ولقائل أن يقول: ما عندي ما أوقِفه، فيقال: أوقف مصحفاً، أو حامل مصحف.. علِّم علومًا دنيوية، وانوِ أن يُنتفع بها؛ كالخياطة، أو الحاسب، أو تصميم مواقع ولوحات؛ فإنك تؤجر، ويجري لك أجرها ما انتُفع بها؛ فأما العلم الشرعي فالأجر عليه أعظم وأنفع.. اغرس نخلة يؤكل من ثمرها، أو طلحة أو سدرة ينتفع الناس بظلها.. أوقف...
الحمد لله المستحق الحمد لآلائه، المتوحد بعزه وكبريائه، أحكم لطيف ما دبر، وأتقن جميع ما قدر، فله الحمد على قدره وقضائه، وتفضله بعطائه، وأشهد أن لا إله إلا الذي بهدايته سعد من اهتدى، وبتأييده رشد من اتعظ وارعوى، وأشهد أن محمدًا عبده المصفى، ورسوله المرتضى، فصلى الله وسلم عليه، وأزلفه في الحشر لديه، وعلى آله الطيبين.
أما بعد: فاتقوا الله؛ فتقواه غاية كل موفق ومبتغاه.
إنهم عباد موفقون مباركون، لا تنقطع أعمالهم بعد موتهم. أتريدون عملاً من أعمالهم النافعة الرافعة؟ إنها الوصية بالتبرع بالمال بعد الموت، ويتعاهدونها؛ تنفيذًا لقول رَسُولنا -صلى الله عليه وسلم-: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَلِكَ إلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي؛ فهل كتبت وصيتك يا عبد الله؟ الآن الآن.
وإليكم الآن اثني عشر سؤالاً حول الوصية:
السؤال الأول: هل يجب عليَّ أن أكتب وصيتي، مع أني فقير ليس عندي مال؟
والجواب: الوصية ليست بالمال فحسب؛ فإن ثمت ما هو أهم من المال، ألا وهو أن توصي أولادك وأهلك في أمر دينهم وصلاتهم؛ أسوة بما وصى به يعقوب أولاده: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:132].
فأما الوصية بالمال فقد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون مكروهة أو محرمة؛ فتجب إذا كان مديناً ولا أحد يعلم بدينه، أو غنيًا وورثته أغنياء، وله أقرباء فقراء غير وارثين.
وتسن إذا كان الموصي غنيًا، وورثته وأقاربه غير الوارثين أغنياء.
وتكون الوصية مكروهة إذا كان مال الموصي قليلاً، وورثته محتاجون، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"(رواه البخاري ومسلم).
السؤال الثاني: اعتاد الناس على الوصية بمقدار الثلث؛ فهل هذا هو الأفضل؟ لا، بل الأفضل أن يوصي بأقل من الثلث؛ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ".. وأوصى خليفته الصديق -رضي الله عنه- بالخمس.
السؤال الثالث: إذا كتب الموصي وصيته بقلمه؛ فهل هذا يكفي في ثبوت الوصية؟
نعم؛ يكفي إذا تحقق أنه قلمه وخطه، ولو لم يُشهِد شاهدَين، وإن تمكن من الجمع بين الكتابة والإشهاد على الوصية فهذا أحسن.
السؤال الرابع: لو أوصى لبناء مسجد من ثلث ماله ثم رجع؛ فهل يقبل الرجوع؟
نعم؛ يُقبل الرجوع؛ فإن الوصية لا تلزم إلا عند تحقق الموت ووقوعه.
السؤال الخامس: إذا مات الشخص بعد أن أُحيل إلى التقاعد وعليه دين؛ فلمن يصرف معاشه التقاعدي؟
يصرف منه للغرماء أولاً، وما بقي فللورثة.
السؤال السادس: إذا توفي شخص ولم يوصِ؛ فهل يشرع لأولاده إخراج شيء من ماله على أنه وصية؟
لا يلزمهم ذلك، لكنه من البر بأبيهم.
السؤال السابع: هل يؤْجَر الموصى إليه عند قبول وصية الموصى؟
نعم بشرط أن تكون عنده أمانة وقدرة على متابعته وتنميته. وأما إن أخر تنفيذها عن وقتها. أو تصرف بما ليس من مصلحتها فهو آثم.
السؤال الثامن: العمارة التي عليها رهن للبنك؛ هل يجوز أن يوقفها؟
لا يجوز، حتى يوفي جميع المبلغ للبنك، ويفك الرهن.
السؤال التاسع: أيهما أفضل: الوصية لغير الوارث من الأقارب الفقراء أم الوصية في أعمالٍ أخرى؟
الوصية لغير الوارث من الأقارب الفقراء أفضل؛ لأن قوله -سبحانه-: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ) [البقرة:180] باقٍ على مشروعيته في الأقارب والوالدين غير الوارثين.
السؤال العاشر: ما حكم من يوصي بتزويج أولاده الصغار من ثلثه؟
لا يجوز؛ لأنه نُهي عن الوصية لوارث.
السؤال الحادي عشر: هل للموصي أن يقترض من الوصية؟
لا يجوز أن يأخذ شيئاً من المال الذي هو وصي عليه ولو قرضاً. وعلى الموصي أن يكتب كل ما يصرفه؛ حتى لا يفاجأ فيما بعد بمن يسأله أين وضعه.
السؤال الثاني عشر: ما الأفضل في أن تصرف الوصية؟
ليحرص الوصي على الصرف فيما هو أكثر نفعًا، ومنها ما استجد من تقنيات الزمان؛ كالتطبيقات الالكترونية، ومجالات الإنترنت التي يمتد نفعها للعالم أجمع، وكالكتب النافعة المصرَّحة، وكرعاية تكاليف الدورات العلمية أو التربوية.. والموفق من يساهم في مجالات أحوج وأنفع.
الحمد لله على عظيم بره وجزيل إحسانه، وصلى الله وسلم على محمد عبد الله ورسوله الداعي إلى سبيل الله ورضوانه، وعلى آله وأصحابه وأعوانه.
أما بعد: وثمت أمر آخر هو أعظم أجرًا من الوصية، وأنفع منها للحي والميت، ألا وهي الوقف، بألا تنتظر حتى تموت؛ فيجري أجرك، بل اجعله يجري وأنت حي معافَى. يقول جابر -رضي الله عنه-: "ما بقي أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له مقدرة إلا وقف".
أيها المسلمون: تجدون اليوم أن أهل الضلال والتنصير يدعمون بالمليارات الملاجئ والمدارس والمستشفيات والمصانع؛ تمهيداً لتنصير المسلمين. وفي المقابل ترى مشاريع إسلامية دعوية أو علمية أو إغاثية تعاني من اضطراب في مستقبلها المالي.
ولقائل أن يقول: ما عندي ما أوقِفه، فيقال: أوقف مصحفاً، أو حامل مصحف.. علِّم علومًا دنيوية، وانوِ أن يُنتفع بها؛ كالخياطة، أو الحاسب، أو تصميم مواقع ولوحات؛ فإنك تؤجر، ويجري لك أجرها ما انتُفع بها؛ فأما العلم الشرعي فالأجر عليه أعظم وأنفع.. اغرس نخلة يؤكل من ثمرها، أو طلحة أو سدرة ينتفع الناس بظلها.. أوقِف إناءً يُشرب به، أو حوضاً يُجمع به الماء للحيوان.. أوقِفْ (دينمو) ماء للمسجد أو مكيفًا.
وختامها إليكم المسألة التالية: ما حكم من وضع مكيفاً في مسجد، ثم صارت منفعته ضعيفة؛ فهل يجوز بيعه؛ لتُجعل قيمته في شيء آخر للمسجد؟
الجواب: يجوز بيعه ليشترى ما هو خير منه، وإذا أتينا بمكيف جديد أحسن منه فإن هذه المدة التي يمكن الانتفاع بها يكون أجرها للأول، والثاني له أجر بلا شك. وفضل الله واسع.
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ.
اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ. اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ. اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ. اللَّهُمَّ إِنّا عَائِذون بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا.
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنْ الرَّاشِدِينَ.
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ.
اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ. اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي