إنَّ كثيراً من قُرَّاء القرآن وحفَّاظه لا يقرؤون القرآن إلاَّ لجمع حطام الدُّنيا، فيتلونه في المناسبات المختلفة؛ كالحفلات والمآتم وليالي رمضان، وبعضهم يتعلَّم القراءات لأجل المعيشة، ولأجل أن يرغب فيه النَّاس أكثر من غيره، ولو سألتَ الواحدَ منهم عن معنى كلمة أو آيةٍ لوَقَف عاجزاً مدهوشاً من هذا السُّؤال، وهذا من أبرز أنواع هجر القرآن...
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
عباد الله: إنَّ كثيراً من قُرَّاء القرآن وحفَّاظه لا يقرؤون القرآن إلاَّ لجمع حطام الدُّنيا، فيتلونه في المناسبات المختلفة؛ كالحفلات والمآتم وليالي رمضان، وبعضهم يتعلَّم القراءات لأجل المعيشة، ولأجل أن يرغب فيه النَّاس أكثر من غيره، ولو سألتَ الواحدَ منهم عن معنى كلمة أو آيةٍ لوَقَف عاجزاً مدهوشاً من هذا السُّؤال، وهذا من أبرز أنواع هجر القرآن؛ فإنَّ القرآن العظيم أنزله الله -تعالى- للتَّدبر والتَّعقل ثم للعمل به، يقول المولى -تبارك وتعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[ص:29].
1- وقد كان النَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- يحثُّ أصحابَه على إخلاص النِّية لله -تعالى- في تعلُّم القرآن وتعليمه، ويحذِّرهم من استعجال الأجر في الدُّنيا؛ من مال أو جاه أو منصب، وعدم احتساب ذلك في الآخرة:
فعن سهلِ بنِ سعدٍ السَّاعدي -رضي الله عنه- قال: خَرَجَ علينا رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم- يوماً، ونحن نقترئ(1) فقال: "الحمدُ لله، كتابُ الله واحدٌ، وفيكم الأحْمَرُ وفيكم الأبْيَضُ(2) وفيكم الأسْوَدُ(3)، اقْرَؤوهُ قَبْل أنْ يَقْرَأَهُ أقْوامٌ يُقيمُونَهُ كما يُقَوَّمُ السَّهْمُ(4) يَتَعَجَّلُ أَجْرَهُ ولا يتَأجَّلُهُ(5)"(6).
2- وكان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يؤكِّد دوماً على ابتغاء وجه الله -تعالى- في تعلُّم القرآن وتعليمه، ويحذِّر من ضد ذلك؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: دَخَلَ النَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- المسجدَ، فإذا فيه قومٌ يَقرَؤُونَ القُرآنَ، قال: "اقْرَؤُوا القُرآنَ، وابْتَغُوا به اللهَ مِن قَبْلِ أن يَأتِيَ قَوْمٌ يُقِيمونَه إِقَامَةَ القِدْحِ، يَتَعَجَّلُونَه ولا يَتَأَجَّلُونَه"(7).
فقد أخبر النَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- عن مجيء أقوام بعده يُصلحون ألفاظ القرآن وكلماته، ويتكلَّفون في مراعاة مخارجه وصفاته، كما يُقام القِدْح -وهو السَّهْم قبل أنْ يُعمل له رِيشٌ ولا نَصْلٌ- والمعنى: أنَّهم يُبالغون في عمل القراءة كمالَ المبالغة؛ لأجل الرِّياء والسُّمعة والمباهاة والشُّهرة.
أيها الإخوة الكرام: هؤلاء تعجَّلوا ثواب قراءتهم في الدُّنيا، ولم يتأجَّلوه بطلب الأجر في الآخرة، إنهم بفعلهم يؤثرون العاجلة على الآجلة، ويتأكَّلون بكتاب الله -تعالى-(8)، وهذا من أعظم أنواع هجر القرآن الكريم؛ فبئس ما يصنعون.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام الأتمان على مَنْ لا نبي بعده:
3- ربَّما حثَّ النَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابَه الكرام -رضي الله عنهم- على طلب الجنة جزاء تعلُّمهم القرآن، وحذَّرهم من إرادة الدُّنيا في ذلك؛ كمباهاة النَّاس والتَّأكُّل به؛ فعن أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه-؛ عن النَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "تَعَلَّموا القرآنَ، وَسَلُوا اللهَ بِهِ الجنَّةَ، قَبْلَ أنْ يَتعَلَّمَهُ قَوْمٌ، يَسْأَلُونَ به الدُّنْيا، فَإِنَّ القُرآنَ يَتَعَلَّمُهُ ثَلاثَةٌ: رَجُلٌ يُباهِي بِهِ، وَرَجُلٌ يَسْتَأْكِلُ بِهِ، وَرَجُلٌ يَقْرَأُهُ لله"(9).
4- وكان صلّى الله عليه وسلّم يحثُّهم أيضاً على سؤال الله -تعالى- بالقرآن، وعدم سؤال النَّاس شيئاً بقراءة القرآن؛ فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه-؛ أنَّه مَرَّ عَلَى قَارِئ يَقْرَأُ(10)، ثُمَّ سَأَلَ(11) فَاسْتَرْجَعَ(12)، ثُمَّ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "مَنْ قَرَأَ القُرآنَ فَلْيَسْأَل اللهَ بِهِ، فإنَّهُ سَيَجيء أقوامٌ يَقْرؤونَ القُرآنَ يَسْأَلونَ بِهِ النَّاسَ"(13).
بَيَّنَ المباركفوري -رحمه الله- معنى قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَنْ قَرَأَ القُرآنَ فَلْيَسْأَلِ اللهَ به" فقال: "أي: فَلْيطْلُبْ من الله -تعالى- بالقرآن ما شاء من أمور الدُّنيا والآخرة. أو المرادُ أنَّه إذا مَرَّ بآية رحْمَةٍ فلْيسألها من الله -تعالى-، أو بآية عقوبة فليتعوَّذ بالله منها.
وإمَّا أن يدعو اللهَ عَقيب القراءة بالأدعية المأثورة، وينبغي أن يكُونَ الدُّعاءُ في أَمْرِ الآخرة، وإصلاح المسلمين في معاشهم ومعادهم"(14).
أيها المسلمون: الأحاديث السَّابقة تحمل في ثناياها ذمّاً لهذه الطَّائفة من النَّاس الذين يتعلَّمون القرآن؛ للتَّكسُّب والشُّهرة وطلب الدُّنيا على الآخرة.
الدعاء ...
-----------------
(1) قوله: "ونحن نقترئ" أي: نحن نقرأ القرآن، من باب الافتعال من القراءة. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود (3/42).
(2) قوله: "وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض" كناية عن العجم؛ لأن الغالب على ألوانهم البياض والحمرة.
(3) قوله: "وفيكم الأسود" كناية عن العرب؛ لأن الغالب على ألوانهم الأُدْمَةُ، والأُدْمَةُ: قريبة من السواد.
(4) قوله: "يقيمونه كما يُقَوَّمُ السَّهم" أي: يُحَسِّنون النُّطق به.
(5) قوله: "يَتَعَجَّلُ أَجْرَهُ ولا يتَأجَّلُهُ" أي: يطلب بذلك أجر الدنيا من مال وجاه ومنصب، ولا يطلب به أجر الآخرة. انظر: جامع الأصول، لابن الأثير (2/450-451).
(6) رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب: ما يُجزئ الأمي والأعجمي من القراءة (1/220)
(ح831). وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/157) (ح741): "حسن صحيح".
(7) رواه أحمد في "المسند" (3/357 (ح14898). وقال محققو المسند (23/144) (ح14855): "حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات غير أسامة بن زيد، فحسن الحديث". وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع": (1/258) (ح1167).
(8) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود (3/42).
(9) رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن"، باب: القارئ يستأكل بالقرآن (ص206)، وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة": (1/118-119) (ح258). وقال: "وللحديث شواهد أخرى تؤيد صحَّته عن جماعة من الصحابة".
(10) أي: يقرأ القرآن.
(11) أي: طَلَبَ القارئُ من الناس شيئاً من الرِّزق لقراءته القرآن.
(12) أي: قال عمران رضي الله عنه: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة: 156]؛ لابتلاء القارئ بهذه المصيبة، وهي سؤال النَّاس بالقرآن، أو لابتلاء عمران -رضي الله عنه- بمشاهدة هذه الحالة الشَّنيعة، وهي من أعظم المصائب. انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري (8/235).
(13) رواه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب: ما جاء في تعليم القرآن (5/179) (ح2917). وقال: "حديث حسن". وحسَّنه الألباني أيضاً في "صحيح سنن الترمذي": (3/10) (ح2330).
(14) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (8/235).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي