الثبات على دين الله

عبد الله اليابس
عناصر الخطبة
  1. ضرورية المبادرة للأعمال الصالحة في زمن الفتن .
  2. من أسباب الثبات على دين الله .

اقتباس

الفتن من حولنا تعصف بالقلوب عصفًا، والقلب متقلب كما اسمه، روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّما سُمِّيَ القلبَ من تَقَلُّبِه، إِنَّما مَثلُ القلبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بالفلاةِ، تَعَلَّقَتْ في أصْلِ شجرةٍ، يُقَلِّبُها الرّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ". إنه لا نجاة لهذا القلب في هذا الزمان الذي تطارده فيه...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الكريم الجواد، خلق الإنسان من نطفة وجعل له السمع والبصر والفؤاد، أنزل الغيث مباركًا فأحيا به البلاد، وأخرج به نبات كل شيء رزقًا للعباد، وأشهد أن لا إله إلا الله المنزه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين من حاضرٍ وبادٍ، خير من دعا وبالخير العظيم جاد، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه ما نادى للصلاة مناد، وكلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون إلى يوم التناد.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".

نعم؛ إنه إرشاد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمبادرة للأعمال الصالحة؛ فإنه يأتي على الناس زمان تغشاهم فيه الفتن، وتتكالب عليهم حتى تصبح كالليل المظلم الذي يحجب عنهم نور الإيمان واليقين، يتقلب الواحد منهم بين الإيمان والكفر والفسق؛ لعَرَض من الدنيا قليل.

يبيع دينه؛ لشهوة عابرة، أو منصب موعود، أو مال زائل.. يبيع دينه لأجل كلام الناس، أو إرضاء زوجة وأولاد بما يغضب الله.. يبيع دينه بعَرَض من الدنيا قليل.

إن طريق الحق والدين طريق صعب وشاق، مليء بالعقبات والحُفر؛ لكن عاقبته الراحة الأبدية في الجنة -بإذن الله-؛ فالراحة لا تنال بالراحة، ومعالي الأمور لا تنال بالفتور، ومن جد وجد ومن زرع حصد.

يا سلعة الرحمن لست رخيصةً *** بل أنت غالية على الكسلانِ

أيها الإخوة: الفتن من حولنا تعصف بالقلوب عصفًا، والقلب متقلب كما اسمه، روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّما سُمِّيَ القلبَ من تَقَلُّبِه، إِنَّما مَثلُ القلبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بالفلاةِ، تَعَلَّقَتْ في أصْلِ شجرةٍ، يُقَلِّبُها الرّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ".

إنه لا نجاة لهذا القلب في هذا الزمان الذي تطارده فيه فتن الشبهات والشهوات في كل مكان.. لا نجاة لهذا القلب إلا بالثبات على دين الله -تعالى-.

فيا عباد الله: اثبتوا. اثبتوا، وابحثوا عن أسباب الثبات على دين الله -تعالى-، والزموها تفلحوا -بإذن الله-.

ألا وإن من أعظم أسباب الثبات: الإقبال على كتاب الله -تعالى-.. قراءة وحفظًا.. وتدبرًا وفهمًا.. واسمع إلى هذا الخطاب الإلهي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)[الفرقان:32].

القرآن هو منهج الحياة.. جعله الله -تعالى- نبراسًا ينير الطريق..  وعلاجًا للمشكلات.. فمن أخذ به ولزمه نجى وأفلح.. ومن أعرض عنه فقد بين الله -تعالى- مصيره: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه:124-126].

ومن أسباب الثبات على دين الله -تعالى-: كثرة دعائه سبحانه وسؤالِه الثبات، فقد كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء فيقول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، وأهل الإيمان يقولون: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)؛ فاللهم إنا نسألك الثبات على دينك حتى نلقاك.

ومن أسباب الثبات على دين الله -تعالى-: التزام الأعمال الصالحة والإكثار منها، قال الله -تعالى-: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء)[إبراهيم:27]،  قال قتادة -رحمه الله-: "أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر".

إذا أطلت الفتنة برأسها..  وادْلَهَمَّ الخطب.. فهل نتوقع ثباتاً من الكُسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة؟!

ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحبُّ العمل إليه أدومَه وإن قل. وكان هو وأصحابُه -رضي الله عنهم- إذا عملوا عملاً أثبتوه.

ومن أسباب الثبات على دين الله -تعالى-: الدعوة إلى الله -تعالى-؛ فيدعو الإنسان إلى دين الله بما يَعلَمُه من أمور الحلال والحرام، فقد روى البخاري من حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بلغوا عني ولو آية".

إن النفسَ إن لم تتحرك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس: الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فيها تتفجر الطاقات، وتُنجَز المهمات (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ)[الشورى:15].

ومن أسباب الثبات على دين الله -تعالى-: لزومُ الصحبة الصالحة؛ فهي -والله- من أعظم الأسباب المثبتة على دين الله، واسمع لوصية الله -تعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف:28].

نعم؛ المرء يتأثر بمن حوله، روى أبو داوود في سننه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ".

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينِه *** فكل قرينٍ بالمقارَن يقتدي

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تعالى- وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .

فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: عرفنا فيما تقدم أسباب الثبات على دين الله -تعالى-.. ألا وإن من أعظم أسباب الثبات: اجتناب الذنوب والمعاصي؛ فالمعاصي تقبل على الإنسان متزينة؛ تأتيه صغارها ثم الأكبر منها، فيتدرجُ فيها؛حتى يقع في الكبار وهو لا يشعر.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور:21].

ألا وإن من أعظم عواقب المعاصي والآثام فقدانُ حلاوة الإيمان..

قيل لوهيب -رحمه الله-: يجد طعم العبادة من يعصي؟ قال: ولا من يهم بالمعصية.

وكتب أبو الدرداء -رضي الله عنه- إلى مسلمة بن مخلد -رحمه الله-: "أما بعد، فإن العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بَغَّضَه إلى عباده"، وروي عن سليمان التيمي -رحمه الله- أنه قال: "إن الرجل ليذنب الذنب فيصبحُ وعليه مذلته"، وقال عمر بن أبي ذر -رحمه الله-: "يا أهل معاصي الله، لا تغتروا بطول حِلم الله عنكم، واحذروا أسفه، فإنه قال: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)[الزخرف:55]".

أيها الإخوة: إن من أصعب اللحظات في العمر -ولا شك- لحظة الانتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة! لحظة الموت وفراق الروحِ الجسد! وإن من أراد الثبات في تلك اللحظة فليعمل من الآن لأجلها (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم:27].

قال ابن الفضل القطان -رحمه الله-: حضرت النَقَّاشَ وهو يجود بنفسه في ثالث شوال سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، فنادى بأعلى صوته: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، يرددها ثلاثاً، ثم خرجت نفسه -رحمه الله-.

وقال ابن سُكينة -رحمه الله-: كنت حاضرًا لما احتُضر إسماعيل بن أبي سعد النيسابوري -رحمه الله-، فقالت له أمي: يا سيدي، ما تجد؟ فما قدر على النطق، فكتب على يدها: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ)[الواقعة:89]، ثم مات.

فيا من أراد الثبات غدًا في مثل هذا الموقف: اثبت اليوم على دين الله؛ فالله خير حافظًا، وهو أرحم الراحمين.

اللهم أحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة ألا إله إلا الله.

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام؛ فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90] ؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي