الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن سار على طريقته ونهجه، وعنا معهم بمنك وعفوك وكرمك. أما بعدُ: فيا عباد الله: (
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. واعلموا -يا رعاكم الله- أن صلة الرحم من أسباب دخول الجنة، ومن أسباب الفلاح، ومن أسباب البركة في النفس والأهل والمال، ومن أسباب السعادة في الدنيا والسعادة في الآخرة، قال الله -جل وعلا-: (
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى)
[النساء: 36]. وقد جاء عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- كما في الصحيحين، قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله دلني على عمل إن عملته دخلته الجنة؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-" وتأموا معي -يا رعاكم الله- كيف قرنَ الصلة بهذه الأعمال الجليلة؟ قال: "
تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "
الرحم متعلقة بالعرش، تقول: اللهم صل مَن وصلني، واقطع مَن قطعني"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "
من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه". فصلة الرحم -يا عباد الله- من أسباب البركة في الوقت، فتجد بعض الناس ممن وفقه الله -جل وعلا تقدست ذاته وأسماؤه وصفاته- ممن بر بأقاربه ووصل أقاربه تجده مباركًا في حياته، وتجد له أعمالًا جليلةً، موفقا في قوله وعمله، وإذا بحثتَ عن سر ذلك وجدتَ أن من الأسرار أنه ممن يصل رحمه، وتجد أن ماله مباركًا ولو كان قليلًا، وإذا بحثتَ عن السر وجدتَ أنه من الواصلين لأرحامهم: "
من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه". والنبي -صلى الله عليه وسلم- اهتم بهذا الأمر، أعني صلة الأرحام منذ بداية دعوته صلى الله عليه وسلم، واتصف به صلوات ربي وسلامه عليه، فعندما نزل عليه الوحي وأتى إلى خديجة -رضي الله عنها- وقال: "
زملوني"، فقالت خديجة -رضي الله عنها-: "
كلا واللهِ، لا يخذيك اللهُ؛ إنك لتصل الرحم"، فصلة الرحم من أسباب دفع الكروب والهموم والغموم عن الأحزان. وكذلك اهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- بتوجيه الناس إلى ذلك في بداية دعوته، فقال عمرو بن عبسة عندما سمعتُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتيتُ إليه أول بعثته، فدخلتُ عليه وقلتُ: ما أنتَ؟ قال: "
نبي" قلتُ: وما نبي؟! قال: "
أرسلني الله" قال: وبم أرسلك؟ قال: "
أرسلني بصلة الأرحام، وتكسير الأوثان، وأن يعبد الله وحده". وعندما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الناس إلى ذلك، قال عبد الله بن سلام، عندما أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، انجفل الناس إليه، أي ذهبوا إليه، فأتيتُ إليه، وأول ما سمعتُ من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقول: "
يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" (رواه الترمذي وابن ماجة). فهذا توجيه الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بصلة الأرحام، والرحم متعلقة بالعرش، تقول: "
من وصلني وصله الله"، فالذي يصل أرحامه يصله الله -جل وعلا- بالتوفيق والرحمة والمغفرة والسداد، ومَن وصله الله نال سعادةَ الدنيا والآخرة، ومَن انقطع عليه خير الله انقطع عنه أسباب الفلاح والتوفيق في الدنيا والآخرة، ومَن وصل أرحامه فإنه موعودٌ بدخول الجنة. وصلةُ الأرحام -يا عباد الله- لها صورٌ منها: أن نتودد إليهم بالكلام الجميل، وأن نشاركهم بأفراحهم وأتراحهم، نشارك الأرحام بمناسباتهم، فإذا كان عنده مناسبة نذهب إليهم في مناسباتهم، وإذا نزلت بهم نازلة نكون معهم ونساعدهم في مواجهة تلك المصيبة. أيضًا مما نصل به أرحامنا -يا عباد الله-: أن نوجههم إلى الخير وأن ندعوهم إلى الخير، قال الله -جل في علاه-: (
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)
[الشعراء: 214]. فبعض الناس قد ينشغل بدعوة البعيد وينسى القريب قد ينسى من عنده في البيت، وينسى إخوانه وأبناء عمه، وأبناء أخواله، ونحو ذلك، فالإنسان يبدأ بنفسه وبأهل بيته ويبدأ بأقاربه. مما توصل به الأرحام بل هي من أعظم أنواع الصلة -يا عباد الله-: أن نصلهم بالمال، فبعض الناس يكرمه الله -جل وعلا- ويفتح عليه في الدنيا وينسى أقاربه، وربما يأتيه الشيطان إذا أعطيت الأقارب فربما يعرفون مقدار كرتك فلا تبين لهم ذلك، فتجد أن أموال هذا الإنسان تصل إلى البعيد، أما القريب فلا يصل إليه شيء من النفع، عندما قام أبو طلحة -رضي الله عنه- وتصدق ببستانه، تأملوا إلى توجيه الحبيب -صلى الله عليه وسلم- له كما جاء في الصحيحين قال: "
أرى أن تجعل ذلك في الأقربين"، فجعل أبو طلحة ذلك للأقربين وفي بني عمه. والصدقة -يا عباد الله- على المسكين كما جاء في الترمذي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "الصدقة على المسكين صدقة وعلى القريب صدقة وصلة" فأنت تصل أرحامك -يا عبد الله- بالإحسان إليهم بمالك. وكذلك عليك أن تلتمس لهم الأعذار ولا تحملهم ما لا يطيقون، وتفسر أقوالهم وأعمالهم بما يبدو لك التمس لهم الأعذار. وأيضا -يا عباد الله علينا- أن نحسن الظن بأقاربنا، المسلم مطلوب منه أن يحسن الظن بالبعيد فضلا عن القريب، وما رأينا من بعض التهاجر والتنافر والتقاطع بين الأقارب إلا بسبب سوء الظن، والنفس الأمارة بالسوء والشيطان، فأحسن الظن بإخوانك. وعليك -أخي الكريم- أن تحسن إلى الأقرب فالأقرب، فالصلة ما عدها الناس صلة؛ لأن الصلة ترجع إلى العرف، فما عده الناس صلة فهو صلة؛ لأن ذلك لم يرد في الشرع تحديدا معينا أن يقال الزيارة للقريب في كل يوم مثلا أو في الأسبوع مثلا فما تعرف الناس عليه أنه صلة فهو صلة، وتختلف صلة القريب في الجوار، فالقريب والجار صلته أولى، ومن كان في البلد صلته أولى من البعيد، كذلك وكل ما علت القرابة أولى، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في الصحيحين: "
الخالة بمنزلة الأم"، فكم من شخص يفرط في صلته بخالاته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "
الخالة بمنزلة الأم"، وفي رواية: "
الخالة أم". وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا عظيما، فأراد أن يرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ما يكفر به هذه الخطيئة؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "
هل لك من والدة" فقال: لا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "
هل لك من خاله" قال: نعم، قال: فبرها. فبر الخالة -يا عباد الله- من بر الأم، فبعض الناس لا يكلف نفسه مع وسائل الاتصالات التي توفرت في جيبه ولا يتصل على خالته ولا على عمه وعمته، ونحو ذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في صحيح مسلم: "
العم صنوا أبيه" أي مثل أبيه، فكم من شخص يقطع الصلة بأعمامه وتمضي الأيام والأشهر والأعوام ربما ولا يرى عمه أو ربما لا يرى خالته. فعلينا -يا عباد الله- أن نتفقد أنفسنا لا سيما في هذا الوقت الذي توفرت به وسائل الاتصالات، وسهلت -ولله الحمد- اللقاءات والاجتماعات، وتقربوا إلى رب الأرض والسموات بما يحبه -جل وعلا-، ومن ذلك أن نصل أرحامنا. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا يليق بجلال الله وعظمته، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعدُ: فيا عباد الله: اتقوا الله، واحذروا قطيعة الرحم، قال الله -جل وعلا-: (
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)
[محمد: 22]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري، وتأملوا معي -يا رعاكم الله- هذا الحديث: "
لا يدخل الجنة قاطع"، فهل بعد سماع مثل هذا الحديث يتجرأ مسلم على قطيعة رحمه؟ وكان الصحابة -رضي الله عنه-م يستوحشون من قاطع الرحم، فأبو هريرة -رضي الله عنه- ناشد من كان في مجلسه ممن قاطع أرحامه أن ينصرف من مجلسه. وكذلك فعل ابن مسعود فقد ناشد من كان في مجلسه أن ينصرف من مجلسه، وقال ابن مسعود: "
إنا نريد أن ندعو الله والسماء مغلقة على قاطع الرحم". والرحمة -يا عباد الله- لا تنزل على قوم بهم قاطع. فعلينا -يا عباد الله- أن نتق الله، وأن ننتصر على أنفسنا، وعلى الشيطان الذي جعل بعض الناس يتهاجرون ويتقاطعون عند أمر تافه من أمور الدنيا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في سنن أبي داود بسند صحيح: "
لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار". تأملوا -يا رعاكم الله- إلى عفو الأنبياء والرسل عن أقاربهم، تأملوا في قصة يوسف -عليه السلام- عندما أساء إليه إخوته، ورموه في الجب، وآذوه أذى عظيما، وأبعدوه عن أبويه، وجلس في السجن سبع سنين، وناله من الأذية ما الله به عليم من الاتهام، وغير ذلك، ماذا قال بعد أن مكنه الله منهم، هذه الأخلاق العظيمة ينبغي لكل مسلم أن يتخلق بها؟ قال: (
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
[يوسف: 92]، لا تثريب عليكم اليوم، بل إنه نسب ما حصل إلى الشيطان قال: (
مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ)
[يوسف: 100]، حتى لا يجرح مشاعر إخوانه. فعليك -يا عبد الله- أن تتعامل مع الله مع أقاربك، وأن تتعامل معهم لله، ولا تنظر إلى تلك الإساءة من قريبك، وقابل إساءته بالإحسان: (
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)
[فصلت: 34]. فاللهم أعنا على صلة الأرحام يا رب العالمين. هذا، واعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ به بنفسه، فقال جل من قائل عليمًا: (
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
[الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين. اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان اللهم أصلح أحوالهم، اللهم أصلح أحوالهم، اللهم اجمع قلوبهم، اللهم وحد صفوفهم، اللهم عجل بفرجهم، اللهم ارحم المستضعفين في بلاد الشام وفي العراق وفي كل مكان، اللهم انصرهم يا رب العالمين على عدوك وعدوهم، اللهم يا حي يا قيوم من أرادنا أو أحدا من المسلمين بسوء اللهم فأشغله بنفسه، واجعل يا رب كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء يا رب العالمين، اللهم فرج هم المهمومين، واقض الدين عن المدينين. اللهم يا حي يا قيوم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا، ووفق ولاة أمرنا لكل خير، وارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين يا رب العالمين. اللهم اغفر لجميع أقاربنا ولجميع المسلمين، اللهم اجعلنا ممن يصلون أرحامهم يا رب العالمين، وتجاوز عن تقصيرنا في ذلك يا أرحم الراحمين. اللهم من كان قاطع أرحامه اللهم اشرح صدره لصلتهم يا رب العالمين، اللهم اسلل سخيمة قلبه، اللهم طهر قلبه يا رب العالمين، واجمع بينه وبين أقاربه يا أرحم الراحمين. احسن لنا الختام، اجعلنا يا الله ممن يطول عمره ويحسن عمله، اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة يا رب العالمين. اللهم من كان من أقاربنا وجميع المسلمين حيا اللهم أطل عمره على طاعتك، ومن كان منهم ميتا فاجعل قبره روضة من رياض الجنة، واجمعنا بهم بأعلى الجنان مع سيد الأنام -عليه الصلاة والسلام-. اللهم يا حي يا قيوم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، واعصمنا من فتن الشهوات والشبهات يا رب العالمين. عباد الله: (
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
[النحل: 90] فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)
[العنكبوت: 45 ].