لقدْ كانَ أيوبُ -عليهِ الصلاةُ والسلامُ- رجلًا كثير المالِ؛ عندهُ الأراضي الواسعة والأنعام والمواشي وكانَ بأرضٍ -البثْنِيّةِ بأرضِ حوران بالشّام-، فابتلاهُ اللهُ بفقدِ ذلكَ كلِّهِ مع أنواعِ البلاءِ في جسدهِ، حيثُ لمْ يبقَ موضِعا إلّا وطَالهُ الأذى سِوى لِسانَهُ وقلبَهُ، وكان يذْكُرُ اللهَ بِهِمَا ويُسَبّحُ ليلًا ونهارًا وصباحًا ومساءًا؛ حتى عافَهُ جلساؤهُ؛ لما يظهر منه من...
إِنّ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدهِ اللّهُ فلا مُضِلّ لهُ، ومنْ يُضْلِلْ فلا هَاديَ لهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ، صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آلعمران:102].
أيّها المؤمنونَ: لقدْ قصّ اللهُ -جلّ وعلا- علينا في كتابِهِ الكريمِ قَصَص الأنبياءِ والمرسلينَ لناخذَ منها الدّروسَ والعِبَر ولِتثبيتِ فُؤَادِ النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- ولتقويةِ إيمان المؤمنينَ على مرّ الزّمانِ، وصدقَ اللهُ العظيمُ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف:111]، وقالَ رَبُّنَا -جلّ وعلا-: (وَكُلًا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود:120].
ومنْ هؤلاءِ الأنبياءِ نبيُّ اللهِ أيّوبَ -عليهِ الصلاةُ والسلامُ- وفِي سياقِ ذكرِ قصتِهِ قالَ رَبُّنَا -جلّ وعلا-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَأَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء:84]، وَقَالَ رَبُّنَا -جلّ وعلا-: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَاب *ٍ ارْكُض بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَاب * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَث إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّاب)[ص:41-44].
لقدْ كانَ أيوبُ -عليهِ الصلاةُ والسلامُ- رجلًا كثير المالِ؛ عندهُ الأراضي الواسعة والأنعام والمواشي وكانَ بأرضٍ -البثْنِيّةِ بأرضِ حوران بالشّام-، فابتلاهُ اللهُ بفقدِ ذلكَ كلِّهِ مع أنواعِ البلاءِ في جسدهِ، حيثُ لمْ يبقَ موضِعا إلّا وطَالهُ الأذى سِوى لِسانَهُ وقلبَهُ، وكان يذْكُرُ اللهَ بِهِمَا ويُسَبّحُ ليلًا ونهارًا وصباحًا ومساءًا؛ حتى عافَهُ جلساؤهُ؛ لما يظهر منه من الرائحةِ الكريهة، واستوحشَ منه أقربُ الناسِ إليهِ؛ بل ورُمِيَ في مزبلةٍ خارجَ البلدِ.
ولم يبقَ معهُ سِوى زوجتَهُ التي كانت تحفظُ حقّهُ، وتُشفِقُ عليهِ، وتجازيهِ إحسانه السابق، وتَحوطهُ وترعاهُ وتقومُ عليهِ، وكانتْ تعملُ بالأجرِ عندَ النّاسِ، وتحضرُ له الطّعام، معَ الصّبر على فراق المال والولد.. حتى وصلَ بها الحالُ أنْ باعتْ إحدى ضفيرتيها لتشتري بثمنِها طعامًا وكان شعرُ النساءِ غاليًا في ذلك الوقت ولمْ تخبرهُ بذلكَ ثمّ باعت الثّانية، فلمّا لم ير ضفيرتيها سألها وحلفَ عليها أنْ تُخْبِرهُ فأخبرتهُ الخبر.
وهنا دعا ربّهُ -سبحانه وتعالى- (أنّي مسّنِيَ الضُرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ)، فجاءهُ الفرجُ عاجلًا (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وشَرَابٌ)، فلما ضربَ الأرضَ برجله ضربةً أنبعَ اللهُ عينًا بارِدةً، وأمرهُ أن يغتسلَ فيها ويشربَ منْ مائِها، فأَذهبَ اللهُ عنْهُ ما كانَ بجسدهِ منَ الألمِ والأذى والسّقم ظاهرًا وباطنًا، ووهبهُ جمالًا تامًا ومالًا كثيرًا، حتّى صبّ لهُ منَ المالِ مطرًا عظيمًا، وهو جَرادٌ من ذهبٍ.
جاءَ في الحديثِ الصحيحِ الذي رواهُ أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما أيوبُ يغتسِلُ عُريانًا، فخرّ عليهِ جرادٌ منْ ذهبٍ، فجعلَ أيوبُ يحثي في ثوبِهِ منه، فناداهُ ربّهُ: يا أيوبُ ألمْ أكنْ أغنيْتُكَ عمّا ترى؟ قال: بلى وعزّتِكَ وجلالِك، ولكن لا غِنى لي عنْ بَرَكَتِك: ولما رأتهُ زوجتُهُ قالتْ: أيها الرجل ألا ترى رجلًا يُشبَهُكَ يُقالُ لهُ أيّوب؟ قال: أنا أيوبُ، قالت: أتهزأُ بِي إنهُ مريض! ثم عرفتهُ، وأخلفَ اللهُ لهُ أهلهُ، قال تعالى: (وأتيناهُ أهْلَهُ ومِثْلَهُم مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنَدِنا وذِكْرى لِلْعَابِدِين)[الأنبياء:84]، قيل: أحياهمْ بعدَ موتهم بأعيانِهم، وقيلَ: عوّضهُ اللهُ عنهمْ في الدنيا بدلهم، وقيلَ غير ذلك؛ رحمةً من اللهِ وفضلًا وإحسانًا ورأفةً وذكرى للعابدين.
عباد الله: هذه القصةُ العجيبةُ فيها من الدروسِ والعبرِ الشيء الكثيرَ، ومن ذلك:
ابتلاءُ الله نبيّه أيوبَ -عليهِ السّلام- ذلك البلاء الذي لم يزدهُ إلا صبرًا واحتسابًا وحمدًا وشكرًا؛ حتى أصبحَ يُضْربُ بهِ المثل فيُقال: "صبرُ أيوب".
قال بعض التابعين: "تساقط لحْمُهُ حتى لمْ يبقَ إلا العظم والعصب"، وقد قيل: أنه لبثَ في بلائِهِ ثمانيةَ عشرَ عامًا، وكانَ مِن أمرهِ أنْ رفضهُ كلّ منْ حولهُ إلا زوجته وبقيَ معهُ شخصان مِن أوفَى أصدقائِهِ وكانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدُهما: لقد أذنبَ أيوبُ ذنبًا عظيمًا منذُ ثمانيةَ عشَر عامًا لمْ يرحمهُ اللهُ فيكشف ما به، فلما وصلا إلى أيوب أخبرَ أحد الرجلينِ بمقالةِ صاحبِهِ، فقال أيوبُ: "واللهِ ما أدرِي ما تقولان عنّي غيرَ أنّ اللهَ -جلّ وعلا- يعلمُ أَنّي كنتُ أمرُّ على الرجلينِ يتنازعان فيذكرانِ الله، فأرجعُ إلى بيتي فأُكَفّرُ عنهما وهما لا يعلمان؛ كراهيةَ أنْ يُذْكر اللهُ إِلّا في حقٍ".
عبادَ اللّه: البلاءُ قدْ يكونُ نِعْمَةً على الإنسانِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعظمُ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ثمّ الصالحونَ، ثمّ الأمثلُ فالأمثل، يُبْتلى الرجلُ على حسبِ دينِهِ فإنْ كانَ في دينِهِ صَلابةً زيدَ في بلائَهِ، وإن كانَ في دينِهِ رِقّةً خُفِّفَ عنهُ، وما يزالُ البلاءُ بالعبدِ حتى يمشي على ظهرِ الأرضِ ليسَ عليهِ خطيئة".
أقولُ لكلّ من ابتُليَ في ماله وولدهِ ونفسهِ: اصبرْ واحتسبْ؛ فالعِوَضُ من اللهِ -جلّ وعلا-، وصدَق اللهُ العظيم (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ والثّمَرَاتِ وبَشّرِ الّصّابِرِينَ * الّذينَ إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالوا إِنّا لِلّهِ وإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة:155-157].
بارك الله لي ولكم في القرأن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الأيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ سيدنا محمد وعلى أله وصحبهِ أجمعينَ.
أمّا بعد: كلّ من أصيبَ بمصيبةٍ وصبرَ عليها واحتسبَ واسترجعَ عوّضهُ الله خيرًا، جاءَ في الصحيحِ من حديثِ أُمّ سلمةَ -رضي الله عنها-: "مَا مِنْ مسلمٍ تُصِيبهُ مصِيبةٌ فيقولُ مَا أمَرهُ اللهُ إنّا لِلّهِ وإِنّا إليْهِ راجِعُونَ اللهُمّ أجرني في مُصيبَتي واخْلُف عليّ خيْرًا مِنْها، إلّا أخلَفَ اللهُ لهُ خَيْرًا مِنْها" قالتْ أمُّ سَلَمَةَ: فلمّا توفي أبو سلمةَ قلتُ: مَنْ خير من أبي سلمةَ صاحبُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ ثم عَزَمَ الله علي فقلتُها، قالتْ: فتزوجتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خيرًا من أبي سلمة.
ينبغي للزوجاتِ أنْ يصبرنَ على مرضِ أزواجهنّ وعلى فقرهم، وأي شيء يعترض لهمْ في هذهِ الحياة؛ فالزوجة الصالحة الصادقة الصابرة الوفية لها في زوجة أيوب أسوة وقدوة؛ حيثُ صبرتْ واحتسبتْ، فكشفَ اللهُ الغُمّةَ وأزالَ الكُرْبَةَ.
اللهُ -جلّ وعلا- يجعلُ لِأوليائِهِ من كلّ ضيقٍ مخرجًا، ومنْ كلّ همٍ فرجاً؛ فأيوبُ لما حلف أنْ يضربَ امرأتَهُ مائة سوطٍ جاءهُ الفرجُ من اللهِ أن يأخذَ ضِغثًا -وهو شِمراخُ النّخل-،ِ ويضربُها به ضربةً واحدةً ويكونُ هذا بمثابة الضرب مائة سوط، وهُنا بَرّ يمينه وهذا فضلٌ من اللهِ لهذهِ المرأة الصابرة البارّةُ الوفيةُ، قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص:44]
الثناءُ على الأشخاصِ فيهِ قدوة لمنْ جاءَ بعدهم ليقتدوا بهم.
الأنبياء لا يملكونَ لِأنفسهمْ ضَرًّا ولا نفعًا؛ فكيفَ بِغيرِهمْ ممن هو دونهم، وهذهِ رسالة لِأولئك الذين يتوسلونَ إلى أهلِ القبورِ ويدعونَ عندهم؛ فالأمرُ للهِ من قبلُ ومن بعدُ، وهؤلاءِ لا ينفعونَ أنفسهم؛ فكيف ينفعونَ غيرهم؟ النفع بيد الله -جلّ وعلا-؛ الأمر أمره والكون كونه والرزق والأجل والسعادة والحياة والموت بيده -سبحانه وتعالى-.
عند الضوائقِ والمُلِمّاتِ يتأكدُ اللجوءُ إلى اللهِ والفزع إليه والتضرُّعُ له والانطراحُ بين يديهِ، وأنْ يخرّ العبدُ ساجِدًا يسألُ ربّهُ ويدعوه بصدقٍ وإيمان؛ فإذا ألمت بك مصيبة أو نزلت بك نازلة فانطرح بين يدي الله -سبحانه- وادعه، وأنتم ألحوا على الله -جلّ وعلا- واطلبوا الغيث.
هذا؛ وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصْطفى، فقدْ أمركمُ اللهُ بذلكَ فقالَ تعالى (إنّ اللّهَ وملائِكتَهُ يُصَلّونَ على النّبِيّ يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صلي وسلم وزد وبارك على عبدك وحبيبك محمد وعلى إله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بجودك وكرمك يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعدائك أعداء الدين، واجعل هذا البلد أمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي