إن شأن المسلم المؤمن الصادق أن يكون محبا لوطنه الإسلامي، ومحبا لديار الإسلام حيثما حل أو ارتحل، عاملا على حماية آمنه وسيادته، مخلصا له في محبته ورعايته، وإن لم يستفد منه شيئا؛ فكيف إذا كان الوطن له المنة والفضل على المسلم، وفر له العيش الرغيد، والأمن...
الحمد لله الذي هدانا لأقوم طريق، ودلنا إلى النجاة من عذاب الحريق، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين والصالحات، وأن محمداً عبده ورسوله يصلي عليه أهل الأرض والسموات، ورضي الله عن سادات ديننا وكبراء أئمتنا بالحق أبي بكر عمر وعثمان وعلي، وبقية الصحابة والقرابة والتابعين إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها المسلمون: إن من نعم الله التي امتن الله علينا بها في هذه البلاد بعد نعمة الإسلام والهداية ونعمة الصحة نعمة الأمن والأمان في الوطن الإسلامي، وقد ذكر الله على لسان سيدنا إبراهيم --عليه الصلاة والسلام-- أنه دعا ربه بأن يمن عليه من فضله وأن يجعل البلد الحرام آمنا؛ فقال في مناجاته، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [إبراهيم: 35- 36].
وهذا نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لما أخبره ورقة بن نوفل وبشره بالنبوة وأخبره بما سيجري عليه من الخطوب والمحن لم يستغرب ولم يتعجب - لأنه يعلم أن ذلك من سنن الأنبياء - إلا حينما قال "ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال الرسول -عليه الصلاة والسلام- عندها: أو مخرجيّ هم قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا"، لما للوطن الذي نشاء فيه وترعرع فيه -صلى الله عليه وسلم- من المكانة الرفيعة، فكان -صلوات الله وسلامه- عليه يبذل له المحبة والاحترام، ويكثر في دعائه ان يرده إليه ويقر عينه به.
أيها المسلمون: اشتهر عند الناس حب الوطن من الإيمان ومع أن الحديث لا أصل له، كما قال المحدثون؛ فإن الإيمان لا يعارض حب الوطن، بل يؤيده ويسانده لأنه غريزة فطرية في المؤمن وغيره، إلا أن المسلم يدفعه الإخلاص لله في محبة وطنه في الضراء والسراء، وبذل الدعوة والنصح للآخرين، وغيره تدفعه المصلحة الآنية والمنفعة الشخصية، المؤمن يحب وطنه لأنه يجد فيه شعائر الإسلام ظاهرة، ودلائله واضحة، يجد في وطنه من يدله على الخير ويرشده إليه، يجد له على الحق أعوانا وعلى المعروف إخوانا، يحب وطنه لأنه يجد مساجده بالإيمان شاهدة، وبالمصلين والساجدين عامرة.
إن ديار الإسلام عامة وبلاد الحرمين خاصة امتن الله على أهلها بالإيمان والخيرات الجسام، ولذا وجب على كل مسلم ومسلمة تجاه تلك النعمة بعض الحقوق والوجبات ومنها:
التفاني وبذل النفس والمال في سبيل الدفاع عن كرامة بلده، وصون حدوده وأراضيه؛ وقد دلت النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة نبيه وجوب الدفاع عن أرض الإسلام والمسلمين من أي اعتداء، وأن تتكاتف الجهود، وتتوحد الحشود في حماية الأوطان ودرء العدوان، ومن تلك النصوص وجوب طاعة ولاة الأمر في المعروف جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله" (رواه الترمذي).
ولا شك -أيها المسلمون- أن الجهاد الذي مدحه الله ورسوله لا يقتصر على قتال الكفار فحسب، بل يشمل أي جهاد النفس على طاعة الله ورسوله.
أيها المسلمون: إن شأن المسلم المؤمن الصادق أن يكون محبا لوطنه الإسلامي، ومحبا لديار الإسلام حيثما حل أو ارتحل، عاملا على حماية آمنه وسيادته، مخلصا له في محبته ورعايته، وإن لم يستفد منه شيئا؛ فكيف إذا كان الوطن له المنة والفضل على المسلم، وفر له العيش الرغيد، والأمن المديد، ومنحه الكرامة والخير الوفير، ووفر له البيت الكبير؛ فلا شك أن الوفاء والمحبة له أعظم وليس من شيم المسلم أن يتنكر للجميل، ويكيد لأهله ولوطنه، ويعمل على الإساءة إلى سمعته، أو يدل أهل البغي والعدوان عليه؛ فإن هذا شان أهل النفاق وديدن أهل الحقد والشقاق.
ومن الواجبات الهامة في حماية الوطن من كيد الأعداء: الاجتماع والائتلاف على الكتاب والسنة، ونبذ البدع والخرافات والابتعاد عن التفرق والاختلاف لأن الاجتماع على الحق سبب لنزول الرحمات، وحلول البركات، ورد كيد العاديات قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، وفي حديث أبي هريرة "إن اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ، قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السؤال، وإضاعة المال" (رواه مسلم).
أيها المسلمون: إن الدين الإسلامي يريد منا أن نكون رجالا أوفياء مخلصين لأوطاننا، يريد منا أن نكون صادقين في ولائنا وفي أقوالنا وأفعالنا، يريد منا أن نكون بعيدين عن العبث واللهو، ومجالس اللغو؛ فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
إن الدين الإسلامي يريد من يحمون أوطانهم أن يكون مثالاً حياً في الرجولة والشجاعة والشهامة وهضم النفس، وكمال الرحمة والشفقة كما وصفهم الله في كتابه الكريم، (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 37].
إن الدين الإسلامي يريد أن نكون كما وصفهم الله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً *إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 63 - 67].
يريد أناسا يكنون المحبة والإجلال والتعظيم لمن سبقهم من سادات الصحابة والتابعين والأولياء لا يضمرون الحقد والكراهية لسلف الأمة وخيارها (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الفاتحة: 10].
يريد منا طاعة الله ورسوله وولاة أمره ممن افترض الله ورسوله طاعتهم علينا في المعروف: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].
فاتقوا الله -عباد الله- وتمسكوا بتعاليم دينكم، واعملوا بسنة نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكونوا حماة لأوطانكم من كيد الأعادي ترفعون من شأنه وتعملون على رقيه وازدهاره، وتسهرون على أمنه وسيادته، وتأملوا فيما حولكم من البلاد، وما هم فيه من البلاء المستطير -الذي نسأل الله أن يرفعه عنهم وعن جميع بلاد الإسلام-، وتفكروا فيما أنتم به من النعم، لتكبر النعمة في عيونكم، وتزداد المنة في نفوسكم، وقد قيل بضدها تعرف الأشياء، ولا تخالفوا تعاليم دينكم، وتخرجوا عن سنة نبيكم؛ فيصيبكم ما أصابهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين..
الحمد لله والصلاة والسلام على خير البرية، وبعد:
عباد الله: إن من أعظم الوسائل الهامة في حماية الأوطان، والدفاع عن الديار تقوى الله في السر والعلن، وفي السراء والضراء وطاعة الله ورسوله؛ فإن التقوى سبب كل خير في الدنيا والآخرة، ومعصية الله ورسله سبب كل بلاء وشقاء في الدنيا والآخرة، ولتعلموا أن ما تمر به بعض بلاد الإسلام، وما نراه صباحا ومساء في بعض أوطان المسلمين إنما حصل بسبب التفرق والاختلاف والتنازع والاحتراب الذي نهى الله عنه، وبسبب فعل الفواحش والمنكرات، وعمل الآثام وشرب المسكرات، وفتح القنوات المدمرة للأخلاق والحسنات، حتى حلت بهم الكوارث والحروب، والنوازل الكبيرة والخطوب، فاسألوا الله لأنفسكم العافية، وحصنوا بيوتكم قبل أن تصيبكم السنن الجارية؛ فإنها لا تحابي أقواما على حساب غيرهم.
إن التقوى -أيها المسلمون-، كما قال العلماء فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور، ويشمل ذلك أداء الصلوات في الجماعات، وإخراج الزكوات، وسائر العبادات الظاهرة والباطنة، كإخلاص الدين لله والدعاء له، ويشمل أيضا ترك المحرمات كالربا والزنا، وأكل أموال الناس بالباطل وسائر أنواع المحرمات، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]، وكان رسولنا الكريم يوصي أصحابه الكرام في مناسبات عديدة بلزوم التقوى لأنها السبيل لأمن الأمة وحمايتها من الأعداء وسبب لسعادتها واستعادة عزها ومجدها.
فاشكروا نعمة الله عليكم، وقوموا بما أوجبه الله عليكم تنعموا في الدنيا وتسعدوا في الآخرة.
هذا وصلوا على الحبيب المختار كما أمركم الله في القرآن؛ حيث قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي