إن حياتنا اليومية تعج بصور من الجهالات والمخالفات التي ربما ظن كثير من الناس أنها عين الصواب والسداد؛ فثمة مرموق له بضع سنين لا يغتسل من الجنابة، ومثقف لا زال يعتقد شفاءه وصلاحه عند ساحر خبيث، وخريج جامعة لا يحسن قراءة القرآن، وطبقة كبيرة من الناس...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].
أيها الناس: لقد تعاظمت صور الجهالات في حياة المسلمين اليوم إلى درجة كبيرة، بحيث نُعت الجاهل بالعلم، وأصبح جراب الحمق حراب فهم ووعي، وأُصغي لذوي الدجل والتلفيق يتكلم الجاهل في أمور لا يحسنها، ويحلل قضايا جليلة كأنه عالم بها، ويفتي في الشريعة لكأنه شيخها وقطبها صار الجهل في هذا الزمان علماً، والعي فهما ونظراً، والحماقة ثقافة وفخامة!
لم يكف الجاهل عن بث الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وذاك الأحمق يفيض رديء التحاليل والآراء والمقترحات، وفدْم متعلق بإرث الآباء والأجداد، يفتي به ويصادم به الأحكام الشرعية في قضايا كثيرة.
أيها الإخوة الكرام: إن حياتنا اليومية تعج بصور من الجهالات والمخالفات التي ربما ظن كثير من الناس أنها عين الصواب والسداد فثمة مرموق له بضع سنين لا يغتسل من الجنابة، ومثقف لا زال يعتقد شفاءه وصلاحه عند ساحر خبيث، وخريج جامعة لا يحسن قراءة القرآن، وطبقة كبيرة من الناس، يقرأون جارفات الأوقات ولا زالوا جهلة بأمور الوضوء والصلاة، يمهر منهم أمور الحياة ودقائقها، ويدرك أكثرهم سفاسفها وترهاتها.
أما أمور الدين فكما قيل:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم *** ولا يستأمرون وهم شهودُ
يا مسلمون: إن الجهل ظلمة وحيرة واضطراب، يودي بالإنسان إلى درك الخيبة والشقاء والدمار!
عجيبٌ ما يصنعه بعض الآباء من صرف نبوغ الأبناء إلى نواقض العقول وصوارفها عن العلو والنضج والنماء!
لماذا نقوم على أبنائنا بالطعام والشراب واللهو واللعب، ونقصر في هدايتهم بأنوار الشريعة وهدايات الوحي؟
إن العجب لا ينقضي من فئام سمنوا أبناءهم، وروّحوا أجسادهم فلهت ولعبت! لكنهم جهال خرقاء بأمور دينهم وشريعتهم، فلا بأس بهم من عضلات مفتولة، ويا ويحهم من عقول مرذولة مطروحة!
يتقاعس كثيرون عن اللقاء بالعلماء وسؤالهم أو الاتصال بهم، ويرضون أن تؤدي العبادة بأي طريقة المهم أن تنقضي العبادة وتستريح النفس.
أين العقلاء الذين عركتهم الحياة، وتلقوا دروسا من نكبات الجهل ورزاياه، حصدوا من جهلهم بالدين صنوف التعب والنصب والأوجاع، ولم يكترثوا لذلك؟
لكن إذا فشل في تجارته أو نزلت به ضائقة اغتم واهتم وأعمل كل قواه وقدراته لمواجهتها وحل أشكالها!
إن المسلم العاقل همه وشغله طاعته لربه، وتفكيره صحتها وسلامتها، هذا هو طالب النجاة وراجي الخير والجنة، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
إن أكياس الناس هم من تنفضهم الأزمات، وتحركهم نكبات الحياة وكروبها! أن تخبط الجاهل وعثاره في موقف واحد كافً في دعوته إلى العلم وطلب الفقه في الدين.
ذكر أهل السير والتراجم قصةً عجيبة وقعت للإمام الفذ "العز بن عبد السلام" -رحمه الله- في أول حياته، نبهته من غفلته وكشفت له عن رداءة الجهل، وعدم الفقه في الدين بل دفعته إلى علاء مجيد، تقصده الآمال، وتطلبه الأماني والرغبات، حتى لُقِّب بـ "سلطان العلماء".
ذكروا أن الشيخ العز بن عبد السلام كان فقيراً في أول أمره، وكان يبيت في الكلاسة من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد، فاحتلم، فقام مسرعاً في بركة الكلاسة وكان ماؤها باردا جدا، فحصل له ألم شديد من شدة البرد، وعاد فنام فأحتلم ثانياً، فعاد إلى البركة، فاغتسل، فأغمى عليه من شدة البرد، قال المترجمون: ربما وقعت له ثلاث مرات، قال: ثم سمع النداء في المرة الأخيرة: يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقال الشيخ عز الدين: العلم لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح وأخذ التنبيه فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم، فكان أعلم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله -تعالى-.
أيها الإخوة: ومن صور الجهالات: ترويج الكتب الضالة، والنشرات الفاسدة التي يختلقها أصحاب الأهواء، وذوو المقاصد الذميمة، لكي يضلوا الناس، ويفسدوا عليهم دينهم، فالواجب التثبت والتبين، عند نشر هذه النشرات، والتأكد من مصادرها وصحتها، بسؤال أهل العلم والخبرة والاختصاص، قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 7].
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضى...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المسلمين: إنَّ طلب العلم وابتغاء الفقه في الدين منبع كل خير وفضل، هو السلامة لتصحيح العبادة، يقيكم كثيراً من الأخطاء والمخالفات؛ جاء في الصحيحين من حديث معاوية -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
إنك -أيها المسلم- إذا أردت السفر إلى جهة ما سألت عن سبيلها وموقعها حتى تسلم الأخطاء وتحافظ على الأوقات، ولماذا إذا أديت العبادة لا تسأل عن فقهها وأحكامها.
تمر عليك السنون الطوال لا تبالي بحال عباداتك ومعاملتك لربك! أما تخشى الوفاة على الجهالة العمياء، والركون إلى الدنيا والأقدار تذكر أن تعلمك الآية أو الحديث أو المسألة الشرعية، طريق حميد إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له طريقاً إلى الجنة".
اعلم -أخي رعاك الله- أن طلب العلم من أطيب لذائذ الحياة، وأبهى محاسنها، روى الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكرَ الله وما والاه وعالما ومتعلما".
لماذا تستكثر حضور درس، أو محاضرة لتتعلم أمر دينك، أو تستثقل سماع شريط إسلامي ينفعك ويهديك؟!
أظنك لو أدركت عظمة الثواب المخبوء، وراء ذلك لسارعت سراع الهيمان المتلهف؛ أخرج الطبراني في معجمه الكبير بإسناد لا بأس به عن أبي إمامة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه، كان له كأجر حاج تاما حجته".
أيها الإخوة الكرام: لقد جعلت الشريعة الإسلامية للعلم قيمة مطلقة، واعتبرته أغلا سلعة في الوجود وأثمن وأنفس من كل متاع موجود: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].
ولم يأمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالازدياد من شيء في هذه الحياة الدنيا، سوى العلم: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه: 114].
أبا بكر دعوتك لو أجبتا *** إلى ما فيه حظك لو عقلتا
إلى علم تكون به إماماً *** مطاعاً إن نهيت وإن أمرتا
ويجلو ما بعينك من غشاها *** ويهديك الطريق إذا ضللتا
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر: 9].
وصلوا وسلموا -يا عباد الله-...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي