وأما الحدث الخامس الذي حدث صباح هذا اليوم: فهو قيام ملك في الصباح بالدعاء لكل منفق بالخلف، وقيام آخر بالدعاء على كل ممسك بالتلف، وهو حديث خطبتنا اليوم؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا...
كنت معكم في سلسلة من الخُطب، عن أهم الأحداث الصباحية والمسائية التي حدثت في الكون عامة، وعلى وجه الأرض خاصة، وهذه الأحداث تبين أن هناك نداءات لعامة البشر تتكرر كل صباح لا يعرفها إلا المؤمنون، فحري بنا أن نعرفها ونستجيبَ لها؛ لئلا نسأل عنها يوم القيامة، وهذه الأحداث لم تبثها وسائل الإعلام المختلفة، وإنما بثها لنا الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-.
وقد ذكرت لكم حتى اليوم أربعة أحداث كونية حدثت هذا الصباح، بل وتحدث كل صباح، أما الحدث الأول: فهو عرض مقاعد الموتى على أصحابها إن كانوا في الجنة أو النار.
وأما الحدث الثاني: فقد تمثل في قيام جميع المخلوقات بتسبيح الله -تعالى- إلا الشياطين وأغبياء بني آدم.
وأما الحدث الثالث: فهو قيام أعضاء جسم كل ابن آدم على وجه الأرض بتخويف اللسان بالله -تعالى- ومناشدته أن يقول خيرا.
وأما الحدث الرابع: فهو قيام مَلَك من الملائكة بمناداتنا منذ الفجر لإطفاء النيران التي أوقدناها على أنفسنا.
وأما الحدث الخامس الذي حدث صباح هذا اليوم: فهو قيام ملك في الصباح بالدعاء لكل منفق بالخلف، وقيام آخر بالدعاء على كل ممسك بالتلف، وهو حديث خطبتنا اليوم؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"(متفق عليه).
إن من كرم الله -عز وجل- أن أغدق على المتصدقين بالثواب في الدنيا والآخرة، وأن المتصدق ينفع نفسه بصدقته أكثر من انتفاع الفقير بها، ويشير الحديث إلى الوعد بالتيسير لمن أنفق في وجوه الخير، والوعد بالتعسير لمن فعل عكس ذلك.
أما الفوائد التي يجنيها المتصدق في الدنيا من صدقته فهي كالآتي:
أن الصدقة ستنمي ماله؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقص مال من صدقة"، بل هي نفقة مخلوفة لوعد الله -عز وجل-: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)[سبأ:39].
أن الصدقة التي أنفقها ستدفع عنه البلاء، وتقيه مصارع السوء، وتدفع الكرب عن صاحبها؛ وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة"(رواه الحاكم).
أن الصدقة علاج من الأمراض؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "داووا مرضاكم بالصدقة"(رواه الطبراني والبيهقي).
أن الصدقة والزكاة تطلق سراح المطر من قيد السحاب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر"(رواه الحاكم).
إن فيها دواء للأمراض القلبية؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- لمن شكا إليه قسوة قلبه: "أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك"(رواه أحمد).
أن استغناء الفقراء في المجتمع تأمين على أموال الناس من السرقة كما هو تأمين من دعاء المحرومين من حقهم في الصدقة على أصحاب هذه الأموال بالخسارة.
أما أهم الفوائد الأخروية للصدقة فأجملها في الآتي:
أنها تطفئ غضب الرب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صدقة السر تطفئ غضب الرب"(رواه الطبراني).
أنها تظلل صاحبها يوم القيامة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل امرء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس"(رواه أحمد والحاكم).
أنها تكمل النقص الحاصل في الزكاة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة يقول ربنا -عز وجل- لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم"(رواه أحمد وأبو داود والنسائي).
أنها تقي صحابها من النار؛ لقوله -تعالى-: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)[الليل:17-18]، وكما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث زكريا -عليه السلام- لقومه في بيت المقدس الذي قال فيه: "إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، -فذكر منها-: "وأمَرَكُمْ بالصَّدَقةِ ومَثَلُ ذلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أسَرَهُ العَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنْقِهِ وقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فقالَ لَهُمْ: هلْ لكمْ أنْ أفْتَدِي نَفْسِي مِنْكُمْ؟ فجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بالقَليلِ والكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ"(صحيح الجامع).
أنها تطفئ الخطيئة وتذهب نارها عن المتصدق؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-وهو يوصي معاذ بن جبل فكان مما قاله: "ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النار"(رواه أحمد والترمذي والحاكم).
أن ثوابها في الميزان سيكون كبيرا، وهي مما يُثقّل الميزان؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً تَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ"(متفق عليه).
وتأملوا كم نسبة التمرة إلى الجبل؛ لتدركوا فضل الله -تعالى- في مضاعفة الثواب خصوصا الصدقة التي يضاعفها إلى أضعاف كثيرة.
أن من يشتهر بالصدقة سيدعى لدخول الجنة من باب الصدقة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة"(رواه البخاري).
فمن تأمل كل هذا الثواب وأنفق من ماله مبتغيا وجه الله، فليبشر بتحقق دعاء الملك الأول له حين يقول منذ الصباح: اللهم أعط منفقا خلفا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي يجزي المتصدقين، ويخلف على المنفقين، ويحب المحسنين، ولا يضيع أجر المؤمنين، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى وتقربوا إلى الله -تعالى- مما رزقكم من أموال، واعلموا أن من تنصل عن التصدق بعد هذه الفضائل التي جاءت في ثواب المتصدقين؛ فليحذر من دعاء الملك كل صباح: "اللهم أعط ممسكا تلفا".
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الأغنياء ستتغير حالهم يوم القيامة إن بخلوا بمالهم، فقد روى أبو ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الأَكْثَرُونَ هُمْ الأَسْفَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَكَسَبَهُ مِنْ طَيِّبٍ"(البخاري ومسلم واللفظ لابن ماجه).
كما هدد النبي -صلى الله عليه وسلم- بزوال النعم عن الذين لا يبذلون بعضها في وجوه الخير؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم"(رواه ابن أبي الدنيا والطبراني).
ألا تعلموا أن المسلم عندما يموت وقد حرم نفسه من التصدق أنه سيتمنى لو تعاد له الحياة ليتصدق؟
ولقد نقل الله -تعالى- لنا أمنيتهم هذه في قوله -تعالى-: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون:10-11].
لقد اقتنعوا -ولكن بعد فوات الأوان- أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله -عز وجل-، وأنها تطفئ غضب الرب جل وعلا، وأن العبد سيُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فتمنوا الرجعة ليقدموا صدقتهم بعد أن منعوها الفقير، وصرفوها على شهواتهم وسياحتهم، (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ)[المنافقون:10].
تمنى الرجعة؛ لأنه عرف أن الصدقة تباهي سائر الأعمال وتفضلهم، فقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ذُكر لي أن الأعمال تباهى فتقول الصدقة: أنا أفضلكم"(رواه ابن خزيمة والحاكم).
تمنى الرجوع إلى الدنيا فقط ليتصدق؛ لعله علم عِظَم ثوابها، أو عظم عقاب المفرط فيها، إنها أمنية مليئة بالحسرة والأسف، ولكنها جاءت متأخرة.
اللهم قنا شح أنفسنا، وألهمنا رشدنا، وبارك لنا في رزقنا.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا.
اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا.
اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي