أدوا الأمانة، فيما بينكم وبين الله، وأدوها فيما بينكم وبين عباد الله. أما أداؤها فيما بينكم وبين ربكم، بأن تقوموا بطاعته مخلصين له الدين، وتتعبدوا بما شرعه، متبعين لرسوله، غير زائدين عليه ولا ناقصين، فلن يقبل الله عملا حتى يكون خالصا لوجهه، موافقا لشرعه. وأما أداء الأمانة فيما بينكم وبين العباد، بأن...
الحمد لله الذي فرض على العباد أداء الأمانة، وحرم عليكم المكر والخيانة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بها النجاة يوم القيامة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختم به الرسالة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الموصوفين بالعدالة، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وأدوا الأمانة التي حملتموها وتحملتم مسئوليتها حملتموها بما وهبكم الله من العقل، وأرسل إليكم من الرسل.
أدوا الأمانة التي عرضها الله: (عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
أدوا الأمانة، فإنكم عنها مسئولون، وعلى حسب القيام بها، أو التفريط فيها مجزيون، فإما مغتبطون بها مسرورون، وإما نادمون في إضاعتها حزينون.
أدوا الأمانة، فيما بينكم وبين الله، وأدوها فيما بينكم وبين عباد الله.
أما أداؤها فيما بينكم وبين ربكم، بأن تقوموا بطاعته مخلصين له الدين، وتتعبدوا بما شرعه، متبعين لرسوله، غير زائدين عليه ولا ناقصين، فلن يقبل الله عملا حتى يكون خالصا لوجهه، موافقا لشرعه.
وأما أداء الأمانة فيما بينكم وبين العباد، بأن تقوموا بما أوجب الله عليكم من حقوقهم، بحسب ما يقتضيه العمل الذي التزم به الإنسان نحو غيره من الناس.
فولاة الأمور صغارا كانوا أو كبارا، رؤساء أو مديرين، أمانتهم أن يقوموا بالعدل فيما ولوا عليه، وأن يسيروا في ولايتهم حسبما تقتضيه المصلحة في الدين والدنيا، وأن لا يحابوا في ذلك قريبا ولا صديقا، ولا قويا ولا غنيا ولا شريفا، فلقد أقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق بدون قسم: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها.
أقسم على ذلك علنا، وهو يخطب الناس، حينما شفع إليه في رفع الحد عن المرأة التي من بني مخزوم.
أقسم على ذلك تشريعا للأمة، وتبيانا للمنهج السليم الذي يجب أن يسير عليه ولاة الأمور.
وعلى ولاة الأمور: أن يولوا الأعمال من هو أحق بها وأجدر، وأقوم وأنفع.
إن من خيانة الأمة وخيانة العمل: أن يولى على المسلمين أحد وفيهم من هو خير منه في ذلك العمل.
والموظفون أمانتهم في وظائفهم: أن يقوموا بها على الوجه المطلوب، وأن لا يتأخروا في أعمالهم، أو يتشاغلوا بغيرها إذا حضروا مكان العمل، وأن لا يتعدوا في أمر لا يعنيهم، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
إن بعض الموظفين يخدعون أنفسهم حينما يحدثونها إذا تأخروا عن واجبهم، بأن هذه الأنظمة ليست أمورا دينية، أو أن الأجرة، أو الراتب الذي يأخذه من بيت المال، ونحو ذلك.
وهذه خدعة يغترون بها.
أما النظام، فما دام ولاة الأمور قد نظموه وهو لا يخالف الشريعة، فإن الواجب طاعتهم فيه، وطاعتهم فيه من طاعة الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء: 59].
وأما الراتب الذي تأخذه من بيت المال، فإنما تستحقه في مقابلة عمل، فإن قمت بالعمل كان الراتب حلالا لك، وإلا فما الذي يحلله لك، ويحرمه على الآخرين الذين ليسوا في وظيفة عن من لا يقوم بواجب وظيفته، هو في استحقاق ما يستحقه من بيت المال، ومن ليس بموظف على حد سواء.
فاتق الله -أيها المسلم- وقم بما يلزمك نحو وظيفتك طاعة لله، واتقانا للعمل، وإبراء للذمة، وتحليلا لراتب وظيفتك.
وإن من واجب الأمانة في الوظيفة: أن لا تقدم معاملة أحد على أحد أولى منه؛ لأنه قريبك، أو صديقك، أو أهدى إليك هدية، أو دفع إليك رشوة، أو ترجو منه أن يسهل لك مهمة أخرى من قبله، أو لغير ذلك من الاعتبارات غير الشرعية.
فإن بعض الناس يتهاون بذلك، وهو من خيانة الوظيفة.
ومن ظلم الخلق: تجد شخصين يقدمان كل منهما معاملة، فتنتهي معاملة أحدهما في أيام ولا تنتهي معاملة الثاني إلا في شهور من غير اعتبار شرعي يخول ذلك التقديم، ربما يتعلل بأن هذا شرس يجب أن يفتك منه، أو نحو ذلك، وهذا غير مبرر للتقديم.
ولولا واجب العدالة لقلت إن الشرس ينبغي أن يؤخر عقوبة له على شراسته.
ورعاة الأمور الذين شرفهم الله برعاية مصالح البلد، ورزقهم من الوجاهة والحسب ما استحقوا به أن يكون رعاة لمصالح بلدهم.
أمانتهم: أن يقوموا بهذه الرعاية حق رعايتها، مشيرين فيما لا يستطيعون الإلزام به، وملزمين فيما لهم حق الإلزام به، وأن يراعوا المصالح الدينية والدنيوية فيما رفع إليهم، وما لم يرفع؛ لأنهم رعاة مصلحة البلد، ومتى بذلوا الجهد مخلصين لله -تعالى-، مبتغين مصلحة بلدهم، سالكين سبيل الحكمة والعزم، فسيوفقهم الله -تعالى-، ويهيئ لهم من المسئولين آذانا صاغية، وأعمالا جادة، فإن الله لا يضيع أجر الْمُصْلِحِينَ.
وولاة الأمور الخاصة كالرجل في أهله وولده: أمانتهم أن يقوموا بتربية أولادهم، وتوجيههم وإرشادهم، ومراقبتهم مراقبة تامة، لا سيما في الوقت الذي تكثر فيه الفتن، وتشتد فيه المنكرات، فإن الأمانة تحتم عليهم الرقابة أكثر مما إذا خفت الفتن، وقلت المنكرات.
ألسنا في أموالنا إذا كثرت السرقة، وكثرت الخيانة، نتحفظ فيها أكثر، ونطلب لها المكان الأحرز، فكذلك يجب علينا في أولادنا، بل ملاحظة أولادنا أوجب علينا من ملاحظة المال، لما في إهمالهم من الخطر علينا وعلى أنفسهم وعلى الأجيال المقبلة كلها.
إن أولادنا وليس أموالنا هم الذين يصحبوننا في الجنة إذا تبعونا في الإيمان: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور: 21].
إن كل واحد من الناس لا يرضى أن يكون منعما في الجنة وأولاده معذبين في النار.
إننا نجزم أن الشخص لو رأى النار في الدنيا تأكل ولده أو قريبه لسعى بكل جهده في دفعها عنه، أفلا يعقل ويقيس كيف يرى ولده يسعى في المعاصي التي هي أسباب دخول النار، ثم لا يبالي بذلك مع أن إهماله يوجب أن يعذب عليه؛ لأنه عاص لله، حيث قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التحريم: 6].
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وأدوا أمانة الله التي حملتموها، فقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[الأنفال: 27 – 28].
وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة، وحمانا جميعا من الإضاعة والخيانة، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي