مظاهر عداوة الشيطان للإنسان

عبدالمحسن بن محمد القاسم
عناصر الخطبة
  1. من الفطنة والعقل سعي العبد لمعرفة العدو .
  2. سبب عداوة الشيطان لبني آدم .
  3. صور من إغواء وإفساد الشيطان .
  4. لا نجاة من الشيطان إلا بالتقوى .

اقتباس

ومن وَالَى اللهَ فقد عادَى الشيطانَ، ومن أعرض عن الله وَالَى الشيطانَ، واللهُ وليُّ مَنْ تولاه، والشيطان يخذل مَنْ والاه، فواجبٌ علينا أن نتوب –جميعا- إلى الله، وأن نمتثل أوامرَه، ونجتنب معاصيَه، فالعِزُّ والشرفُ في طاعة الله وامتثال أوامره...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.

أيها المسلمون: الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وأعظم البلاء ما قطَع العبدَ عن ربه ودينه، ومن الفطنة والعقل سعي العبد لمعرفة العدو من الصديق، وقد أبان الله لنا عدوا مبينا لا فتنةَ على الخلق أشدّ منه، فهو العدو الأول والأكبر، ومنشأ جميع الرزايا منه وإليه، عداوته لبني آدم شديدة بيِّنة، لا كان ولا يكون في الأعداء أظهر منه، قال سبحانه: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يُوسُفَ: 5].

عَدُوّ لا يفتر ولا ينقطع، ولا ينفع معه مداراة أو لين، أقسم على عداوة جميع بني آدم وإغوائهم بكل وسيلة، (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الْأَعْرَافِ: 16-17].

سبب عداوته لآدم وذريته أن الله شرف آدم وفضله، فخلقه بيديه وأسكنه جنته وعلمه الأسماء وأسجد له ملائكته، وكرَّم ذريته من بعده، فحسده إبليس على هذه النعم وانطوت سريرته على الكِبْر رأس كل داء وشر، فامتنع عن السجود لآدم (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص: 76]، وبطرده من الجنة أعلن العداوة وأظهرها، قال تعالى: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 82]، فكاد لآدم وحواء وزيَّن لهما المعصيةَ حتى أُخْرِجَا من الجنة.

ولا يزال على حاله وكيده يؤذي الناس حِسًّا ومعنى، يتسلط على عقائدهم الصافية وعباداتهم وأجسادهم وأرواحهم وأموالهم وأولادهم، ومأكلهم ومشربهم ونومهم وقيامهم وصحتهم وسقمهم وعلى كل أحوالهم، قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ" (رواه مسلم)؛ ففي العقيدة الصافية غايته إفسادها، قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يس: 60]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ" (رواه ابن حبان).

وفطرة التوحيد التي هي أغلى ما يملك الإنسان يسعى لتدنيسها، قال تعالى في الحديث القدسي: "خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا" (رواه مسلم).

وكل عابد لغير الله فإنما يدعو الشيطان ويعبده، قال سبحانه: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) [النِّسَاءِ: 117]، ومن إفساده للعقيدة تعليم السحر ليكفر فاعله وكذا من أتى إلى ساحر ليسحر له، قال عز وجل: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) [الْبَقَرَةِ: 102]، وفي آخر الزمان يخرج الدجال ويقول: "أنا ربكم" قال عليه الصلاة والسلام: "وَيَبْعَثُ اللهُ مَعَهُ شَيَاطِينَ تُكَلِّمُ النَّاسَ" (رواه أحمد).

ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق فيأمرهم الشيطان بعبادة الأوثان، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ" (رواه مسلم).

وأما كيده في العبادات فلا يزال بصاحبها حتى يُفسدها عليه، فيشكك العبدَ في طهارته، قال عليه الصلاة والسلام: "وَإِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ أَحْدَثْتَ فَلْيَقُلْ: كَذَبْتَ" (رواه أحمد).

والخشوع في الصلاة لذة مع الله، وإذا قام المسلم لصلاته حال بينه وبينها بوساوسه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى" (متفق عليه).

وإذا وجد خللًا في الصفوف دخل فيها، قال عليه الصلاة والسلام: "سُدُّوا الْخَلَلَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ بَيْنَكُمْ" (رواه أحمد).

والله قِبَل وجه كل مُصَلٍّ، والالتفاتُ في الصلاة من كيده، قال عليه الصلاة والسلام: "هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ" (رواه مسلم).

وحرصه على قطع الصلاة شديد، "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ" (رواه الحاكم)، "وَمَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ" (وراه أبو داود).

وعداوة الشيطان لا حدَّ لها، فيشارك الناس في مطاعمهم ومشاربهم ومناكحهم، قال سبحانه: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ) [الْإِسْرَاءِ: 64]، فينازع ابنَ آدم في طعامه ويأكل معه إن لم يذكر اسم الله عليه، بل يأكل ما تساقط من طعامه، قال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ لِيَأْكُلْهَا، وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ" (رواه مسلم).

وإذا أتى الرجل أهله يخشى الشيطان أن يكون بينهما ولد صالح فيسعى لإنسائه ذكر الله، قال عليه الصلاة والسلام: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَنْ رَزَقْتَنَا، فَإِنْ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ الشَّيْطَانُ أَبَدًا" (متفق عليه).

وينازعه في مسكنه إن لم يذكر اسم الله فيه، قال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ بِكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ" (رواه مسلم).

وإذا كان أول الليل انتشرت الشياطين لإيذاء العباد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ" (رواه البخاري).

والنوم راحة للإنسان ليستعيد قوته ونشاطه، والشيطان يعقد على قافية رأس النائم ثلاث عُقَد يضرب كل عقدة: "عليك ليل طويل فارقد، ليستيقظ وهو خبيث النفس كسلان، فيحل الله تلك العقد إذا ذكر العبد ربه إذا استيقظ وتوضأ وصلى" (متفق عليه).

وإذا نام العبد عن الصلاة بال الشيطان في أذنه إهانةً له واحتقارًا، ذُكِرَ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل نام ليلة حتى أصبح، فقال: "ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ، أَوْ أُذُنَيْهِ" (رواه مسلم).

ويبيت في خيشوم النائم، قال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ" (متفق عليه).

والنوم راحة للإنسان وسكون والشيطان يتخبطه في منامه ويفزعه في أحلامه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (متفق عليه).

والألفة والمودة صلاح للنفس والمجتمع، والشيطان دأبه الفُرْقَة بين الناس والإفساد بينهم، قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ إِبْلِيسَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" (رواه مسلم).

لم يَسْلَم من شره أحدٌ؛ فأول ما يخرج المولود من بطن أمه يطعن في جنبيه، قال عليه الصلاة والسلام: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا" (متفق عليه).

ويسلك كلَّ سبيل للغواية، فيجري من ابن آدم مجرى الدم، "وَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ" (رواه مسلم).

ويتلبس بالأبدان فيتخبط الإنسان، قال سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [الْبَقَرَةِ: 275]، ويسعى لإضلال بني آدم حتى وهو في سكرات الموت، وقد علَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته دعاء بقوله: "وَأَعُوذُ بِكَ إِنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ" (رواه النسائي).

وله في كيده لابن آدم وسائل عديدة، فيزين المعصية للعاصي ويحسِّنها له، ففي يوم بَدْرٍ زيَّن للمشركين صنيعَهم وغرَّهم بقوتهم وكثرتهم، قال عز وجل: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) [الْأَنْفَالِ: 48]، ومن تزيينه تسمية المعاصي بغير اسمها، كما قال لآدم: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 120].

ومن كيده أنه يدخل على النفس من الباب الذي تحبه وتهواه، ويُظهر النصحَ في ذلك، فقال لآدم وحواء: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [الْأَعْرَافِ: 20]، بل ويُقسم على ذلك، قال سبحانه: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الْأَعْرَافِ: 21]، وَيَعِدُ وَيُمَنِّي وهو مخادع، قال سبحانه: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [النِّسَاءِ: 120]، ويخدع العباد بأمانيه الكاذبة، قال سبحانه: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لُقْمَانَ: 33]؛ أي الشيطان.

ويخوِّف المؤمنين بجنوده الضعفاء (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) [آلِ عِمْرَانَ: 175]، ويمنعهم من الإنفاق في مرضاة الله ويوسوس لهم بأنه يجلب الفقرَ، قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) [الْبَقَرَةِ: 268]، ويجلب الأحزانَ للعباد ويفتح عليهم التحسرَ على ما فات ومضى؛ كقول: لو فعلتُ كذا لكان كذا، قال عليه الصلاة والسلام: "فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" (رواه مسلم).

وعلى جسر الشهوات يصل الشيطان لمراده، فـ "مَا خَلَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا". (رواه الترمذي)، ويدعو لنزع الحياء ونبذ الستر والعفاف من الرجال والنساء، وإذا ظهرت العورة حلت العقوبة، قال سبحانه: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) [الْأَعْرَافِ: 20].

ويستخفّ الشيطانُ العبادَ بالأصوات المحرمة من المعازف ونحوها، قال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) [الْإِسْرَاءِ: 64]، وخطواته هي الشراك الأعظم لإغواء الخلق والظفر بمراده منهم، قال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الْبَقَرَةِ: 168]، وله في كل ذلك جنود وأعوان، قال سبحانه: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) [الْأَنْعَامِ: 121].

وللشيطان في مكره وعداوته غايات سوء يسعى لتحقيقها، ورأس تلك الغايات الصد عن طاعة الله وإضلال الخلق، فقد قال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الْحِجْرِ: 39]، فيبعث على الغفلة ويُنسي العبادَ الذِّكْرَ، قال سبحانه: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) [الْمُجَادَلَةِ: 19]، ويدعو لكل رذيلة ويصد عن كل فضيلة، قال تعالى: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 169]، ومن مقاصده الإفساد بين الخلق والإبعاد عن الخالق، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ) [الْمَائِدَةِ: 91].

ومنتهى مقاصده إبعاد الخلق عن رحمة الله ودخولهم الجحيم، قال عز وجل: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فَاطِرٍ: 6]، وعاقبة اتباع الشيطان شؤم وببال، وكل شقاء في الدنيا والآخرة فمن آثار اتباعه، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) [طه: 117]، من أطاعه كان في حيرة وضلال، والخسارة في موالاته، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) [النِّسَاءِ: 119].

ويوم القيامة يحشر معه من أطاعه، قال سبحانه: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) [مَرْيَمَ: 68]، وتعظم الندامة ببراءته ممن تبعه، فيقول لهم: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إِبْرَاهِيمَ: 22]، ومنتهى التابع والمتبوع نار جهنم وبئس المصير، قال عز وجل: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) [الْأَعْرَافِ: 18].

وبعد أيها المسلمون: فالشيطان أغوى أبناء رسل وآباءهم؛ كابن نوح ووالد إبراهيم، بل كان سببا لإهلاك أمم بأكملها، قال سبحانه: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 38]، ولن ينجو من مهالكه إلا المؤمن المتوكل على الله، قال تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النَّحْلِ: 99].

ومن وَالَى اللهَ فقد عادى الشيطانَ، ومن أعرض عن الله وَالَى الشيطانَ، واللهُ وليُّ مَنْ تولاه، والشيطان يخذل مَنْ والاه، فواجبٌ علينا أن نتوب –جميعا- إلى الله، وأن نمتثل أوامرَه، ونجتنب معاصيَه، فالعِزُّ والشرفُ في طاعة الله وامتثال أوامره، والخذلان في الوقوع في حبائل الشيطان وأهوائه، ومن فعل ذلك سخط عليه الرب وسلط عليه عقوبة لا يقدر على دفعها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فَاطِرٍ: 6].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.

أيها المسلمون: لا نجاة من الشيطان إلا بالتقوى، وأشد الخلق على الشيطان هم عباد الله الموحدون، وهذا ما أقر به إبليس بقوله: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82-83]، والاستعاذة بالله من شره حصن وأمان، وذكر الله جالب للرحمة طارد للشيطان، والشيطان يفر من البيت الذي تُقْرَأ فيه سورة البقرة، ومَن أوَى إلى فراشه فقرأ آية الكرسي لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، ومن قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له حِرْزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي".

وإذا دخل الرجل بيتَه فذكَر اللهَ عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيتَ لكم ولا عشاء، وامتثال أمر الله والوقوف عند حدوده خير عون على الخلاص من أذيته، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الْأَعْرَافِ: 201]، ويدُ اللهِ مع الجماعة، والشيطانُ عنها أبعدُ، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَنَالَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ" (رواه أحمد).

والكلمة الحسنة دافعة لنزغات الشياطين، (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) [الْإِسْرَاءِ: 53]، ومن اتخذ الشيطان عدوا تبرأ منه وعاداه، ونأى بنفسه عن مشابهته.

ثم اعلموا أن الله -جل وعلا- أمركم بالصلاة والسلام على النبي الكريم، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا ورسولنا محمدٍ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أَعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أَعِزَّ الإسلام والمسلمين، وَأَذِلَّ الشرك والمشركين، وَدَمِّرْ أعداءَ الدين، واجعل اللهم هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا، رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.

اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم عليك بأعداء المسلمين؛ فإنهم لا يعجزونك؛ اللهم من أرادَ المسلمين أو أراد مقدساتهم بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، اللهم اجعله للعالمين عبرة وآية، اللهم اجعله للعالمين عبرة وآية، اللهم من أراد المسلمين أو مقدساتهم بسوء فعليك به، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم يا حي يا قيوم.

اللهم انصُر جنودنا وثبِّت أقدامهم وانصرهم على العدو يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصُر المسلمين في كل مكان، اللهم رُدَّنَا إليكَ رَدًّا جميلا يا حي يا قيوم، اللهم رد المسلمين إلى دينك رَدًّا جميلا يا حي يا قيوم، اللهم وفِّقهم لما تحب وترضى، اللهم وفِّقهم لما تحب وترضى، اللهم وفقهم لما تنصر به دِينَك وعبادَك الصالحين يا حي يا قيوم.

اللهم وفِّق ولِيَّ أمرِنا ونائبه لما تُحبُّه وترضَاه يا رب العالمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [الْبَقَرَةِ: 201].

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي