هذا هو الذي أطار النوم عن عيني ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ بل إن حقيقة هذا لدخان كان محل نظر الصحابة ومعركة نقاشهم. وإنه جدير بالاهتمام كيف وقد ذكره الله في كتابه، وجعل سورة كاملة في كتابه تحمل اسمه سورة الدخان؛ فلا تغفل عنه، ولا تستبعد زمنه وكل ما هو آت قريب، وفي حيطة...
إن الحمد لله...
أما بعد: فلنتعظ بآيات القرآن، ولنحذر نذره وعقوباته؛ فعظاته أبلغ العظات (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ)[الأنعام:51]، (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)[ق:45].
آية عظمى، وعلامة كبرى اهتم الصحابة لمعرفة حقيقتها، والوقوف على المراد منها!
وهل هي آية مضت وانقضت؟
أو آية تنتظر ويحذرها الإنسان بعد أن أيقن صدقها، وصحة الخبر!
آية كونية وحدث جلل سطرها الله في آياته الشرعية، فهي تتلى قرآناً قد حفظه الله وصانه من الخلل (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت:42].
عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس -رضي الله عنهما- ذات يوم فقال: "ما نمت البارحة حتى أصبحت!، قلت: لم؟ قال: طلع الليلة في السماء الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق؛ فما نمت حتى أصبحت".
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- حبر وترجمان القرآن".
فماذا يعني ابن عباس -رضي الله عنه-؟ وما الذي أذهب النوم عنه حتى سهر ليله خائفاً حتى أصبح؟! لله درهم قلوبهم حية! وتعظيمهم لأخبار الله تملأ أحاسيسهم، وتوقظ تحسسهم.
رأى ابن عباس كوكبا غريبا في السماء له ذنب مستطيل ولم يكن من عادتهم أن يروه؛ فخشي ابن عباس أن يكون ذلك مقدمة آية أخرى!
آية الدخان التي قال الله عنها في كتابه (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ)[الدخان:10-13]؛ فوصف الله الدخان الذي سيأتي الناس بدخان مبين كما أن الرسول الذي جاءهم هو أيضاً رسول مبين؛ فكما أنه لا شك في رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنها بينة واضحة؛ فكذلك ما توعد الله به الناس من الدخان الذي يغشاهم في آخر الزمان هو دخان بين كل سيعرفه ويتأثر به.
هذا هو الذي أطار النوم عن عيني ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ بل إن حقيقة هذا الدخان كان محل نظر الصحابة ومعركة نقاشهم.
وإنه جدير بالاهتمام كيف وقد ذكره الله في كتابه، وجعل سورة كاملة في كتابه تحمل اسمه سورة الدخان؛ فلا تغفل عنه، ولا تستبعد زمنه، وكل ما هو آت قريب، وفي حيطة ابن عباس وخوفه أسوة لكل ليب.
كيف وقد عظم الله أمره، وأمر نبيه أن يرتقبه (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِين)؟
فجهته جهة السماء فهو من فوق الناس وذلك أبلغ في إخافتهم، وفي رؤية الناس كلهم له؛ فما عليك إلا أن ترفع رأسك لتنظر دخاناً يغشى الناس الذين يدركونه ويدركهم!.
وغشيانه للناس دليل على قربه منهم، ونزوله إليهم، وهذا عذاب لمن غشيهم، بل هو عذاب أليم يؤلمهم في قلوبهم فهم خائفون من حدث سماوي لم يعهدوه، ولا قدرة لهم عليه فيدفعوه!.
عذاب أليم للناس في حواسهم؛ فمن الذي سيبقى شاخصاً ببدنه الضعيف؟! وكيف سيحمي عينيه وأنفه وفمه التي غشيها من الدخان ما غشيها؟!
ضاقت الحيلة وأفلست الجهود البشرية، وعلم الخلق ضعفهم! وما للخلق في هذه الساعة العصيبة إلا رب الخلق فجاء الدعاء المتضرع (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ).
ما أضعفك يا ابن آدم! إيمان في ساعة الشدة! إيمان متأخر لا يفيدك ولا يدل على صدقك في التوجه إلى ربك!.
ولذا استبعد العليم الخبير تذكرهم فقال: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى)؛ ولذا إيمان الخائف من الهلاك لا يدوم؛ لأن الذي دفع إليه صاحبه هو خوفه من الموت، وهو يحب الحياة الدنيا.. إيمان الخائف من الهلاك لا يدوم؛ لأنه مشفق على ذهابه عن أهله وماله وهو يريد التمتع بهم ويخشى الانقطاع عنهم.
ومع ذلك أمهلهم الله وكشف عنهم العذاب (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) وماذا بعد هذا الكشف؟ قال الله -تعالى-: (إنكم عائدون)[الدخان:15].
قتل الإنسان ما أكفره!.
أرأيت حينما يبلغ العتو بالإنسان مبلغاً عظيما فإن النذر والآيات يكون منتهى حظه منها خوفاً كخوف الصبيان (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)[النحل:54-55]، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[العنكبوت:65]، (وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)[يونس:101].
عن حُذَيفة بن أَسِيد الغفاريِّ اطلع علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتذاكر الساعة، فقال: "ما تذاكرون؟"، قلنا: نذكر الساعة، قال: "إنها لن تقوم حتى ترَوْا قبلها عَشْرَ آيات؛ فذكر الدُّخَان، والدجال، والدابة..." الحديث.
وعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادِروا بالأعمال ستًّا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدُّخَان، أو الدَّجال..." الحديث.
وجاء في وصف هذا الدخان أنه يغشى الناس؛ فأما المؤمن فيصيبه منه كالزكام، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من منخريه وأذنيه ودبره.
فسبحان الله الذي على كل شيء قدير!
الحمد لله رب العالمين..
أما بعد: فقد جعل الله في هذه الدار الدنيا ما يذكر الإنسان بالآخرة وقرب قيامها؛ فذاك الدخان الذي يكون في آخر الزمان على ما رجحه ابن عباس -رضي الله عنهما-.
يتذكره الإنسان حينما يرى دخانا أقل منه، وكيف الناس احتاطوا له، وتخوفوا منه؟ ولحق آخرين عنت التنفس وضيق الصدر ما نسأل الله بسببه اللطف بعباده والشفاء لمرضى المسلمين.
فهذه التقلبات الجوية هي أمثلة مصغرة لبعض ما يكون من التقلبات الكبرى يوم القيامة أو قرب قيامها، والمؤمن العاقل لا يستسلم للغفلة؛ فتكون مواضع العظة مواضع نسيان منه، فيفوته من مشاهدة آلاء الله وغيره في الكون وعظاته في السموات والأرض ما يحصله غيره من أولى الألباب.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:191-192]
فهذا الغبار المتراكم والأتربة المنتقلة بين السماء والأرض ماذا لو دامت وطال زمنها؟! أي أذية سوف تلحق الناس؟! ولكن لطف قريب، وربما أعقبها مطر تسكن به النفوس؛ فانظر إلى آثار رحمة الله!.
واعلموا أن هدي نبيكم -صلى الله عليه وسلم- عند هبوب الرياح ما حدَّثت به عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به"(رواه مسلم).
أيها الإخوة: من ظلم الإنسان أن يدخل في جدل عقيم: هل هذه الرياح عقوبة للناس أو هي أمور معتادة وأرواح صيفية، ومهاب وقتية لا علاقة لها بذنوب بني آدم!؛ فالموفقون أدركوا بديع خلق الله، وقوة سلطانه حينما جعلوا للأشياء الحسية أسباباً شرعية.. فهموا هذا لأن الله يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى:30].
فالنقص الذي يأتي بني آدم في حياتهم ومعاشهم أخبرنا ربنا أن له ارتباطاً بما كسبت أيدينا؛ فأين المجادلون في الله وهو شديد المحال؟! فسبحان الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً!.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي