رمضان والقرآن

عبدالله بن عبده نعمان العواضي
عناصر الخطبة
  1. مكانة القرآن الكريم ومنزلته وفضائله .
  2. رمضان والقرآن .
  3. نماذج من أحوال السلف مع القرآن .
  4. آداب قراءة القرآن الكريم. .

اقتباس

للقرآن ارتباط وثيق بالصيام عموماً وبرمضان خصوصاً؛ فكلاهما يصفي الروح ويجلو القلب والعقل، والقيام بهما معاً له شأن من الحلاوة والراحة، وقد جمع رسول الله بين الصيام والقرآن فقال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل القرآن مناراً للمهتدين، وضياءً للسالكين، ومعجزة باقية إلى يوم الدين؛ لا يعتريه النقص والتبديل، ولا التحريف والتغيير، محفوظ بحفظ الله الذي أنزله، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، لا يَخلق مع كثرة ترداده، ولا ينضب مَعينُه باستقاء ورّاده، ولا تفنى جواهره بازدياد غائصيه؛ فما زال البحرَ الذي لا ساحل له، والغيثَ الذي لا تحصى قطراته، والنور الذي لا أمَد لهداياته؛ فمن سأل عن الشفاء فيه وجده، ومن استرشد به أرشده، ومن تدبره وعقلَه، فما نسي حلاوته، ولا هجر تلاوته، (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 16]، وما ذاك إلا لأنه تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على سيد المرسلين؛ (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].

والصلاة والسلام على النعمة المسداة، والقدوة المهداة الذي بعثه الله -تعالى- على فترة من الرسل، وانقطاع من السبل؛ فكان فجراً ظهر في الآفاق بعد الليل الدامس، ليكسو البسيطة بضيائه وسنائه، ويتلو على الكون الحائر هدى ربه -عز وجل-؛ ليتضح للوجود الصراط المستقيم، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9]؛ فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، وزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين، وسلم تسليماً،  أما بعد:

أيها الصائمون الأخيار: حديثنا في هذا اليوم المبارك عن خير الحديث، وكلامنا فيه عن خير الكلام الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23].

إنه الكلام الذي أعيا الفصحاء، وأعجز البلغاء، وأخرس الخطباء، ولم يكن بنظم شاعر، ولا سجع كاهن، ولا بقول إنس ولا جن، له حلاوة وعليه طلاوة، أسفله مغدق وأعلاه مثمر؛ إنه القرآن الكريم، كلام رب العالمين، وحبل الله المتين، والنور المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، والشفاء الناجع، والعصمة لمن تمسك به، والنجاة لمن اتبعه.

أيها المسلمون: إن هذا القرآن حياة الأرواح من موت الكفر والعصيان والقسوة، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52]، وهو نافع لقارئه في الدنيا والآخرة، شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة" (رواه مسلم).

فيه الأجر والثواب، والتجارة التي لا تبور، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر: 29].

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف".

عباد الله: إن حفاظ القرآن العاملين به هم أصفياء الله من خلقه، وخيرته من عباده، ومن أعلى الناس درجات في الجنة يوم القيامة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله أهلين من خلقه"، قالوا: "ومن هم يا رسول الله؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته".

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرأها"].

أحبتي الفضلاء: نحن في شهر رمضان في روضة فواحة بالفضائل والعبادات المتنوعة، وعلى رأس هذه العبادات: قراءة القرآن الكريم؛ فللقرآن ارتباط وثيق بالصيام عموماً وبرمضان خصوصاً؛ فكلاهما يصفي الروح ويجلو القلب والعقل، والقيام بهما معاً له شأن من الحلاوة والراحة، وقد جمع رسول الله بين الصيام والقرآن فقال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان".

وفي رمضان أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].

وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1].

أيها الصائمون: ما أحسن قراءة القرآن للصائم في رمضان، وما ألذ حروفه في اللسان، وألطف وقعها على القلوب. حينما يفرغ البطن ويصفو العقل من كدر المأكولات والشهوات يكون للقرآن طعم آخر؛ فالطعام والشراب والشهوة تكسب القلب قسوة، والنفس غفلة، والجوارح ثقلاً وكسلا، فيأتي الصيام ليقدح الفكر، ويذهب الغفلة، وينقل القارئ الصائم إلى التفهم والتدبر، والمعرفة ورقة القلب، وهذه الحال التي يمكن للقارئ الاستفادة منها.

فالعين ترى في تلك الصفحات المشرقة نوراً يهديها إلى الطريق المستقيم، والأذن تسمع أحلى كلام يصل الأسماع، والقلب يتنعم بتلك المعاني المؤثرة التي تزرع فيه حب هذا الكتاب وحب منزله العظيم، فيعظم رجاؤه لما عند الله من الخير، ويشتد خوفه أن يصل إليه غضبه أو تناله عقوبته، والعقل يتدبر ذلك الكلام البديع الذي لا يدرك من أسراره إلا الشيء اليسير، وكلما زادت قراءته وتأمله انكشفت له حقائق ودقائق لم تكن مرت عليه من قبل.

أيها الأحبة: إن القرآن الكريم لا ينفع قارئه إلا إذا تدبره، والصوم زمان خصب لتحقيق هذه الغاية الحميدة، ومن الخطأ الكبير أن يكون الهم الأكبر للقارئ في رمضان وفي غير رمضان الوصول إلى نهاية السورة أو نهاية المصحف بإسراع القراءة وأكل الحروف والكلمات.

قال بعض السلف: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زلزلت" "والقارعة"، لا أزيد عليهما أتردد فيهما، وأتفكر أحب إلي من أهذ القرآن ليلتي كلها"، والقرآن إنما أُنزل للتدبر الذي يعقبه العمل به، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29].

معشر المسلمين: تدبر القرآن يفتح لصاحبه آفاقاً رحبة من الخير العاجل والآجل؛ فهو يُريه طرق الخير وأهلها، وسبل الشر وأصحابها، فيدعوه إلى الطريق الأولى وصحبة سالكيها، ويحذره من الطريق الأخرى والهالكين فيها.

ويريه حكمة المشرع المعبود -سبحانه- في نهيه وأمره، وعظمتَه في خلقه، وفضلَه في إكرامه، وعدله في عقابه، وقوته في مؤاخذته، ورحمته بعباده، وسعةَ علمه في مخلوقاته، وجبروته في قهر أعدائه، ونصرته لأنبيائه وأوليائه، وعزته ومنعته أن يناله أذى المؤذين، وقدرتَه أن يفوته أحد المخلوقين، وسمعه الواسع في إدراك نطق الناطقين، وبصره النافذ العظيم أن تخفى عليه حركة أو سكون من خلقه أجمعين.

أيها الصائمون: ما ملَّ القرآنَ من تدبر ألفاظه ومعانيه، وما نسي لذة القرآن من تدبر أحكامه وحكمه، وما هجر القرآن من ذاق طعمه وخالطت بشاشته قلبه.

إن القرآن -متدبَراً- ما تلاه لسان إلا طاب وحلا، ولا وصل أثره قلباً إلا صلح وصفا، ولا حل صدراً إلا انبسط وانشرح، ولا تأمل فيه عقل راجح إلا اتسع وانفسح.

وهل هملت الدموع الصادقة عند تلاوته أو سماعه إلا بتدبره، وخشعت القلوب بعد أن كانت قاسية كالحجارة إلا بتعقله، وهل عرفت علوم الشريعة إلا بالنظر فيه، والتفكر فيما يحويه، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].

ألا إن الصديقين والشهداء والصالحين أوصلهم تدبر القرآن إلى ما هم فيه من المراتب العالية والمناقب السامية، وإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.

لقد كان لأهل الإيمان مع تدبر القرآن حديث مؤثر، خشعت له قلوبهم، ودمعت منه عيونهم، وسارعت به إلى الأعمال الصالحة جوارحهم.

عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ علي القرآن"، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيرى"؛ فقرأت النساء حتى إذا بلغت: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41]، رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل".

فما الذي أبكاه -عليه الصلاة والسلام- إلا التدبر والتفكر فيما سمع.

وكان خليفته أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- رجلاً أسيفاً أي: "حزيناً لا يفتتح الصلاة قارئاً إلا هملت عيناه".

"وعمر الفاروق -رضي الله عنه- في ليلة من ليالي عدله وإحساسه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه يخرج ليتفقد رعيته، إذ مر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ الطور حتى بلغ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) [الطور: 7، 8]؛ فقال عمر: "قسم ورب الكعبة، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث ملياً ثم رجع إلى بيته فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه، وما مرضه إلا تأثره بما سمع".

وهذا الصحابي الكريم أبو طلحة -رضي الله عنه- يقرأ سورة التوبة، فلما بلغ قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة: 41]؛ قال: "أرى ربنا يستنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بَني. فركب البحر غازياً في سبيل الله فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام فنزلوا فدفنوه، ولم يكن قد تغير جسده خلال تلك الأيام التسعة فوق السفينة "رضي الله عنه ورحمه-".

وجبير بن مطعم صحابي آخر -رضي الله عنه-، "سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور حتى بلغ قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [الطور: 35]، قال: "فكاد قلبي يطير؛ فكان ذلك من أسباب إسلامه، نعم لقد تأثر حتى طار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

"والفضيل بن عياض -رحمه الله- كان قبل توبته من لصوص الليل فبينا هو في ليلة من تلك الليالي المظلمة أشرقت في قلبه آية فبددت تلك الظلمات، إذ رقي تلك الليلة بيتاً فسمع قارئاً يقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]؛ فقال: بلى، والله قد آن، فنزل وتاب وصار يضرب بعبادته وصلاحه المثل بعد ذلك، -رحمه الله-".

أمة الإسلام: هذا كتاب ربنا الذي أنزله إلينا لنقرأه ونتدبره ونعمل بما فيه، فلو تدبرت الأمة هذا الكتاب ورجعت إليه لعزت وسادت، وتخلصت من مشكلاتها وأزماتها، ولكن ما حال أمتنا مع القرآن؟!

أين القراءة، وأين التدبر، وأين التحاكم، وأين العمل بهذا الدستور العظيم.

هناك هجر كبير وإعراض كثير؛ فهلا من رجعة وأوبة إلى هذا الكتاب تلاوة وتأملاً وتحكيماً واسترشاداً.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المرسل بالقرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما،  أما بعد:

أيها الصائمون: إن قراءة القرآن الكريم عبادة عظيمة، لها آداب حسنة يستحب للقارئ أن يتمسك بها لكي يكمل أجره ويتم انتفاعه، ومن تلك الآداب:

إخلاص النية في القراءة والتمهلُ فيها؛ طلباً لرضوان الله لا طلباً لحظوظ الدنيا، عن جابر بن عبد الله قال: "دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد فإذا فيه قوم يقرؤون القرآن قال: "اقرؤوا القرآن، وابتغوا به الله -عز و جل-، من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القِدْح يتعجلونه ولا يتأجلونه"، والمعنى: اقرأوا القرآن لله تعالى قبل أن يأتي قوم يسرعون في تلاوته كإسراع السهم إذا خرج من القوس، يطلبون بقراءته عرض الدنيا وأعراضها ولا يريدون به جزاء الآخرة.

ومن الآداب: الخشوع عند قراءته، وذلك أثر التدبر، وقد يؤدي ذلك إلى البكاء، وهذه صفة أهل العلم العاملين به، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 107 - 109].

ومن الآداب: الطهارة من الحدثين، واستعمال السواك، واستقبال القبلة، وتحسين الصوت ما أمكن من غير تكلف.

ومن الآداب لحفاظ القرآن وقارئيه: أن تظهر آثار القرآن على أخلاق القارئ وسلوكه وأعماله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعهما مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر".

قال ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون". وقال الفضيل بن عياض: "حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيما لحق القرآن" (رواه البخاري ومسلم).

فالقرآن القرآن -يا عباد الله- حافظوا على تلاوته وتدبره، وتحكيمه والعمل به، وأكثروا من قراءته هذه الأيام؛ فإنها أيام فاضلة وموسم خير فسيح؛ فأروا الله من أنفسكم مع كتابه خيرا؛ فالسعيد من كان القرآن حجة له لا عليه.

رزقني الله وإياكم الإقبال على كتابه، والعمل بما فيه، وجعلَه حجة لنا لا علينا.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي