خطبة يوم عرفة 1437هـ

عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس

عناصر الخطبة

  1. التوحيد دعوة الرسل
  2. وصايا الرسول في خطبة الوداع
  3. خصائص دين الإسلام
  4. نصيحة إلى قادة الأمة وزعمائها
  5. تحذير الشباب من التكفير والإرهاب
  6. مكانة الأخلاق والتمسك بها
  7. وصايا لعلماء ودعاة الأمة
  8. فضل يوم عرفة.

الخطبة الأولى:

إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، اللهم لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهِك ولعظيمِ سُلطانِك.

لك الحمدُ حمدًا نستلِذُ به ذِكرًا *** وإن نكُ لا نُحصِي ثناءً ولا شُكرًا

لك الحمدُ حمدًا طيِّبًا يملأُ السماء *** وأقطارَها والأرضَ والبَرَّ والبحرَا

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس: أُوصِيكم ونفسي بتقوَى الله – تبارك وتعالى -.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70، 71].

عليك بتقوَى الله في كلِّ أمرِه *** تجِد غِبَّها يوم الحسابِ المُطوَّلِ

ولا خيرَ في طُولِ الحياة وعَيشِها *** إذا أنت منها بالتُّقَى لم تَرَحَّلِ

أمة الإسلام: لقد شرَّف الله الإنسانَ وأكرَمَه باستخلافِه في الأرض، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، وهذا الاستِخلافُ قائِمٌ على أساس الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيقِ العدل بين الناس.

وقد أرسلَ الله الرسلَ تَترًا لأداء هذه المهمة العظيمة، وإقامَة الحُجَّة على الناس، ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]. وأيَّدَهم ربُّهم بالآياتِ البيِّنات الدالَّة على صِدقِهم، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد: 25].

ثم بَعَثَ الله إلى البشريَّة سيِّدَنا ونبيَّنَا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، سيِّد ولد آدم، إمامَ الأنبياءِ وخاتمَ المُرسلين – عليه الصلاة والسلام -، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا(46)﴾ [الأحزاب: 46].

بُعِثَ بدين الإسلام الذي أنارَ للناس طريقَهم، وأرشَدَهم لحقيقةِ التوحيدِ الخالصِ، وأنقَذَهم الله به من براثِنِ الشرك وظُلُماته، وحرَّرَهم من عبادة المخلوقِ إلى عبادة الخالقِ -جل وعلا-، وفتَحَ لهم طريقَ الهداية، وسُبُلَ الرَّشاد، لكي يتَّجِهُوا إلى خالقِهم -سبحانه-، ويُحقِّقُوا الغايةَ الكبرى، ويمتثِلُوا للحكمة العُظمَى من خَلقِهم, ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وهذا دليلٌ على أهمية التوحيدِ، وأنه حقُّ الله على العَبيد، من أجلِه أُرسِلَت الرُّسُل، وأُنزِلَت الكُتُب.

فلِواحدٍ كُن واحدًا في واحدِ *** أعنِي سبيلَ الحقِّ والإيمانِ

لقد جاء الإسلامُ بدين الحقِّ الذي لا يجوزُ أن يرتَابَ فيه مسلمٌ، وهو الدينُ الذي لا يقبَلُ الله دينًا غيرَه، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 85]، جاءَ ليحُثَّ الناسَ على الخير والصلاح، والنجاة والفلاح.

حُجَّاج بيت الله الحرام: لقد وقَفَ نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف العظيم، وخطَبَ -عليه الصلاة والسلام- في مثل هذا الموقف خُطبةً عظيمةً، أرسَى فيها قواعدَ الإسلام، وهدَمَ مبادِئَ الجاهلية، وعظَّم حُرُمات المسلمين، خطَبَ الناسَ وودَّعَهم بعد أن استقَرَّ التشريعُ، وكمُلَ الدينُ، وتمَّت النعمةُ، ورضِيَ الله هذا الإسلامَ دينًا للإنسانية كلها، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].

لقد ألقَى النبي الكريمُ -عليه الصلاة والسلام- في هذا اليوم المُبارك كلمات جامِعة مُوجَزة، تُرسِّخُ المبادئَ الكُبرَى لهذا الدين، فثبَّت -عليه الصلاة والسلام- في نفوس المسلمين أصولَ الديانة، وقواعدَ الشريعة، ونبَّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى.

لقد جاهد -عليه الصلاة والسلام- من أجل إخراجِ الناسِ من الظُّلُمات إلى النور، لتُولَد – بإذن ربِّه – أمةٌ جديدةٌ، ذاتُ أهدافٍ واضِحة، ومبادِئ سامِيَة، فهداهم من ضلالٍ، وجمَعَهم بعد فُرقةٍ، وعلَّمَهم بعد جهلٍ.

كما أعلَن -عليه الصلاة والسلام- في خُطبةِ الوداع حقوقَ الإنسان، وحدَّد معالِمَ الحرِّيات، وأسَّسَ مُنطلقات الكرامة الإنسانية لبني البشر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليْكُم حرامٌ كحُرمةِ يومِكم هذا، في شَهرِكم هذا، في بلدِكم هذا".

لقد حفظ الإسلامُ للإنسانِ ضروريَّاته الخمس، التي لا تقومُ الحياةُ إلا بها؛ فحرَّم الاعتِداءَ على دينه، ونفسه، وماله، وعرضه، وعقلِه، وما ذاك إلا ليعيشَ آمِنًا مُطمئنًّا، يعمَلُ لدُنياه وآخِرتِه، ويعيشُ المجتمعُ كلُّه في تماسُكٍ كالبُنيان المرصُوص يشُدُّ بعضُه بعضًا، وليصلُحَ بذلك حالُ الناس، وتستقيمَ أمورُهم.

كما أوصَى في خُطبته العظيمة بالمرأة المسلمة خيرًا، وأبانَ حقوقَها وواجباتها، وما لها وما عليها.

أيها المسلمون: لقد بيَّن الإسلامُ أن الناس مُتساوُون في التكاليف، حُقوقًا وواجِبات، لا فرقَ بين عربيٍّ ولا عجميٍّ إلا بالتقوَى، لا تفاضُل في النَّسَب، ولا تمايُز في لَون، قال -عليه الصلاة والسلام-: "يا أيُّها النَّاسُ! إنَّ ربَّكم واحدٌ, وإنَّ أباكم واحدٌ، كلُّكُم لآدم، وآدمُ من تُراب، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم، ليس لعربيٍّ فضلٌ على عجميٍّ إلَّا بالتَّقوَى".

كما انفرَدَ الإسلامُ بنظامه الاقتصادِيِّ المُتميِّز، الذي راعَى فيه بين حاجات الناس البشرية ومُتطلَّباتهم الفِطريَّة، بتوازُنٍ ليس له نَظير، ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: 77].

كما وضَعَ الإسلامُ أُسُسًا واضِحةَ المعالِم للتعامُلات المالية، القائِمةِ على الصِّدقِ والعدلِ والإحسانِ، والناهِيةِ عن الظُّلم والجَهلِ والغَرَر، والغِشِّ والخداعِ، قال -عليه الصلاة والسلام-: "البيِّعانِ بالخِيَار ما لم يتفرَّقَا، فإن صدَقَا وبيَّنَا بُورِك لهما في بَيعِهما"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من غشَّنا فليس منَّا"، كما حرَّم الرِّبا، ونهَى عن أكل أموالِ الناس بالباطل.

إن لقاعدةِ التكافُل الإسلاميِّ مكانةً بارِزةً في المُجتمع المسلم، فهو لا يقِفُ عند النَّفع المادي؛ بل يتعدَّاه إلى حاجات المجتمع أفرادًا وجماعات، مادِّيةً كانت تلك الحاجات أو معنويَّة، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [سورة المائدة: 2]، كما قال -سبحانه-: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71].

إن دائرة هذا التكافُل تتَّسِع لتشمَلَ بنِي البشر جميعًا، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]. كما أنه يشمَلُ أوجُهَ البرِّ والخيرِ كلِّها.

كما حثَّ الإسلامُ على برِّ الوالدَين، والإحسانِ إليهما، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23].

ونهَى عن قطيعةِ الرَّحِم، وجاء الوعيدُ الشديدُ على ذلك: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(23)﴾ [محمد: 22، 23].

وحثَّ على حق الجوار، ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ [النساء: 36]، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر فليُكرِم جارَه".

كما حفِظَ الإسلامُ النفوسَ، وصَانَ الدماءَ، وجعَلَ ذلك قضيَّةً من أخطر القضَايَا، فنهَى الإسلامُ عن الثَّارَات، وعالَجَ كلَّ ما يطرَأُ بين الأفراد من مُشكلاتٍ بحُدودٍ وأحكامٍ شرعيةٍ واضِحات، ومُحكَمات مُسلَّمات، تردَعُ المُجرِمين، وتأخُذُ على أيدِي المُفسِدين، وتُقيمُ العدلَ في الأرض، وأمَرَهم بالالتِزام بتلك الأحكام العظيمة، ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].

إخوة الإسلام: لقد جاءَ الإسلامُ بالمنهَج الوسط، القائِمِ على حفظ المصالح ودَرء المفاسِدِ، دعَا إلى البناء والتنمِيَة، والأخذِ بكل أسبابِ التقدُّم والتطوُّر في جَمعٍ بين الأصالةِ والمُعاصَرَة، ونهَى عن كل مسالِكِ الفسادِ والإفسادِ، وجعَلَ مصالِحَ الأمة العُليَا فوقَ كل اعتِبار، ورتَّبَ الوعيدَ الشديدَ في الدنيا والآخرة على من تجاوَزَ تلك المصالِحَ، أو عبَثَ بأمنِ الأمة واستِقرارِها، ومُقدَّراتها ومُكتسَبَاتها، ونهَى عن التعدِّي عليها.

قادةَ الأمة الإسلامية وشُعوبَها: إن أمَّتَنا المسلمة اليوم تمُرُّ بظروفٍ صعبةٍ من تاريخها، تستلزِمُ منَّا شُعوبًا وقادةً في دُول العالم الإسلامي، تضامُنًا في قُلوبِنا ومشاعِرِنا، وتنسيقًا في مواقِفِنا وتصوُّراتِنا، وتكامُلاً في جُهودِنا لمُواجَهة مُشكلاتِنا وقضايانا، وعلى رأسها: قضيَّةُ فلسطين والمسجد الأقصى المبارك، ومأساة إخوانِنا في بلاد الشام والعراق واليمن وغيرها.

إننا أحوَجُ ما نكون إلى الحِوار طريقًا لمناقشة قضايَانا، والتناصُحِ بالخير سبيلاً لتعزيز أُخُوَّتنا، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وإن علينا أن نُدرِك جميعًا أن إصلاحَ مُجتمعاتِنا وحِفظَ أمن أمَّتِنا ووَحدَتها، وصِيانة مُقدَّراتها مَنوطٌ بتعاوُن الشعوبِ مع قادَتهم، والرَّعايا مع رُعاتِهم، وبالالتِفافِ حولَهم.

وأن على القادَة المسلمين أن يستشعِرُوا عِظَمَ الأمانة والمسؤوليَّة، وأن عليهم مُعالجةَ كل ما يطرَأ من مُسبِّبات الفُرقَة والاختلاف، بالاحتِوَاء والحوار والإنصاف، ورفعِ الظُّلم عن المظلومين.

أمة الإسلام: إن العدلَ قاعدةُ الشرع الحَنيف، وهو الميزانُ المستقيم، وهو رسالةُ المُرسَلين، وهو أمرُ ربِّ العالمين، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: 135]، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].

لقد أرسَى الإسلامُ قيمةَ العدل في كل نُظُمه وتشريعاتِه، وما ذاك إلا لأهميَّته وجميل غايَاته؛ ففي العدلِ قِوامُ البشريَّة وصلاحُها وسعادتُها، وفيه خيرُها وهدايتُها وفلاحُها، وبالعدلِ يكثُرُ الخيرُ، ويعُمُّ النماءُ، وتطمئِنُّ نفوسُ الخلق، وتستقِرُّ أحوالُ الناس.

كما جاء الإسلامُ بإعزازِ شَعيرةِ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].

أيها المسلمون: إن دينَكم هو دينُ المُعامَلة، وهو دينُ الإنصافِ والرحمةِ، ودينُ السُّلُوك القَويم، والتصرُّف الراشِدِ السليم، لقد انتشَرَ الإسلامُ من خلال المُعامَلَة الحسنة، المُتمثِّلة في القِيَم، التي أسَّسَها الإسلامُ، واتَّصَف بها أبناؤه من العدلِ والإحسانِ والصدقِ، والأمانةِ، ومكارمِ الأخلاقِ.

وإن القُدوةَ الصالِحةَ الحسَنةَ أمرٌ بالِغُ الأهمية في بناء الإسلامِ الأخلاقِيِّ، ومُنطلقَاتِه السُّلُوكيَّة. ولقد رأى الناسُ نبيَّك محمدًا -عليه الصلاة والسلام- وهو بشرٌ مثلُهم، تتمثَّلُ فيه هذه الصفاتُ كلُّها، فيُصدِّقُون هذه المبادِئ الحيَّة، وتتحرَّكُ بذلك لها نفوسُهم، وتهفُو لها مشاعِرُهم، ويتمثَّلُونَها واقِعًا لحياتهم، فكان -عليه الصلاة والسلام- خيرَ قُدوةٍ ومُعلِّمٍ ومُرَبٍّ، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

أيها الشبابُ المُسلم: إن من عظيمِ ما ابتُلِي به العالَمُ في عصرِنا هذا: صُورًا من الإفسادِ في الأرض، مُتمثِّلةً في آفَةِ الإرهاب، الذي عمَّ شرُّه أُممًا شتَّى، وأعراقًا مُختلِفة، ومذاهِبَ مُتعدِّدة، لا يُمكنُ أن يُنسَبَ إلى أمةٍ، أو دينٍ، أو ثقافةٍ، أو وطنٍ، أو تُلصَق تُهمةُ الإرهاب بالإسلام.

ومن ذلك: ما ابتُلِيَت به أمةُ الإسلام من بعضِ أبنائِها وشبابِها الذين أغوَتهم الشياطين، وتنكَّبُوا الصراطَ المُستقيمَ، فصرَفَتهم عن منهجِ الإسلام المُعتدِل، فسارَعُوا إلى التكفيرِ الذي هو وَبيلُ العاقِبة، ومما تتصدَّعُ له القلوبُ المُؤمنة، وتفزَعُ منه النفوسُ المُسلِمة.

لقد كفَّرُوا المُسلمين، واستبَاحُوا دماءَهم المعصُومة، وخفَرُوا الذِّمَم المُحرَّمة، وسعَوا في الأرض بالفسَاد تفجيرًا وتدميرًا، وقتلاً للأبرِياء، وترويعًا للآمِنين من المُسلمين وغير المُسلمين، وصمُّوا آذانَهم عن كتابِ الله وسُنَّة رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، وإجماعِ عُلماء الأمة التي تُحرِّمُ هذه الأعمالَ الخبيثَة، والأفعالَ المُنكَرَة.

فيا شبابَ الإسلام: إن عليكم مسؤوليَّةً عظيمةً، أنتم عِمادُ الأمة ومُستقبلُها، فاحذَرُوا كلَّ طريقٍ يُوصِلُ إلى تفريقِ الصفِّ، واختِلافِ الكلِمة، وتمزيقِ الشَّمل، واعلَموا أن من عوامِل الزَّيغ والضلالِ في الأمة، وهو الطامَّةُ العُظمى، والبلِيَّةُ الكُبرَى التسارُعَ في تكفيرِ أهل القِبلة، فلقد حذَّر نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- بأعظم الزَّواجِر، وأبلَغ المواعِظ من ذلك الإثمِ العظيم.

فأحيطُوا أنفسَكم – يا رعاكم الله – بتقوَى الله في كل حينٍ، وبسلاحِ العلمِ والمعرِفةِ، وبالرُّجوعِ إلى عُلماء الأمة والأخذ عنهم بالأدلَّة والبراهِين الواضِحة.

إن المُؤمَّل فيكم عظيم، فأظهِرُوا للعالَم محاسِنَ دينكم وسماحتَه ورحمتَه وأخلاقَه. كُونوا خيرَ قُدوة، واستغِلُّوا أوقاتَكم، ووجِّهُوا طاقاتِكم لما فيه خيرُ أمَّتكم، وعِزُّ إسلامِكم، ونفعُكم في دُنياكم وأُخراكم.

أيها المُربُّون: إن الأخلاقَ الكريمةَ هي جوهرُ الرسالات السماوية، وهي من مقاصِدِ بِعثةِ نبيِّنا -عليه الصلاة والسلام-، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [الجمعة: 2]. وقد أثنَى الله – جل وعلا – في كتابِه على نبيِّه الكريمِ، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].

فالإسلامُ جعلَ من أولويَّاته: تزكيةَ النفوس وتهذيبَها، والرُّقِيَّ بها إلى أعلى درجات الفضيلة، ولذا كانت تربيةُ النفس على تلك الأخلاق القَويمة هو منهجُ الإسلام، وهو سببٌ لنجاتِها من عذابِها، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾ [الشمس: 7- 10]، وهو أيضًا سببٌ للخيريَّة، "خيرُكم أحسنُكم أخلاقًا".

إن بعضَ مُجتمعات المُسلمين اليوم تُعاني من انفِكاكٍ كبيرٍ بين قِيَمها وسُلوكيَّات أفرادِها، على نحوٍ يُنذِرُ بخُطورة المرحلة، وصُعوبة التحديَّات. ولهذا كان عليكم – أيها الآباء والمُربُّون – مسؤوليَّةٌ عظيمة في تربيةِ النَّشء على فضائلِ الأخلاق ومكارمِها، خُصوصًا في هذا الزمن الذي كثُرَت فيه أسبابُ الشرِّ والفتن، وأضحَت الحربُ حربَ أخلاقٍ وقِيَمٍ وفضائِل.

عُلماء الإسلام: أنتُم ورثَةُ الأنبياء، وحمَلةُ الرسالة، وعليكم التَّبِعة، فلا تكُونوا سببًا في تفريقِ الأمة، اهدُوهم إلى سبيل الرشاد، تكلَّموا بالحقِّ ولا تكلَّمُوا بالباطل، بصِّروا الناسَ وأفتُوهم بشرعِ الله من غيرِ تساهُلٍ ولا تشدُّدٍ؛ فدينُ الله وسطٌ بين الغالِي فيه والجافِي عنه، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143].

خُذُوا الناسَ بالتيسير، ورفعِ الحرَج، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، "وما خُيِّر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرَين إلا اختارَ أيسرَهما ما لم يكُن إثمًا".

أيها الدُّعاةُ إلى الله: إن الدعوةَ إلى الله هي وظيفةُ الرُّسُل والأنبياء، فلتكُن دعوتُكم على المنهَج الصحيحِ، بالعلمِ والبصيرةِ والإخلاص، ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

كُونوا قُدوةً حسنةً، ارفُقُوا بالمدعُوِّين، ولتكُن الحكمةُ والحوارُ بالحُسنى وسيلتَكم، والعلمُ سلاحَكم، وتبصيرُ الناسِ بالحقِّ ونفعُهم هدفَكم وغايتَكم.

احذَرُوا الحزبِيَّات والتصنيفات، والفُرقةَ والانقِسامات، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].

يا رِجالَ الإعلام, وأربابَ مواقِع الاتِّصال: اللهَ اللهَ في تسخير الإعلام ووسائلِه ومواقِعِه في نُصرة الدين، والدفاعِ عن الإسلام وبيان محاسنِه، والتِزام الكلمة، والأمانة، ومِصداقيَّة الحرفِ، وأمانة الكلمة، والتِزام الحقيقة والموضوعيَّة، البُعد عن الإثارة والشائِعات والبَلبَلة. اجعَلُوها تبنِي ولا تهدِم، وتجمعُ ولا تُفرِّق، وتُقوِّي ولا تُضعِف.

حُجَّاج بيت الله الحرام: إنكم في البلد الحرام، فاستحضِرُوا عظمتَه وحُرمتَه؛ فلقد اختصَّ الله -سبحانه وتعالى- هذا البلدَ الحرامَ بخصائِصَ ليست لغيره، فهو آمِنٌ حرامٌ إلى يوم القيامة، ومن دخلَه كان آمِنًا، وهي دعوةُ الخليل إبراهيم -عليه السلام-: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35].

وقد اختارَه الله لنبيِّه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، قال – سبحانه -: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27].

فلبَّى إبراهيمُ -عليه الصلاة والسلام-: "لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شريكَ لبَّيكَ، إن الحمدَ والنِّعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك"، فلبَّى من بعدِه أنبياءُ الله ورُسُلُه، وعبادُ الله المُخلِصُون.

دعاهم فلبَّوه رِضًا ومحبَّةً *** فلما دعَوه كان أقربَ منهُمُ

ها أنتم حُجَّاج بيت الله الحرام قدِمتُم إلى بلد الله الأمين، قد سُهِّلَت لكم السُّبُل، وذُلِّلَت أمامكم العقَبَات، فاشكُرُوا الله على نعمِه، واسأَلُوه المزيدَ من فضلِه.

هذا بيتُ الله الحرامُ آمِنٌ بأمان الله، ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين: 3]، وحرامٌ بتحريمِ الله، فاحذَرُوا الإخلالَ بأمنِه، وعظِّمُوا شعائِرَه، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30].

احذَرُوا تكديرَ صَفوِ شعائِرِه ومشاعِرِه، ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25].

وإن أمنَ الحرمَين وسلامةَ الحَجيج خُطوطٌ حمراءُ لا يُمكنُ تجاوُزُها برفعِ شِعاراتٍ سياسيَّة، أو نَعَرَاتٍ طائفيَّة.

وإن من فضلِ الله على هذه البلاد: أن هيَّأَ لها قيادةً حكيمةً تشرَّفَت بخدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما، ووفَّرَت منظومةً مُتكامِلةً من الخدمات والتسهيلات، وبذَلَت الغالِيَ والنفيسَ لينعَمَ قاصِدُوهما بالأمنِ والأمانِ، ويُؤدُّوا مناسِكَهم بكل يُسرٍ وسُهولةٍ واطمِئنان.

فجزَى الله خادمَ الحرمين الشريفين الملكَ سلمانَ بن عبد العزيز عن الإسلام والمُسلمين خيرَ الجزاء، وبارَك في مساعِيه، وجعلَ ذلك في ميزان حسناتِه، وأمدَّه بالصحةِ والعافِية، ووفَّقَه ونائِبَيْه وأعوانَهم لما يُحبُّه ويرضَاه.

كما ندعُو لكل من شارَكَ في تسهيلِ وتيسيرِ سُبُل الحجِّ، وأعانَ على توفير الراحةِ والطُّمأنينة للحُجَّاج وأداءِ مناسِكِهم بكل يُسرٍ وسُهولةٍ، وفي مُقدِّمتهم: أميرُ الحجِّ وأميرُ البلد الحرام، جزاه الله خيرًا عن الحُجَّاج خيرَ الجزاء.

وكذلك رِجالُ الأمن البواسِل الذين يبذُلُون جهودًا عُظمَى في الحِفاظِ على أمن الحرمين الشريفين وأمنِ قاصِدِيهما، وفي الحِفاظ على ثُغورِنا وحُدودِنا، فجزاهم الله خيرًا وبارَك في جُهودِهم، ونسألُ اللهَ لهم السَّدادَ في القولِ والعملِ، وأن يجعلَ مساعِيَهم مساعِيَ خيرٍ وصلاحٍ، وأن يُعظِمَ أجورَهم ومثوبَتَهم، هم وإخوانُهم العاملُون في خدمة الحرمين الشريفين وقاصِدِيهما، والإفتاء، والعاملين في شُؤون الدعوة والإرشاد، والصحة، وغيرها من كافَّة المجالات.

حُجَّاج بيت الله الحرام: إن يومَكم هذا يومٌ عظيمٌ مُبارَك، يقولُ -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يومٍ أكثرُ من أن يُعتِقَ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكةَ، فيقولُ: ماذا أرادَ هؤلاء؟!". وفي روايةٍ: "انظُروا إلى عبادِي أتَوني شُعثًا غُبرًا، أُشهِدُكم أني قد غفرتُ لكم".

فاجتهِدُوا فيه بالدعاء، يقولُ -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُ الدعاء دُعاء يوم عرفة، وخيرُ ما قُلتُ أنا والنبيُّون من قبلِي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قدير".

الزَمُوا سُنَّة نبيِّكم -عليه الصلاة والسلام-، قِفُوا بعرفة إلى غُروب الشمسِ، صلُّوا بها الظُّهرَ والعصرَ جمعًا وقصرًا كما فعلَ نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "خُذُوا عنِّي مناسِكَكم".

أفيضُوا إلى مُزدلِفة، وصلُّوا بالمغربَ والعشاءَ جمعًا وقصرًا، وارمُوا جَمرةَ العقَبَة من بعد مُنتصَفِ ليلةِ النَّحر، وبِيتُوا بمِنى ليالِي أيام التشريق، وارمُوا الجِمارَ في اليوم الحادِي عشر والثاني عشر لمن تعجَّل، وفي اليوم الثالث عشر لمن لم يتعجَّل، وهو أفضلُ، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 203]. واعلَمُوا أن كل الليل محَلٌّ لرميِ الجِمار بفضلِ الله ومنِّه.

التَزِمُوا -يا رعاكم الله- بالإرشادات والتوجيهات والأنظمة التي وضعَتها الجهاتُ المُختصَّة، في التفويجِ والتنقُّل بين المشاعِر، وفي أداءِ المناسِكِ كلِّها، وتجنَّبُوا المُزاحَمَة والإيذاءَ، وعليكم بالهُدوء والسَّكينَة، ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].

واتَّقُوا اللهَ في جوارحِكم وألسِنتِكم، وفي أقوالِكم وأفعالِكم. وتدرَّعُوا بالصبرِ والأملِ والتفاؤُل والاستِبشار، واحذَرُوا اليأسَ والقُنوطَ والإحباطَ، فدينُ الله منصُور، والله حافِظٌ دينَه وبلادَه وعبادَه، والعزَّةُ لله ولرسولِه وللمُؤمنين، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

عباد الله: إن من أفضلِ أعمالِكم، وأزكاهَا عند مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم: كثرةَ صلاتِكم وسلامِكم على النبي المُصطفى، والرسولِ المُجتبَى، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]. اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّم وبارِك عَلَى عبدِك ورسولِك نبيِّنا مُحَمَّدٍ.

يا أيها الراجُون خيرَ شفاعةٍ *** من أحمدٍ صلُّوا عليه وسلِّمُوا

صلَّى وسلَّم ذُو الجلالِ عليهِ ما *** لبَّى مُلبِّي أو تحلَّلَ مُحرِمُ

وارض اللهم عن خلفائِه الراشِدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابةِ أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، واحمِ حَوزَةَ الدين، وارفَع كلمةَ الحقِّ والدين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرِين.

اللهم وفِّق الأمةَ الإسلاميةَ إلى كل خيرٍ، اللهم اغفِر للمُؤمنين والمُؤمنات، والمُسلِمين والمُسلمات، وألِّف بين قلوبِهم، وأصلِح ذاتَ بينهم، واهدِهم سُبُل السلام، وانصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، وجنِّبهم الفواحِشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَن.

اللهم فرِّج همَّ المهمُومين، ونفِّس كربَ المكرُوبين، واقضِ الدَّينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين. اللهم اجمَع قلوبَ المُسلمين على طاعتِك، واكفِهم شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وحِقدَ الحاقِدين، وحسَدَ الحاسِدين، وعُدوانَ المُعتَدين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم أصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمورنا.

اللهم يا منَّان يا ديَّان وفِّق إمامَنا عبدَك سَلمان، ووفِّق نائِبَيه لكل خيرٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجزِهم خيرًا على ما قدَّمُوا للحرمَين الشريفَين وللمشاعِرِ المُقدَّسة ولحُجَّاج بيتِك الحرام، اللهم اجعَل ذلك في موازين أعمالهم الصالحة.

اللهم احفَظ على هذه البلاد عقيدتَها وقيادتَها، وأمنَها ورخاءَها واستِقرارَها يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفِّق رجالَ أمنِنا، اللهم اجزِهم خيرًا على ما يقومون به من الحِفاظ على أمن الحرمين الشريفين وأمن حُجَّاج بيتِك الحرام، وأمن ثُغورِنا وحُدودِنا يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم من أرادَ بلادَنا ومُقدَّساتنا وأمنَنا بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحره، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه. اللهم وفِّق قادةَ المُسلمين للعمل بكتابِك وسُنَّة نبيِّك -صلى الله عليه وسلم-، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، واجمَعهم على الكتابِ والسُّنَّة يا ذا العطاء والفضلِ والمِنَّة.

اللهم اجعَل حجَّنا مبرُورًا، وسعيَنا مشكُورًا، وذنبَنا مغفُورًا يا أرحمَ الراحِمين.

اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفَين لكل خيرٍ، وسدِّده في أقواله وأعماله، وبارِك له في عُمره وعملِه وحياتِه يا رب العالمين، واجعَل عملَه في رِضاك، وارزُقه البِطانةَ الصالحةَ.

اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، واحقِن دماءَهم، واكشِف الغُمَّة عنهم، واهدِ شبابَهم، واشفِ مرضَاهم، وعافِ مُبتلاهم.

عباد الله:

إن من الوفاءِ الواجِبِ: الشُّكرَ والدُّعاءَ لسماحة شيخِنا ومُفتِينا الجليل، وكبيرِ عُلمائِنا، من وقفَ على هذا المِنبَر العظيم طِيلةَ خمسةٍ وثلاثين عامًا، مُوجِّهًا ومُرشِدًا وناصِحًا للأمة، فجزاه الله خيرًا، وضاعَفَ مثوبتَه، وبارَك في علمِه وعُمره وعملِه وخلَفِه.

اللهم ما قسَمتَ في هذا اليوم العظيم المُبارَك من خيرٍ وصحَّةٍ وسلامةٍ وسَعَةِ رزقٍ وعِتقٍ من النار، فاجعَل لنا منه أوفرَ الحظِّ والنصيب، واجعَلنا ممن تُباهِي بهم الملائكة، ويُقال له: انصرِفُوا مغفورًا لكم.

اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، اللهم انصُر إخوانَنا المُضطهَدين في دينِهم في كل مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم أنقِذ المسجِد الأقصَى من المُعتَدين المُحتلِّين، اللهم اجعَله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين.

اللهم كُن لإخواننا في بلاد الشام، اللهم إنهم مظلُومون فانصُرهم، يا ناصِر المُستضعَفين. وأصلِح حالَ إخواننا في العراق، وفي اليمن، وفي أراكان، وفي كل مكان.

اللهم وفِّق رِجالَ أمننا، وأعِزَّ دينَنا، وانصُر بلادَنا، واجعَل بلادَنا آمنةً مُطمئنَّةً وسائرَ بلاد المُسلمين. 

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201]. ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وجميعِ المُسلمين والمُسلمات إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180- 182].


تم تحميل المحتوى من موقع