وعندما يقل الناصر ويعز المعين يأتي دور الغرباء المصلحين الذين يقومون بأمر الله، ولا يجدون مؤيدا ولا ظهيرا من الناس بل صدودا ومعاداة؛ فإنهم والحالة هذه يعظم أجرهم وترتفع عند الله منزلتهم.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلميا كثيرا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ: 1]، (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 71].
أما بعد: فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ"، وعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" فَقِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ" (رواه الطبراني).
وعند الآجُرِّيّ من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قيل: "وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ".
وقد تحقَّق ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- تحقُّقًا بيِّنًا لا خفاءَ فيه؛ فقد بدأ الإسلام غريبا ثم ظهر وعلا وعز أهله ودخل الناس في دين الله أفواجا، ثم عادت غربته مرة أخرى واشتدت وتجلت مظاهرها بوضوح.
وهذه الغربة -عباد الله- ازدادت شيئا فشيئا؛ بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق؛ فعظمت الفتن والابتلاءات وتغيرت الأحوال والتبست الأمور، ولكن مع هذا فطريق الخلاص وسبيل النجاة من الفتن معلوم؛ قال صلى الله عليه وسلم: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا" (رواه مسلم).
أيها المسلمون: إن هناك حكمة عظيمة لابتلاء المؤمنين بالغربة؛ ألا وهي: تمييز الخبيث من الطيب ومعرفة الصادق من الكاذب وتبيين المؤمن من المنافق، قال الله -تعالى-: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آلِ عِمْرَانَ: 179]، وقال عز من قائل: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 2-3].
والغرباء حياتهم طيبة، وهم كرماء على الله ينالون تلك البشارة العظيمة التي بشر بها النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- بقوله: "فطوبى للغرباء" قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا؛ أي الإسلام أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث: "فطوبى للغرباء"، وطوبى من الطِّيب، قال تعالى: (طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) [الرَّعْدِ: 29]، فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا وهم أسعد الناس.
وعندما يقل الناصر ويعز المعين يأتي دور الغرباء المصلحين الذين يقومون بأمر الله، ولا يجدون مؤيدا ولا ظهيرا من الناس بل صدودا ومعاداة؛ فإنهم والحالة هذه يعظم أجرهم وترتفع عند الله منزلتهم.
أيها الإخوة: لهؤلاء الغرباء صفات خاصة تدل على تميزهم وخيريتهم وثباتهم على مبدأهم وعلو همتهم وقوة إرادتهم؛ فمن صفاتهم التي تستفاد من الأحاديث الواردة في الغربة:
تمسكهم بالسُّنَّة عند رغبة الناس عنها وزهدهم فيها، وفي المقابل: تَرْكُهم ما أحدثه الناس من محدثات، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًّا، فلغربتهم بين الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، لكن يكفيهم شرفا تمسكهم بدين الله وثباتهم، وأن الله ضاعف أجرهم، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْقَابِضُ فِيهِ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ" (رواه الترمذي).
وقال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ" (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه).
ومن صفاتهم التي صرحت بها الأحاديث: أنهم يُصلحون أنفسَهم عند فساد الناس، ويلزمون الحق ويعضون عليه بالنواجز، ويستقيمون على طاعة الله ودينه، كما أنهم كذلك يُصلحون ما أفسد الناسُ من السُّنَّة والدين، وينهون عن الفساد في الأرض، وهي صفة الغرباء في كل زمان ومكان قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هُودٍ: 116].
ولا يمنعهم عدم قبول الناس للحق من القيام بدورهم، قال أويس القرني -رحمه الله-: "إن قيام المؤمن بأمر الله لم يُبْقِ له صَدِيقًا، واللهِ إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداء، ويجدون على ذلك من الفُسَّاق أعوانا؛ حتى -واللهِ- لقد رموني بالعظائم، وايم الله لا يمنعني ذلك أن أقوم لله بالحق".
أيها المسلمون: إن أوصاف الغرباء المذكورة في الأحاديث تدلنا على أنهم ليسوا أناسا صالحين فحسب، بل هم مُصْلِحُونَ أهلُ بصيرة وغيرة ودعوة وإصلاح، وليسوا ممن عاش لنفسه واهتم بخاصته، وانعزل عن مخالَطَة الناس بسبب ما أصابه من اليأس والقنوط والاستسلام للواقع، بل هم أصحاب رسالة يخالطون الناس حِرْصًا على نفعهم، ورائدُهم في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" (رواه ابن ماجه)، فهم يدعون مَنْ ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى.
ويتضح من أحاديث الغربة أنه ينبغي لأهل الحق عند غربة الإسلام أن يقوموا بدورهم في الإصلاح، ويزدادوا نشاطا في بيان أحكام الإسلام والدعوة إليه ونشر الفضائل ومحاربة الرذائل والدفاع عن السُّنَّة، والتحذير من البِدَع والمحدثات، وأن يشمروا عن ساعد الجد، وأن يستقيموا على الدعوة ويصبروا عليها، يرجون ما عند الله من المثوبة، وعليهم أن يستقيموا في أنفسهم على ذلك حتى يكونوا من الصالحين عند فساد الناس، ومن المصلحين لِمَا أفسد الناسُ، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هُودٍ: 117]، ولما سألت زينب بنت جحش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" (متفق عليه).
فالمانع والحائل من نزول العذاب وحلول الهلاك هو الإصلاح لا مجرد الصلاح، فيجب أن يكون الإنسان صالحا في نفسه مصلحا لغيره، ولا تزال الأمة بخير ولله الحمد، وإن تغيرت الأحوال وكثر الاختلاف فهناك من هو على الجادة يعمل على نصرة الإسلام ويضحي بالغالي والرخيص من أجل إعلاء كلمة الله وشعاره: "مَنْ للإسلام إن لم أكن أنا" وهو لا ينتظر أن يتحرك غيره لنصرة الدين حتى يتحرك هو، ولا أن يطلب منه أحد أن يقدِّم لأُمته ودعوته بل هو مبادِر يعد نفسه هو المؤتَمَن على دين الله، والمسئول عن إصلاح المجتمع، وردّ الناس إلى ما كانوا عليه من الهدى ودين الحق.
عباد الله: إن مما يفهمه أكثر الناس عند سماع أحاديث الغربة وأحاديث الفتن وتغير الأحوال كحديث: "مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ"، وحديث: "فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا"، يفهمون من ذلك أن هذا مسوِّغ لاستمرار الأمة في ضَعْفها وذلتها وهوانها وبقاء أهلها على الخنوع والانهزامية والانكسار والإحباط، وغاب عنهم أو نسوا أن هناك أحاديث أخرى تدل على عزة الأمة ودورها الرائد ومستقبلها الباهر؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لا يُدْرَى أَوَّلُهُ أَنْفَعُ أَوْ آخِرُهُ" (رواه الترمذي)، وقوله: "لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ" (أخرجه البخاري ومسلم).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ" (رواه أحمد)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا" (رواه أبو داود)، فهذه النصوص مكمِّلة لتلك، وموضِّحة لها ولا تعارُضَ بينها بحمد الله.
معاشر المسلمين: إن ما يصيب الأمةَ من أزمات وضَعْف ونكبات وما يمر بها من محن وهزائم وابتلاءات ما هو إلا تذكير وتنبيه لها؛ لتفيق من رقدتها وتستيقظ النفوس من سُبَاتها وغفلتها؛ لأن هذه الأمة المباركة قد تمرض وقد تضعف وتتردى أوضاعها وتعصف بها الفتن وتشتد أزمتها كما هو الحال في الأزمنة المتأخرة، لكنها بالرغم من ذلك كله لا تموت ولا تبيد، بل تظل كما وصفها اللهُ: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آلِ عِمْرَانَ: 110]، فهي الأنفع والأصلح لأمم الأرض؛ لأنها تحمل رسالة عالمية تفيد كل الناس مهما كانوا وأينما كانوا ومقدار أفضليتها مرتبط بمقدار نفعها لغيرها.
أيها الإخوة: لقد أحاط أعداء هذه الأمة في المدينة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين إحاطة السوار بالمعصم فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه يحفر الخندق ويعدهم بكنوز فارس والروم فتشرَّبت النفوس المؤمنة هذه البشائر، وتفاءلت رغمَ تفاقُم الأزمة، ومع تلك الشدة والضيق فقد تحقَّق وعدُ اللهِ (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) [الْأَحْزَابِ: 25].
واستمرت هذه الأمة المرحومة في مسيرتها تتجاوز العقبات وتحققت لها بفضل الله تلك الأمجادُ والفتوحاتُ في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من خلفاء بني أمية وبني العباس حتى جاءت الكارثة المغولية وما حدَث من رذية في بغداد كانت من أعظم ما حلَّ بالمسلمين من المذابح والنكبات في تاريخهم حتى جرَت أزقةُ بغداد بأنهار الدم، وحتى اختلف العلماء في عدد القتلى؛ حيث أوصله بعضهم إلى ثمانمائة ألف، فأصاب الناسَ القلقُ والإحباطُ ورأوا أن راية التوحيد قد نُكست وشوكة الإسلام قد انكسرت وحتى قيل: إن العالم الإسلامي لن تقوم له قائمة بعد ذلك.
ولكنها سنوات يسيرة جدا وينبض قلب الأمة الحي وتتحرك روحها الدفاقة، وتنهض عزيمتها الصادقة فيتحول الضَّعْف إلى قوة والذلة إلى عزة لتكسر شوكة التتار الوثنيين ويبطل الاعتقاد الذي كان سائدا بأن جيش التتار لا يهزم، وينحصر المد التتري ويقضى على أكابر مجرميه، ويدخل أهل بلاد التتار في دين الله أفواجا، وبعدها بسنوات عادت الحملات الصليبية واحتلت بيت المقدس ودمرت وقتلت وسبت في بلاد الشام خلقا لا يحصيهم إلا الله تبارك وتعالى، ولكن بعد سنوات أيضا هيأ الله بفضله القائد صلاح الدين الأيوبي فعادت الأمور إلى نصابها، وحفظت مقدسات المسلمين واندحر العدو الأثيم، ومما يثبته التاريخ أنه جاءت فترات ركود وجمود في العالم أعقبتها أزمنة حركة وتجديد وازدهار بظهور الأئمة المجددين والعلماء المصلحين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله الجليل لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام ومن علينا ببعثة خير الأنام، أحمده -تعالى- على نعمه العظام وأشكره على آلائه الجسام وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله القدوة الإمام بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من المتقرر عند أهل الإسلام أن الله قد تكفل بحفظ دينه وظهوره حتى تبقى حجته قائمة على العباد، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الْحِجْرِ: 9]، وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الْفَتْحِ: 28]، وهذا الظهور ليس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فحسب بل في كل الأزمان؛ فعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ، أَوْ قَالَ: إِنَّ رَبِّي زَوَى لِي الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا" (رواه مسلم).
وقال عليه الصلاة والسلام: "لَا يَزَالُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَغْرِسُ فِي هَذَا الْأَمْرِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ" (رواه ابن ماجه).
وهذا كله دليل واضح على أن الدين محفوظ مهما اندرست معالم الحق وانمحت رسوم السُّنَّة، وأن الغربة قد تقع ثم تزول ويعود الدين إلى قوة ونشاط وانتشار، وقد رأى جماعة من أهل العلم أن في حديث الغربة بشارة بنصرة الإسلام بعد غربته الثانية، آخذين ذلك من التبشير في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا"، فكما كان بعد الغربة الأولى عِزٌّ للمسلمين وانتشارٌ للإسلام فكذا سيكون له بعد الغربة الثانية نصرة وانتشار.
ووظيفية هذه النصوص وأمثالها إشاعة الأمل في النفوس وزرع بذور التفاؤل في الأرواح التي آلمها ما حل بالمسلمين من المصائب وخيم عليها اليأس والقنوط وهي بشائر أيضا تثبِّت اليقينَ في القلوب، وتستحِثّ الهممَ من أجل مزيد من العمل للدين، إن ما شهده التاريخ منذ بزوغ فجر هذا الدين العظيم من مؤامرات للقضاء عليه أمر لم يتعرض له أيُّ دين آخَر، وأيُّ ملة أخرى من محاولات الاجتثاث والإقصاء والتشويه، ومع ذلك نرى هذا الدينَ -بفضل الله- لا يزداد إلا انتشارا وقبولا؛ لأنه هو دين الفطرة الذي ارتضاه الله للناس، ومهما سعى أعداء الإسلام جاهدين في محاربته وطمس معالمه والصد عن سبيله وأذية أهله فلن يقف دورُه، وسوف يظهر نورُه، ويمتد أثرُه ويبقى ما بقي الليلُ والنهارُ كما أخبر -عليه الصلاة والسلام- بقوله: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ" (رواه أحمد).
فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كونوا على يقين أن أمر الله غالب ودينه منصور، وغربته زائلة فأقيموا دين الله وتمسكوا به وكونوا من أنصاره.
ويا دعاة الحق: ابذلوا المزيد من الجهود في سبيل إصلاح مجتمعاتكم والدعوة إلى الحق وتبصير الناس بدينهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويا أيها المصلحون ويا أيها المربون: احرصوا على النشء؛ علِّمُوهم عقائدَ التوحيدِ الصحيحةَ ومنهجَه السليمَ، وحذِّروهم من الاعتقادات الباطلة والتصوُّرات المنحرفة والمناهج الزائغة، والأفكار الضالة، وادعوهم إلى فضائل الإسلام وحذروهم من الرذائل والآثام، ويا شباب الإسلام.
ويا فتيات الإسلام: اعتزوا بدينكم وتمسَّكُوا بتعاليمه القائمة على الوسطية والاعتدال، ولا تبعدوا عنه وتسلكوا غير سبيله فتكونوا سببًا في غربته.
ويا نساء المسلمين: استشعرنَ المكانةَ المرموقة لَكُنَّ في الإسلام فتمسكنَ بتعاليمه السمحة، وتجملنَ بآدابه الكريمة، وقُمْنَ بدوركن في التربية والإصلاح واحذرن دعاةَ الضلالة والهوى.
عباد الله: أناشدكم الله، لو أن كل أب وكل أم وكل مُرَبٍّ وكل معلم وكل راعٍ وكل مؤتَمَن قام بالدور المنوط به وأدَّى الأمانةَ التي حُمِّلَهَا هل يحصل ما نراه من تغيُّر ومخالفات؟ هل قام كل واحد منا بدوره بما يُخْلِي تبعتَه ومسئوليتَه أمام الله، فكل امرئ حسيبُ نفسِه، وكل إنسان على نفسه بصير، والله الموعد.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم الله بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم انصر عبادك الموحدين ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك وعمل برضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم ألِّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ووحِّد صفوفَهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز.
اللهم انصر إخواننا المستضعفين والجاهدين في سبيلك والمرابطين في الثغور وحماة الحدود واربط على قلوبهم وثبت أقدامهم واخذل عدوهم واهزمهم شر هزيمة.
اللهم ارفع البلاء عن إخواننا في الشام وفي اليمن وفي العراق وفي بورما وفي كل مكان، اللهم ارفع الظلم والطغيان عنهم، اللهم اكشف كربتهم، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وأنزل السكينة عليهم، اللهم ارحم موتاهم واشف مرضاهم وفُكَّ أسراهم، اللهم أنزل عذابك الشديد وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين على من عاداهم، اللهم سَلِّط عليهم مَنْ يسومهم سوءَ العذاب يا قويُّ يا متينُ، اللهم مُنْزِلَ الكتابِ ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصر المسلمين عليهم.
وآخِر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي