئون إيماءاً قدر الطاقة.
أما المريض فليصلِّ قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنبه، وإذا عجز عن شروطها من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة صلى بلا طهارة وبلا ستر عورة وإلى غير قبلة، فالصلاة ـ رعاك الله ـ لا تسقط بحالٍ ما دام العقل موجوداً.
الصلاة ـ أيها المحاسب نفسه ـ أكثر الفرائض ذكراً في القرآن، وإذا ذكرت مع سائر الفرائض قدمت عليها لا يقبل الله من تاركها صوماً ولا حجاً، ولا صدقةً، ولا جهاداً، ولا أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر، ولا أي عملٍ من الأعمال حتى يؤديها. هي فواتح الخير وخواتمه.
مفروضة في اليوم والليلة خمس مرات، يفتتح المسلم بالصلاة نهاره، ويختم بها يومه، يفتتحها بتكبير الله، ويختمها بالتسليم على عباد الله. بها افتتحت صفات المؤمنين المفلحين، وبها خُتمت: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـاشِعُونَ) [المؤمنون:1، 2]، ثم قال في آخر صفاتهم: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَواتِهِمْ يُحَـافِظُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ) [المؤمنون:9-11].
هذه هي الصلاة ـ يا عبد الله ـ وإنها لكذلك وأكثر من ذلك، ولماذا لا تكون كذلك؟ وهي الصلة بين العبد وربه، لذة ومناجاة تتقاصر دونها جميع الملذات، نورٌ في الوجه والقلب، وصلاحٌ للبدن والروح، تطهر القلوب، وتكفر السيئات، وتنهى عن الفحشاء والمنكر. مصدر القوة ومطردة الكسل: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ) [البقرة:153].
جالبة الرزق والبركة: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَـاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132].
خشوع وتعبد يمسح آثار الغفلة والتبلد، ونورٌ وهدايةٌ يحفظ ـ بإذن الله ـ من سبل الضلالة والغواية.
أيها المحاسب نفسه، يجتمع للمصلي شرف المناجاة وشرف العبادة وشرف البقعة في المسجد، لا يقعده عن الصلاة ظلمة ليل ولا وعورة طريق ولا صوارف دنيا: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة".
قد من الله عليهم فأقاموا الصلاة تكبيراً وتسبيحاً وذكراً وقرآناً في قيامٍ قانتٍ، وركوعٍ خاشعٍ، وتشهدٍ موحَّدٍ، سجود ومناجاة يتطلع معها إلى منزلة القرب من الله العلي الأعلى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) [العلق:19].
الصلاة هي المَفْزَع إذا حزب الأمر، وهي الملجأ إذا مسَّ اللغوب؛ "أرحنا بها يا بلال". امتلأت أرجاء المصلى بالهيبة، وسطعت جوانحه بنور الإيمان، وخالطت بشاشة الإيمان قلبه، يتدبر في صلاته قرآنه، ويرفع إلى مولاه دعاءه، ويخشع لربه في مناجاته، اجتمع همه على الله، وقرَّت عينه بربه. فقربه وأدناه.
مؤمنون مفلحون، في صلاتهم خاشعون، إذا قاموا إلى الصلاة أقبلوا على ربهم، وخفضوا أبصارهم، ونظروا في مواضع سجودهم، قد علموا أن الله قبل وجوههم، فهم إلى غير ربهم لا يلتفتون، لقد دخلوا على رب الأرباب وملك الأملاك، كل خير عنده، وكل أمر بيده، إذا أعطى لم يمنع عطاءه أحد، وإذا منع لم يعط بعده أحدٌ.
أيها المحاسب نفسه، هذا حال أهل الفلاح حين يناديهم منادي الصلاة والفلاح.
أين هؤلاء من مصلٍ لاهٍ لا يدري أخمساً صلى أم أربعاً؟؟ تسلَّط عليه الشيطان، وعششت في رأسه الصوارف ينتقل من وادٍ إلى وادٍ، ومن همٍّ إلى همٍّ، يقوم إلى صلاته ـ إن قام ـ وقلبه بغير الله متعلق، وفكره بسواه مشغول، يحرك لسانه ما لا يعي قلبه.
ويلٌ لهم عن صلاتهم ساهون، ويلٌ لهم يراءون ويمنعون الماعون، تحولت الصلاة عندهم إلى عادة، قلَّ عندهم فيها الاكتراث، وابتعدوا فيها عن التفقه والتفقد.
فيا لطول حسرة من ضيع صلاته، ويله ماذا ضيع؟ لقد ضيع ركن دينه، ويحه ما أعظم خيبته، وما أشد غفلته، حُرِمَ قرة العين، وراحة البال، وبرد اليقين.
أما سمع الزواجر؟؟ (مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ) [المدثر:42-43].
يسمع منادي الصلاة والفلاح ثم يدبر ويتولى وكأنه المعنيُّ بقوله تبارك وتعالى: (فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَـاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّىا أَوْلَىا لَكَ فَأَوْلَىا ثُمَّ أَوْلَىا لَكَ فَأَوْلَى) [القيامة:31-35]. (وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ) [المرسلات:48-49].
أيها المحاسب نفسه، قد علمت أن التكاسل والتهاون وقلَّة الذكر والفكر صفاتُ المنافقين: (إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَواةِ قَامُواْ كُسَالَىا يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:142].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فلا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة ومن ضيع صلاته فهو لما سواها أضيع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة:45، 46].
الحمد لله له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأتوب إليه وأستغفره يغفر كبائر الإثم وصغائره. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، جمَّل الله خَلْقه وخُلُقه، وجمع به القلوب المتنافرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، هم النجوم السائرة والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أيها المسلمون: للصلاة في الدين المنزلة العلية، والرتبة السنية، فهي عمود الإسلام، وركن الملة، من أدى حقها، وأتم ركوعها وسجودها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي ربه بقلبه وقالبه كانت قرة عينه وحلاوة قلبه وانشراح صدره. قد حفظها وحافظ عليها.
وفي حديث آخر: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة".
ومن المحافظة عليها إتمام أركانها وشروطها وواجباتها وسننها، والطمأنينة فيها، واجتناب مسابقة الإمام أو مقارنته في أفعالها.
يقول ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما: "الصلاة مكيال، فمن أوفى استوفى، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين".
وإن من المحافظة عليها أمرَ الأهل بها والأقربين وبخاصة من تحت يده من البنين والبنات، والأخذ على يد المفرط منهم: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه:132].
حتى الصبي الذي لم يبلغ له فيها حق وعلى ولي أمره فيها تكليف: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر".
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، و"أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها"، بذلك صح الخبر عن نبيكم محمد رسول الله الذي أمركم ربكم بالصلاة عليه والتسليم فصلوا عليه وسلموا كما أمركم الله إن الله وملائكته يصلون على النبي اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي