والمبتَلَى بمصائب الدنيا من الأمراض والفقر والبلايا والمحن إذا أيقن بموعود الله وثوابه وصبر على بلائه أورثه اللهُ سكينةً وطمأنينةً، فكأنه -بإيمانه ويقينه- يشاهد الثوابَ، فيسكن قلبُه ويطمئن، وَمَنْ رَضِيَ فله الرضا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الملك والملكوت، والعز والجبروت، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه تُرْجَعُونَ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يثبِّت أولياءَه عند الفتن العواصف، ويعصمهم من المحن القواصف، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، فلا يحيط به وصف واصف، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وَصَفِيُّهُ من خَلْقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية؛ فهي الباعث على الصلاح، والحاجز عن الإثم، وهي العُدَّة والرابط الوثيق على القلوب عند الفتن، وهي الزاد للآخرة، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 281]، لو تفكرت النفوسُ فيما بين يديها وتذكرت حسابَها فيما لها وعليها لحاسبت نفسَها قبل الحساب، وبادرت يومها بالمتاب، كلُّ نفس بين يديها موت شديد، ثم نشر وحشر، ووقوف طويل للحساب.
تفكروا -عباد الله- فيمن كان قبلكم، أين كانوا بالأمس وأين هم اليوم؟ أين من أثاروا الأرض وعمروها؟ قد نُسُوا –واللهِ- وَنُسِيَ ذكرُهم؛ فهم اليومَ في ظلمات القبور، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) [مَرْيَمَ: 98]، أين مَنْ تعرفون من أصحابكم وأحبابكم؟ قد وَرَدُوا على ما قدَّموا، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نَسَبٌ يعطيه به خيرًا، ولا يصرف عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره، وإنه لا خير في لذة بعدها النار، ولا شر في شدة تعقبها الجنة.
أيها المسلمون: في كل أمة رجال تفاخر بهم، وتأنس بِسِيَرِهِمْ وأخبارِهم، تتمثل فيهم أخلاقُ الأمة الكاملة، وفضائلها العالية، ويمثِّلون السموَّ الإنسانيَّ في أرقى صوره ومعانيه، وللرجال -كما للذهب- موازين، فألف كواحد، وواحد كالألف إن أَمْرٌ عَنَا، ومن الناس مَنْ يِزُنُ أمةً كاملة بإيمانه وصدقه وإخلاصه، ذاك أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- إمام المسلمين حقًّا، وشيخ الإسلام صدقا، ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومن فاز بعد الموت بالجوار، فضائله مشهورة مذكورة وقلوب المسلمين بمحبته معمورة، ومنزلته لا تعدلها منزلة، أحب الرجال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقربهم إليه، وأول الناس منهم صدَّق الرسلَ، وفيه نزلت: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [اللَّيْلِ: 17-21].
قال عمر -رضي الله عنه-: "لو وُزِنَ إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم"، سبق أبو بكر -رضي الله عنه- الصحابة أجمعين بما وقَر في قلبه من الإيمان واليقين والتسليم والتصديق لأمر الله وأمر رسوله حتى صار يُعْرَف بالصديق.
أيقن بأمر الله وبوعده فتنزلت السكينة على قلبه، وفاضت على محياه، وكانت له المواقف المشهودة والأيام المحمودة، في خبر الإسراء روى الإمام أحمد أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، ثُمَّ أَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، قَالَ: قَطَعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، قَالَ: فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، فَمَرَّ بِي عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ، قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَمْ يُرِهِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا لَهُ قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ إِلَيْكَ قَوْمَكَ أَتُحَدِّثُهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَعَمْ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، هَلُمَّ، فَتَنَفَّضَتِ المَجَالِسُ، فَجَاؤُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، قَالَ: قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُسْتَعْجِبًا لِلْكَذِبِ؛ زَعَمَ، قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ مَنْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: قَالُوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا المَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ لَهُمْ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ، قَالَ: فَنَعَتُّ المَسْجِدَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ فَقَدْ أَصَابَ".
هذه كانت حال المشركين المكذبين، وقد اضطربت نفوس بعض المسلمين، وأما أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فقد قال: "إن كان قال لقد صدَق، وما يعجِّبكم من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار"، فرضي الله عن أبي بكر وأرضاه.
وفي طريق الهجرة يدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغار ويختبئ فيه، وقريش تطلبه وترصد الجوائز للظفر به وقتله، ويلحق بهم المشركون، ويصعدون على الجبل حتى يقول أبو بكر -رضي الله عنه-: "يا رسول الله، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟" وأنزل الله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التَّوْبَةِ: 40].
إنها السكينة ينزلها الله، وهي من تمام نعمة الله على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش فيها الأفئدة، سكينة على حسب معرفة العبد بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وقربه من ربه.
وفي هذه الآية أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، ولكن المؤمن لا ييأس ولا يقنط، بل يبذل الأسباب ويتوكل على الله؛ فهو نعم المولى ونعم النصير.
وفي موقف آخر من مواقف الصديق في سكينته ويقينه وثباته ما كان منه يوم الحديبية، يوم جاء الصحابة -رضي الله عنهم- مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، يحدوهم الشوق ولم يكونوا يريدون إلا العمرة فصدهم المشركون عن البيت، وكان من أمر الصلح ما كان فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن ينحروا بدنهم، وأن يحلقوا رؤوسهم فتأخروا عن ذلك بعض التأخر حتى أشارت أم سلمة -رضي الله عنها- عليه بالرأي المسدد، وداخل قلوب بعض الصحابة في ذلك اليوم ما داخلها، حتى جاء عمر -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: "بَلَى"، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي"، قُلْتُ: أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ"، قُلْتُ: لاَ، قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ"، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى, قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ الله وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَالله إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ" فأي سكينة كانت تملأ قلب هذا الرجل المبارك؟ حتى إنها لتفيض على لسانه وجوارحه، فرضي الله عن أبي بكر وأرضاه.
وفي يوم وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أظلم من المدينة كلُّ شيء، وكان الصحابة -رضي الله عنه- كالغنم المطيرة كما تقول عائشة -رضي الله عنها-، اضطربت نفوس الصحابة، يقول ابن رجب -رحمه الله-: "فمنهم من دُهِشَ فخُولِطَ، ومنهم من أُقْعِدَ فلم يطق القيامَ، ومنهم من اعتقل لسانُه فلم ينطق الكلامَ، ومنهم من أنكر موتَه بالكلية" هذه كانت حال الصحابة -رضي الله عنهم-، إلا رجلا واحدا؛ هو صاحب الغار الذي تنزلت عليه السكينة، أقبل أبو بكر -رضي الله عنه- على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مغشى بثوب، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: "بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها"، ثم خرج أبو بكر وعمر بن الخطاب يكلم الناس ويحلف ويقول: "ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم" فقال: "اجلس يا عمر" فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم قال: "أما بعدُ، فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزُّمَرِ: 30]، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 144].
قال: "والله لكأنَّ الناسَ لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها، قال عمر: "والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعُقرتُ؛ حتى ما تقلني رِجْلَايَ، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمتُ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات"؛ فرضي الله عن أبي بكر وأرضاه.
وخاتمة المواقف -أيها المسلمون- في سكينة أبي بكر وثباته وشجاعته وعزمه -رضي الله عنه- وأرضاه ما كان منه في بعث جيش أسامة بن زيد -رضي الله عنه- ثم في قتال المرتدين بعد ذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته قد عقد اللواء لأسامة، وأمره أن يخرج إلى الشام لملاقاة الروم، فعسكر الجيش بالجُرف لمرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم عادوا إلى المدينة بعد وفاته، فأشار بعض الصحابة على أبي بكر -رضي الله عنه- أن يبقى الجيشُ في حماية المدينة لِمَا وقع من أمر الردة وكثرة العدو، فقال أبو بكر: "والله لا أحل عقدةً عقدَها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرَّت بأرجُل أمهات المؤمنين لَأُجَهِّزَنَّ جيشَ أسامةَ".
فكان بعد ذلك في خروج الجيش أكبر المصلحة؛ فما مروا على حي من أحياء العرب إلا قالوا: "ما خرج هؤلاء إلا وبهم منعة شديدة"، وكان ذلك حين وقعت فتنةُ غَلَبَةِ أهلِ الردةِ بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأدرك الناسَ خوفٌ ووهنٌ، لكن الصديق -رضي الله عنه- كان أعلم الصحابة وأفقه الصحابة وأثبَت الصحابة، تحوَّل الشيخُ الكبيرُ الرحيمُ المتواضعُ إلى أسد هصور عظيم الثورة، شديد البأس، عالي الهمة، سريع النهضة، أصرَّ على قتال المرتدين جميعًا في وقت متزامن، وقال في شأنهم: "أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي" فلما رأى الصحابةُ هذا الإصرارَ من الصديق -رضي الله عنه- انشرحت صدروهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسانه، قال عمر: "فوالله ما هو إلا أن قد شرَح اللهُ صدرَ أبي بكر فعرفتُ أنه الحقُّ" (رواه البخاري).
وهكذا أخذ الصديق -رضي الله عنه- أحد عشر جيشا في ملحمة خالدة؛ تضحيات عظيمة، ودم وشهادة، ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت الأرض بنور ربها من جديد، وأعز اللهُ الإسلامَ وأهلَه، وأذل اللهُ الشركَ وأهلَه، كل هذا في عام واحد، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "كان الصديق -رضي الله عنه- كالجبل لا تحركه القواصفُ، وتزيله العواصفُ" قال ابن تيمية -رحمه الله-: "والشجاعة تفسَّر بشيئين؛ قوة القلب وثباته عند المخاوف، والثانية: شدة القتال بالبدن، وأما الثاني فيدل على قوة البدن وعمله، وأما الأول فهو الشجاعة الحقة، وهي التي يحتاجها أمراء الحرب وقُوَّادُه، فإن المقدَّم إذا كان شجاعَ القلب ثابتَه أَقْدَمَ وثبَت ولم ينهزم، فقاتَل معه أعوانُه، وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة شجاعة القلب فلا ريب أن أبا بكر أشجع الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" انتهى كلامه.
اللهم ارضَ عن أبي بكر الصديق، وعن صحابة رسولك أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد أيها المسلمون: الطمأنينة والسكينة نعمة من الله ينزلها على عبده فلا ينزعج لما يَرِدُ عليه من المصائب والمحن؛ وذلك إذا قام في قلبه إيمان راسخ ويقين صادق واستسلام لله وطاعة، فيزيده ذلك إيمانا وقوة وثباتا، قال ابن القيم -رحمه الله-: "السَّكِينَةُ إذا نزلت على القلب اطمأن بها وسكنت إليها الجوارح، وخشعت واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسانَ بالصواب والحكمة، وحالت بينَه وبينَ كل باطل، الطمأنينة التي يُلقيها اللهُ في قلب عبده تملأه إيمانًا وثباتًا ويقينًا وقناعةً ورضا، وبصيرة وهدى، وتقوى وحُسْن سَمْت، ثم إخباتا وخشوعا، فلا يضطرب ولا ينحرف ولا يميل، وهي ضرورة لمن أدركه الضجرُ من قوة التكاليف وأعباء الأمر وأثقاله، ولا سيما من أُقيم مقامَ التبليغ عن الله ومجاهدة أعداء الله، وقُطَّاع الطريق إليه؛ فإن ما يحمله ويتحمله فوق ما يحمله الناس ويتحملونه؛ فقد يدركه الضجرُ ويَضْعُف صبرُه، فإذا أراد الله إعانتَه ورحمتَه أنزل عليه سكينتَه فاطمأن إلى حُكْمه الديني وحُكْمه القَدَرِيّ، ويمضي في طريق الحق لا يضره مَنْ خذله ولا من خالفه إلى يوم الدين".
والمبتَلَى بمصائب الدنيا من الأمراض والفقر والبلايا والمحن إذا أيقن بموعود الله وثوابه وصبر على بلائه أورثه اللهُ سكينةً وطمأنينةً، فكأنه -بإيمانه ويقينه- يشاهد الثواب، فيسكن قلبه ويطمئن، ومن رضي فله الرضا، وإنما يشتد البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب.
أيها المسلمون: اليقين والرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا ومستراح العابدين، وألذ ما في الحياة هو الإيمان بالله -تعالى-، وهو الأساس في حلول الطمأنينة في القلب، والسكينة في النفس، ولكن المؤمنين تتفاوت درجة إيمانهم وأرفعهم درجة من امتلأ قلبه رضا بربوبية الله، وكان مع الله وبالله ولله في كل شأن من شئونه، (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الْفَتْحِ: 18].
حسن الصلة بالله والانطراح بين يديه، ودوام الخضوع له، كل ذلك جالب للسكينة والطمأنينة وهدأة البال، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [الْبَقَرَةِ: 45]، اللجوء إلى الله -تعالى- كما قال سبحانه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [الذَّارِيَاتِ: 50]، وهو القائل: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزُّمَرِ: 36]، والكفاية على قدر العبودية، فكلما ازدادت طاعتُك لله ازدادت كفايةُ اللهِ لكَ، ومن هنا وجَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى العبادة وقتَ الفتن فقال: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" (رواه مسلم).
فهنيئًا لمؤمن يركن إلى الصلاة والعبادة بينما الناس يتهارجون، هنيئًا لم يطمئن بالله حين تقلق النفوسُ وتضطرب القلوبُ، ذِكْرُ اللهِ وتلاوةُ القرآنِ من أسباب حلول السكينة (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرَّعْدِ: 28]، ثم الدعاء... الدعاءَ الدعاءَ، هذا أبو بكر -رضي الله عنه- تنزلت عليه السكينةُ في الغار، وفي بَدْر، وفي الحديبية، وفي مواقف كثيرة، وقد كان دائما يدعو ويقنت في صلاته يقول: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آلِ عِمْرَانَ: 8].
أيها الناس: السكينةَ السكينةَ؛ فأهل السكينة لا تستفزهم الأحداثُ، ولا يقلقون ولا يعجلون ولا يستخفَّنَّهم الذين لا يوقنون، موقنون بنصر الله، وإن تطاول الكفرُ، وتطاول الفساقُ؛ لأنهم يقرؤون قول الله -عز وجل-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الْفَتْحِ: 28].
فالثباتَ الثباتَ، أهلُ السكينةِ لا يرهبون الأعداء؛ لأنهم يقرؤون قولَ ربهم: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الْفَتْحِ: 22-23]، أهل السكينة مقبلون على عبادتهم لا تشغلهم أرزاقهم عن ربهم، (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الْفَتْحِ: 29]، إذا ضل الجاهلون وأخذتهم الحمية لمعبوداتهم أو لغير ذلك من أمر الجاهلية لزم أهلُ السكينةِ كلمةَ التقوى في ألسنتهم، ولزمتهم السكينةُ في قلوبهم، أهل السكينة في عافية وطمأنينة يُفيضونها على مَنْ حولَهم.
قال ابن القيم -رحمه الله- عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرضُ أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامَه فيذهب ذلك كلُّه، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً".
أيها المؤمنون: السكينةُ والطمأنينةُ عطاءٌ من الله وَهِبَةٌ من عنده لا يَقْدِرُ على منحها إلا اللهُ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الْفَتْحِ: 4]، عليم بالأمور بحالها وعواقبها، حكيم يضع الأشياء في مواضعها، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
السكينة في زمن اضطراب الأحوال وعصف الفتن أشدُّ ضرورةٍ تتطلبها بأسبابها عند الله العليم الحكيم القدير الوهاب.
اللهم املأ قلوبَنا إيمانا بكَ، ويقينًا بوعدكً، وتوكلًا عليكَ، وثباتًا على دينكَ، وأنزلن سكينةً علينا، ورحمةً من عندك وفضلًا، إنكَ أنتَ الوهاب، وَالْطُفْ بنا وبالمسلمين.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على مَن أرسلَه الله رحمةً للعالَمين، وهَديًا للناسِ أجمعين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامِين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدَة والْمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك، وسُنَّة نبيِّك، وعبادَك المؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن الْمُنكَر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والْمُسلمين ودينَهم وديارَهم بسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحرِه، واجعَل دائرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلِك في فِلسطين، اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلِك في فِلسطين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم، اللهم حرِّر المسجدَ الأقصَى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين، واجعله شامخا عزيزا إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألُك باسمِك الأعظَم أن تلطُفَ بإخوانِنا المُسلمين فلسطين وفي كل مكانٍ، اللهم كُن لهم في فلسطين، وسُوريا، والعراق، واليمَن، وبورما، وفي كل مكانٍ، اللهم الطُف بهم، وارفَع عنهم البلاء، وعجِّل لهم بالفرَج، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوالهم وأحوال المسلمين، واجمعهم على الهُدى، واكفِهم شِرارَهم، اللهم اكبت عدوهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالِمين ومَن عاونَهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالِمين ومَن عاونَهم، اللهم أنزل بهم بأسك ورجزك إله الحق وانتصر للمظلومين، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق ولِيَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تُحِبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقه ونائبَه وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ.
اللهم احفَظ وسدِّد جنودَنا المُرابِطين على ثُغورِنا وحُدودِنا، المُجاهِدين لحفظِ أمنِ بلادِنا وأهلِنا وديارِنا المقدَّسة، اللهم كُنْ لهم مُعينًا ونصيرًا وحافِظًا وظهيرا.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشر طوارق الليل والنهار. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
ربَّنا اغفِر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرِنا، وثبِّت أقدامَنا، وانصُرنا على القومِ الكافِرين، اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغْنَا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفِر لنا ولوالدِينا ووالِدِيهم وذُريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتِنا، إنك سميعُ الدعاء، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ ونتوبُ إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطِين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا، سحًّا طبَقًا مُجلِّلًا، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والباد.
اللهم سُقيَا رحمةٍ، اللهم سُقيَا رحمةٍ، اللهم سُقيَا رحمةٍ، لا سُقيَا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرَقٍ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، سُبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على الْمُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي