عباد الله: ما ظنكم بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف عام، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، قد تقطعت أكبادهم جوعا، واحترقت أجوافهم عطشا، ثم انصرف بهم إلى النار، وهم يطمعون في الشراب، فلا يجدون إلا النار، يلقون...
الحمد لله مستحق الحمد وأهله، الجازي خلقه جزاء دائرا بين فضله وعدله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وحكمه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومتبعي هديه، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
اتقوا النار بطاعة الله، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بهذا.
اتقوا النار، فإنها دار البوار، دار البؤس والشقاء والخزي والعار، دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ساكنوها شرار خلق الله -تعالى- من الشياطين وأتباعهم، قال الله -تعالى- مخاطبا لإبليس: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)[ص: 84 – 85].
دار فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، وغيرهم من طغاة الخلق وفجارهم.
دار عبد الله بن أبي وأحزابه من منافقي هذه الأمة وخونتها.
هؤلاء سكانها، كفار فجرة، وطغاة ظلمة، ومنافقون خونة.
ولئن سألتم عن مكانها، فإنها في أسفل السافلين، وأبعد ما يكون عن رب العالمين، فهي دار عقاب الله، فأبعدت عن رحمة الله، وعن دار أولياء الله.
يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، حرها شديد، وقعرها بعيد، ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم" قالوا: يا رسول الله إنها أي نار الدنيا لكافية؟ قال: "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها" (البخاري (3092) مسلم (2843) الترمذي (2589) أحمد (2/313) مالك (1872) الدارمي (2847)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمعنا وجبة -أي صوت شيء سقط-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتدورن ما هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفا -يعني سبعين سنة- فالآن حين انتهى إلى قعرها"(مسلم (2844) أحمد (2/371)).
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقال لليهود والنصارى -وهم الذين يتسمون الآن بالمسيحيين -يقال لليهود والنصارى ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب، يحطم بعضها بعضا، فيتساقطون في النار، قال الله -تعالى-: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)[مريم: 86].
عباد الله: ما ظنكم بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف عام، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، قد تقطعت أكبادهم جوعا، واحترقت أجوافهم عطشا، ثم انصرف بهم إلى النار، وهم يطمعون في الشراب، فلا يجدون إلا النار، يلقون فيها: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ)[الملك: 7].
قد ملأها الله غيظا وحنقا عليهم: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)[الملك: 8].
يلقون فيها أفواجا يقابلون بالتقريع والتوبيخ: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ)[لملك: 8 – 11].
هذا ما يقابلون به عند دخولهم النار توبيخ وتقريع، وإهانة وتنديم، فتتقطع قلوبهم أسفا، وتذوب أكبادهم كمدا وحزنا، ولكن لا ينفعهم ذلك، فإذا دخلوها فما أعظم عذابهم، وما أشد عقابهم، يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم: (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)[الزمر: 16].
طعامهم الزقوم، وهو شجر خبيث مر الطعم، نتن الريح، كريه المنظر، يتزقمونه تزقما لكراهته وقبحه، ولكن يلجئون إلى ذلك لشدة جوعهم، فلا يسمنهم ولا يغني من جوع.
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم"(رواه النسائي والترمذي، وقال: "حسن صحيح").
فإذا ملئوا بطونهم من هذا الطعام الخبيث، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
التهبت أكبادهم عطشا، فلا يهيأ لهم الشراب، وإنهم ليستغيثون: (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ)[الكهف: 29].
وهو الرصاص المذاب: (يَشْوِي الْوُجُوهَ)[الكهف: 29].
حتى تتساقط لحومها: (بِئْسَ الشَّرَابُ)[الكهف: 29].
يشربونه على كره واضطرار، شرب الهيم، وهي الإبل العطاش التي لا تروى من الماء، فإذا سقط في أجوافهم قطع أمعاءهم.
هذا شرابهم، كالمهل في حرارته، وكالصديد في نتنه وخبثه، قال الله -تعالى-: (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)[إبراهيم: 15 – 17].
أما لباسهم، فلبـاس الشر والعـار: (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ)[الحج: 19].
على قدر أبدانهم، لا تقيهم حر جهنم، ولكن تزيدها اشتعالا فيها وحـرارة: (سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)[إبراهيم: 50].
في عذاب مستمر دائم: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)[الزخرف: 75].
(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء: 56].
وكلما خبت نارها زادها الله سعيرا: (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى)[المعارج: 15 – 18].
يرتفع بهم لهبها إلى أعلاها: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ)[السجدة: 20].
ينوع عليهم العذاب فلا يستريحون، فيقولون: (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ)[غافر: 49].
والله لا يطعمون في التخفيف الدائم، ولا في الانقطاع ولو ساعة، وإنما يسألون أن يخفف عنهم يوما واحدا من العذاب، ولكن لا تجيبهم الملائكة إلا بالتوبيخ والتهكم، تقول لهم: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ)[غافر: 50].
أي بالأدلة الواضحات، فيقولون: بلى، فتقول الملائكة: (فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)[غافر: 50].
فلن يستجاب لهم؛ لأنهم لم يستجيبوا للرسل حين دعوهم إلى الله وعبادته في الدنيا، وحينئذ يتمنون الموت من شدة العذاب، فيقولون: (يَا مَالِكُ)[الزخرف: 77] وهو خازن النار: (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)[الزخرف: 77] أي ليهلكنا ويميتنا، فيقول لهم: (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ)[الزخرف: 77].
ويقال لهم: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)[الزخرف: 78].
(كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)[البقرة: 167].
يتوجهون إلى رب العالمين ذي العظمة والجلال، والعدل في الحكم والفعال، فيقولون: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[المؤمنون: 106 – 107].
فيقول لهم أحكم الحاكمين: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ)[المؤمنون: 108- 110].
عباد الله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان، وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، يعني القدر"(البخاري (6194) مسلم (213) الترمذي (2604) أحمد (4/271)).
ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا.
وقال صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، أي يغمس فيها، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب"(مسلم (2807) أحمد (3/254)).
إنه -والله- لينسى كل نعيم مر به في الدنيا، وقد غمس في النار غمسة واحدة، فكيف به وهو مخلد فيها أبدا؟
يقول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[النساء: 168 – 169].
(وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[الجن: 23].
ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)[الأحزاب: 64 – 68].
اللهم أنجنا من النار، وأدخلنا الجنة دار المتقين الأبرار، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي