إن الجوار يقتضي حقاً ما تقتضيه أخوة الإسلام، فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة بالمجاورة، وليس حق الجوار كفُّ الأذى فقط، بل احتمال الأذى والرفق، وابتداء الخير، وأن يبدأ جاره بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].
أيها المسلمون: شيد رجل من المسلمين داراً حسناء، جمَّلها وأحسنها وأبهاها، ثم تعكرت حياته فباعها بأرخص الأثمان، وأبخس الأسعار، نسى جدتها، وعافَ حُسنها وكرِه سكناها، وتمنى كل خلاص منها!
ما السبب؟! هل افتقر فألجأته الحاجة؟ أم اغتنى فأطمعته النفس الراغبة؟
كلا، بل أبغض الدار لفعائل جاره وأذاه، إذ ضاق وسعها، وتكدر حلوها، وتنغص صفاؤها، وتغيرت أشكالها.
زهد الجار الصالح في الدار والمال؛ لأنه لم يهدأ له بال، ولم يقرَّ له قرار، فباع داره فلامه الناس والعذال:
يلومونني أن بُعتُ بالرخص منزلي *** وما علموا جاراً هناك ينغِّصُ
فقلت لهم كفوا الملامَ فإنها *** بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
تعالت اللعنات على جار سوء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-! آذى جاره، وكدَّر حياته، وعكَّر أحواله، أخرج أبو داود في سننه، والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشكا إليه جاراً له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات: اصبر، ثم قال له في الرابعة أو الثالثة: اطرح متاعك في الطريق ففعل. قال: فجعل يمرون به ويقولون: مالك؟ فيقول: آذاه جاره، فجعلوا يقولون: لعنه الله! فجاءه جار فقال: رُدّ متاعك لا والله لا أوذيك أبداً".
أيها المسلمون: إن حقوق الجار انسحقت في هذه الأزمان عند كثير من الناس، فعمّ أذى الجيران، وفشت الخصومات، وقامت المكائد والشتائم والسخائم بشتى الألوان والأشكال.
جار سوء كشف على محارم جاره، آذاه بفعاله وكلامه، أرسل أبناؤه لمكيدة الجار وضره، لا يعرف الوداد والإحسان ولا حق الجار والإخوان، قال صلى الله عليه وسلم: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! من لا يأمن جاره بوائقه" (أخرجاه) (وبوائقه: شروره وأذاه).
قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بنار تلظى لمن ارتدى العار والشنار وآذى الغريب والجار، أخرج الإمام أحمد وابن حبان بسند صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: "هي في النار".
أيها الناس: إننا نشاهد زمناً كثرت خطوبه، واشتدت نكباته، غابت الأخلاق، وانعدمت المروءة، وقلّ الوفاء والشهامة والمعروف! يود المسلم بذل نفائس الأشياء ليظفر بجار مسلم صالح، يُدرك معروفه, ويرى خيره، ويأمن على محارمه ويعينه على طاعة الله.
إن من رغد العيش وطيب الحياة، وتمام السعادة؛ حصول الجار الصالح المبارك في هذه الأيام، أخرج ابن حبان والخطيب بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء".
معاشر المسلمين: إن الجوار يقتضي حقاً ما تقتضيه أخوة الإسلام، فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة بالمجاورة، وليس حق الجوار كفُّ الأذى فقط، بل احتمال الأذى والرفق، وابتداء الخير، وأن يبدأ جاره بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه في الفرح، ويصفح عن زلاته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه في وضع الخشب على جداره، ولا في صب الماء في ميزابه، ولا في طرح التراب في فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عورته، ولا يتسمّع عليه كلامه، ويغض طرفه عن حرمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب.
أنت خلّي وأنت حُرمة جاري *** وحقيقُ عليَّ حفظُ الجوارِ
إن للجار إن تغيَّب عيناً *** حافظاً للمغيب والأسرارِ
ما أبالي إن كان للباب ستر *** مسبلٌ أم بقىِ بغير ستِارِ
قال صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" (أخرجاه)، وفيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره"، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك"، وفي لفظ ابن حبان: "فإنه أوسع للأهل والجيران".
إنه لأدب رفيع أن تُحسن إلى جارك وتتصدق عليه فتطعمه مما تطعم، وتفرحه إذا فرحت وتهدي إليه إذا أهديت لأبنائك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الحمد لله حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: كان رسولكم -صلى الله عليه وسلم- مثالاً فريداً في الإحسان إلى الجار وحفظ حقوقه ورعاية مصالحه والسؤال عنه، بل كان يعود جيرانه من اليهود والمشركين ويجيب دعوتهم ويحسن عشرتهم، ويتصدق عليهم ويهدي إليهم، ويهش لهم إذا لاقاهم ويخصهم بالخير.
آذاه جيرانه في مكة فخرج إلى الطائف فسلطوا عليه سفهاءهم، يرمونه بالحجارة فيجد من الأذى والشدة ما لا يجده في غيره، ويأتيه جبريل يستأمره بإطباق الأخشبين عليهم فيمتنع من ذلك عليه الصلاة والسلام.
ولقد حقق السلف الصالح والكرام حق الجوار أتم تحقيق وأحسنه، إذ كانوا أكثر مراعاة لحقوق المسلمين وحرماتهم ومصالحهم، قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9].
وقد ذكر الخطيب البغدادي -رحمه الله- في تاريخه قصة وقعت لأبي حنيفة -رحمه الله- مع جار له، قال: كان لأبي حنيفة بالكوفة إسكافي أي صانع يعمل نهاره حتى إذا جن الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحماً فطبخه، أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب حتى دبَّ الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول:
أضاعوني وأيَّ متىّ أضاعوا *** ليوم كريهةٍ وسِدِاد ثغرِ
فلا يزال يشرب ويردِّد هذا البيت حتى يأخذه النوم, وكان أبو حنيفة يصلي بالليل ويسمع جَلَبته، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه فقيل: أخذه العسَسَ منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ وركب بغلته واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له وأقبلوا به راكباً ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل، فلم يزل الأمير يوسع له من مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ قال: لي جار أخذه العسَس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم، وكل من أُخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة والإسكافي يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه وقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان.
وذُكر أن محمد بن الجهم عرض داره للبيع بخمسين ألف درهم، فلما حضر الشارون لشرائه قال لهم: قد اتفقنا على ثمن الدار فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقيل له: والجوار يباع؟ قال: وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك، وإن أسأت إليه أحسن إليك، فبلغ سعيد بن العاص فوجه بمائة ألف درهم وقال له: أمسك دارك عليك، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي