إنَّ القوامة تكليفٌ للرَّجل، وتحميلٌ له المسؤوليَّة، وإراحةٌ للمرأة من عناء هذه المسؤوليَّة؛ فالله تعالى هو الذي اختصَّ الرَّجل بدرجة قوامة البيت دون المرأة، وهذه الدَّرجة لم تُعْطَ للرِّجال محاباةً لهم، وإنَّما استحقُّوها بما ميَّزهم الله تعالى به، وبما أوجبه عليهم من واجبات ومسؤوليَّات تجاه زوجاتهم وأبنائهم، والتي...
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: ذهب جمهور الأُمَّة من الصَّحابة -رضي الله عنهم- والتَّابعين وتابعيهم، والمفسِّرين والفقهاء والمحدِّثين إلى أنَّ الرِّجال قوَّامون على النِّساء بإلزامهنَّ بحقوق الله تعالى، وقوَّامون عليهنَّ -أيضاً- بالإنفاق عليهنَّ، وحمايتهنَّ ورعايتهنَّ، فيجبُ على الرَّجل تحمُّل أعباءِ القوامة التي هي تكليفٌ فَرَضته عليه الشَّريعة الغرَّاء(1).
والأدلَّة على ذلك:
1- قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[النساء:34].
وجه الدَّلالة: تضمَّنت الآية الكريمة أمراً جاء على صورة الخبر؛ يفيد قوامة الرِّجال على النِّساء بالإنفاق، والحماية، ورعاية أهل البيت.
جاء عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما-، في قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) "يعني: أُمراءَ عليهنَّ؛ أي: تُطيعه فيما أَمَرَها الله به من طاعته، وطاعتُه أن تكون مُحْسِنَةً لأهله، حافظةً لماله. وكذا قال مقاتلٌ والسُّدِّي والضَّحَّاك"(2).
قال ابنُ جرير -رحمه الله-: "الرِّجال أهل قيامٍ على نسائهم، في تأديبهنَّ، والأخذِ على أيديهنَّ فيما يجب عليهم لله ولأنفسهم"(3).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "الرَّجل قيِّم على المرأة؛ أي: هو رئيسُها، وكبيرُها، والحاكمُ عليها، ومؤدِّبُها إذا اعوجَّت"(4).
وقال الجصَّاص -رحمه الله- في تفسيره للآية: "قيامهم عليهنَّ بالتَّأديب والتَّدبير والحفظ والصِّيانة؛ لما فضَّل الله الرَّجلَ على المرأة في العقل والرَّأي، وبما أَلْزَمَه الله تعالى من الإنفاق عليها"(5).
وقال ابنُ العربيِّ -رحمه الله-: "يقال: قَوَّامٌ وقَيِّمٌ، وهو فَعَّالٌ وفعيلٌ من قام، والمعنى: هو أمينٌ عليها، يتولَّى أمرَها ويُصْلِحها في حالها، قاله ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-، وعليها له الطَّاعة... وعليه -أي: الزَّوج- أن يبذل المهر والنَّفقة، ويُحْسِنَ العِشْرة، ويحميها، ويأمرها بطاعة الله تعالى، ويرغِّب إليها شعائر الإسلام؛ من صلاةٍ وصيام، وعليها الحِفَاظُ لماله، والإحسانُ إلى أهله، وقبولُ قولِه في الطَّاعات"(6).
2- قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[البقرة:228].
وجه الدَّلالة: أنَّ الدَّرجة - التي فُضِّل بها الرِّجال على النِّساء - هي القوامة، كما جاء بيانُها في [النساء:34]، وهي: الإمرة والطَّاعة(7).
أيها المسلمون: إنَّ القوامة تكليفٌ للرَّجل، وتحميلٌ له المسؤوليَّة، وإراحةٌ للمرأة من عناء هذه المسؤوليَّة؛ فالله تعالى هو الذي اختصَّ الرَّجل بدرجة قوامة البيت دون المرأة، وهذه الدَّرجة لم تُعْطَ للرِّجال محاباةً لهم، وإنَّما استحقُّوها بما ميَّزهم الله تعالى به، وبما أوجبه عليهم من واجبات ومسؤوليَّات تجاه زوجاتهم وأبنائهم، والتي يُعاقبون عليها في الدُّنيا والآخرة إذا قصَّروا في أدائها.
قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)[البقرة:228]: "بما ساقَ إليها من المهر، وأنفقَ عليها من المال"(8).
وقال الجصَّاص -رحمه الله- في قوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ): "ممَّا فُضِّلَ به الرَّجل على المرأة ما ذكره الله من قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، فأخبر بأنَّه مُفَضَّل عليها بأنْ جُعِلَ قيِّماً عليها"(9).
وقال الشَّنقيطي -رحمه الله- في تفسير الآية: "لم يُبيِّن هنا ما هذه الدَّرجة التي للرِّجال على النِّساء، ولكنَّه أشار إليها في موضع آخَرَ، وهو قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[النساء:34]"(10).
3- قوله تعالى: (وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[النساء:32].
وجه الدَّلالة: نهى الله تعالى النِّساء أن يتمنَّين ما اختصَّ الله به الرِّجال من الولايات المختلفة، ومنها: القوامة، والأصل في هذا النَّهي يفيد التَّحريم، ولا صارف له عن ذلك.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام الأتمان على مَنْ لا نبي بعده:
عباد الله: إنَّ القوامة الزَّوجية للرَّجل وليست للمرأة بنصِّ القرآن الكريم، وهي مشاركةٌ لا تفضيل -فأفضل النَّاس عند الله أتقاهم-، وهي عطاءٌ وليست تسلُّطاً، وهي مقيَّدةٌ وليست مُطلقة، ومسؤوليَّةٌ تستلزم من المرأة الطَّاعة بالمعروف، ومن الرَّجل الحفاظ على الأسرة والعناية بشأنها، والقيام بما يستلزمه صلاحها، والكدُّ والنَّصَب من أجل سعادتها، وليس فيها حطٌّ من شأن المرأة أو امتهانٌ لكرامتها، ولا تعدٍّ على حقوقها أو استهانةٌ بها.
وعلى المرأة أن ترضى بهذه القوامة وتُسَلِّم بها، كما على القيِّم أن يعلم معناها وحدودها، والغرض الذي شُرعت من أجله؛ ليقوم بها حقَّ قيامها، ولا يتعسَّف في استعمال حقٍّ مَنَحَه الله تعالى إيَّاه بهذا الميثاق الغليظ(11).
--------------------
(1) انظر: تفسير الطبري (5-57)؛ تفسير ابن كثير (1-492)؛ تفسير القرطبي (5-102)؛ أحكام القرآن، للجصاص (3-148)؛ أحكام القرآن، لابن العربي (1-530)؛ الكشاف (1-537)؛ تفسير السعدي (1-177).
(2) تفسير ابن كثير (1-492). وانظر: تفسير الطبري (1-150).
(3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5-57).
(4) تفسير القرآن العظيم (1-492).
(5) أحكام القرآن، للجصاص (3-148).
(6) أحكام القرآن، لابن العربي (1-530).
(7) انظر: تفسير الطبري (2- 454).
(8) تفسير البغوي (1-205)؛ زاد المسير (1-261)؛ تفسير الثعالبي (2-173).
(9) أحكام القرآن (2-70).
(10) أضواء البيان (1-103)؛ وانظر: التفسير الكبير (6-82)؛ تفسير أبي السعود (1-225).
(11) انظر: قوامة الرجل على زوجته، د. محمود بن مجيد الكبيسي، مجلة المجمع الفقهي، عدد (19)، (1425هـ)، (ص325).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي