رمضان والجهاد

عبدالله بن عبده نعمان العواضي
عناصر الخطبة
  1. أحداث غزوة بدر أسبابها ونتائجها .
  2. من الأحداث التاريخية في شهر رمضان المبارك .
  3. منزلة الجهاد في الإسلام وفضله .
  4. جهاد النفس أسمى أنواع الجهاد. .

اقتباس

إن شهر رمضان شهر الجد والعمل، وليس شهر العجز والكسل؛ فهو في تاريخنا العريق شهر الفتوحات والملاحم؛ فبعد غزوة بدر التي كانت في رمضان جاءت فتوحات أخرى للمسلمين في رمضان -أيضا-، وفي رمضان من العام الثامن للهجرة فتحت مكة المكرمة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أعز من أطاعه واتقاه، وأذل من خالفه وعصاه، مكّن لمن نصر دينه ووالاه، وقهر من حارب شرعه وعاداه، وأشهد أن لا إله إلا الله، لا معبود لنا غيره، ولا رب لنا سواه، وأشهد أن محمد بن عبد الله نبيه ومجتباه وخليله ومصطفاه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده حتى توفاه الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسلك منهجه واتبع هداه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71]،  أما بعد:

أيها الصائمون: في مثل هذا اليوم المبارك يوم الجمعة السابع عشر من رمضان قبل عام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين للهجرة النبوية حدث حدثٌ عظيم هز جزيرة العرب، وغير مجرى التاريخ، وقلب موازين القوى، ولفت انتباه الناس إلى أن الأمور لا تبقى دائماً على ما هي عليه من الظاهر، وأن هناك قوى وأموراً تخفيها سُجف الغيب عن نظر البشر القاصر تنتظر الميلاد؛ لتخرج من أرحام الغيوب إلى عالم الشهادة؛ فتحول عجلة الزمان إلى طريق أخرى؛ فيُعز ذليل ويكثر قليل، ويقوى ضعيف ويضعف قوي، وينتصر مظلوم ويقهر ظالم، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].

هذا الحدث الكبير كان نكسة كبيرة لرؤوس الظلم والجبروت والفخر والخيلاء، خسر الباطل فيه بعض زعمائه، وأضاع فيه الغرور عصبة من كبرائه، خرجوا بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط.

في هذا اليوم من ذلك الزمان أركب الشيطان ثلة من أوليائه مراكب الهلكة، وهم يحسبون أنهم خارجون إلى نزهة مع الهوى، ثم يؤوبون قافلين منصورين ظافرين، وذلك حين، (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 48].

أمة الإسلام: في هذا اليوم الأغر في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة عند ماء يسمى بدراً التقى معسكر الإيمان: المهاجرون والأنصار بمعسكر الطغيان: مشركي قريش عبدة الأوثان، فتقابل الحق والباطل، والخير والشر، والنور والظلام، والإسلام والكفر؛ فكان آية من آيات الله تعالى، (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [آل عمران: 13].

أيها المسلمون: إن يوم بدر يوم مشرق في تاريخ الإسلام، أضاء للمسلمين طريق العزة، وفسح الدرب أمام موكب الدعوة الحقة؛ لتنطلق لفتح الأبواب الموصدة تجاه النور الساطع؛ ليملأ الآفاق والسبل، (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 16].

لقد كان يوم بدر يوماً أراده الله تعالى، وإن لم يستعد له جند الإسلام الاستعداد التام، هم أرادوا العير والله أراد النفير، فكان الخير فيما أراده العليم الخبير، (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 5 - 7].

كان ذلك اليوم الميمون موعداً اجتمع فيه جند الحق من السماء والأرض لمقارعة جند الباطل الذي صلب عود كبريائه، واشتد حبل إيذائه للفئة المؤمنة، ووقف حجر عثرة أمام النفوس الظامئة لزمزم الإيمان، فلما بلغ السيل الزبُا، ووصلت الغطرسة المدى، وجاءت بحدها وحديدها تحاد الله ورسوله لتطفأ جذوة الهدى جاء نصر الله على حاجة، (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12]، (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 123 - 126].

أيها الصائمون: في هذه المعركة المقدسة واجهت الفئةُ المؤمنة الفئةَ القرشية الكافرة بجلد وثبات، وعزم لا تخبو جذوته، وعشق للموت لم تعرف له قريش مثيلاً. فانتهت معركة الفرقان بهزيمة ساحقة تجرعها الكفر وساغها، وجاءه الموت من كل مكان على يد ثلة قليلة العدد والعدة، ولكنه الإيمان الذي يصنع العجائب.

خلفت المعركة وراءها سبعين قتيلاً، وسبعين أسيراً من المشركين، كان لصناديدهم وكبار أشقيائهم نصيب وافر ما بين قتيل وأسير، ليعذبهم الله بأيدي المؤمنين وينصرهم عليهم ويشفي صدورهم، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم، لترتفع بعد ذلك راية الإسلام خفاقة في السماء، وتنكس أعلام الشرك والنفاق واليهودية المحرفة، وليموت أهل الباطل كمداً وغيظاً؛ (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) [آل عمران: 127].

أيها المسلمون: إن شهر رمضان شهر الجد والعمل، وليس شهر العجز والكسل؛ فهو في تاريخنا العريق شهر الفتوحات والملاحم؛ فبعد غزوة بدر التي كانت في رمضان جاءت فتوحات أخرى للمسلمين في رمضان -أيضا-.

وفي رمضان من العام الثامن للهجرة فتحت مكة المكرمة، وطُهرت من رجس الوثنية، وكان ذلك منطلق النصر إلى ما بعده من الانتصارات.

وفي رمضان من العام الثاني والتسعين من الهجرة فتح المسلمون بلاد الأندلس التي قامت فيها حضارة إسلامية دانت لها الدنيا آنذاك.

وفي رمضان من العام الثالث والثلاثين بعد المئتين من الهجرة فتح المسلمون مدينة عمورية، أيام حكم الخلافة العباسية.

وفي رمضان من العام السادس والستين بعد الستمائة من الهجرة انتصر المسلمون على الروم في أنطاكية.

وفي رمضان من السنة الثامنة والستين بعد الستمائة من الهجرة نصر الله المسلمين على التتار في معركة عين جالوت الشهيرة التي كانت سداً منيعاً أمام عزم التتار على اكتساح بلاد المسلمين وإذلالهم.

أيها الصائمون: إن عدو الإسلام والمسلمين لا يكبح جماح بطشه واعتدائه إلا قوةٌ تواجهه، وجهاد يوقف مدَّ ظلمه وصده عن الحق، ولا يمكن أن يكون الذل وتقديم التنازلات الدينية والدنيوية سبيلاً إلى احترام المسلمين ومنع الصيالة عليهم، والكف عن تدنيس مقدساتهم وكرامتهم، وهضم حقوقهم بين الناس؛ فلا حل لمواجهة القوة الظالمة إلا القوة العادلة، ولا رد لتيارات الإذلال الهادرة إلا موانع من العزة والكبرياء التي لا تعرف الوهن، أما من استمرئ القهر فلا يبالي.

من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميت إيلام

عباد الله: إن المسلمين الأوائل الذين ذاقوا طعم العزة لم يصلوا إليها إلا بعد كفاح ومهر غال بذلوه من دمائهم وممتلكات دنياهم، فهابهم العدو في عقر داره، ودفع الجزية عن يد وهو صاغر وهم في عقر دارهم، ولو أحبوا الدنيا كما أحبها كثير ممن تلاهم، وكرهوا المنايا في سبل الحق كما كرهها من وراءهم لصارت الأحوال متشابهة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الآكلة على قصعتها"، قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: "أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن"، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: "حب الحياة وكراهية الموت".

أيها المسلمون: إن الله -تعالى- شرع الجهاد في سبيله حفظاً للملة، وذياداً عن النفوس والأعراض والأموال والحقوق المعصومة، وسن فيه قوانين عادلة تمنع من الجور مع العدو المحارب؛ ولذلك لا يوجد في الأرض كلها -والنصوص الشرعية والتاريخية تشهد- حروب أعدل من حروب المسلمين المجاهدين الصادقين للكافرين المحاربين؛ فليس في الجهاد الصادق للكافرين المحاربين للدين والعرض والأرض -في زمانه ووقته المناسبين- إرهاب ولا منكر، بل ذلك عين العدل الذي يحكم به العقل الصحيح والدين الصريح، قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60].

أيها المسلمون: إن عبادة الجهاد في سبيل الله -تعالى- من أعظم العبادات؛ فهي ذروة سنام الإسلام، وعمل من أعظم الأعمال، بل لا عمل في الإسلام يعدل الجهاد في سبيل الله -تعالى-، فقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".

وقيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يعدل الجهاد في سبيل الله -عز وجل-؟ قال: "لا تستطيعونه"، قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: "لا تستطيعونه "، وقال: في الثالثة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى إلى أهله".

وأما أهله المخلصون فيه فهم في أعلى المراتب وأسمى المقامات؛ فقد قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 95-96].

وأما الفائزون بالشهادة في سبيل الله فلهم من الكرامة والجزاء الحسن خير عظيم، فمن ذلك أن لهم حياة خاصة في البرزخ دون بقية الناس، وفرحاً واستبشاراً بما نالهم من النعيم الكبير، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران: 169-170].

إن الشهيد حينما يرى إكرام الله -تعالى- له يحب أن يرجع إلى الدنيا؛ ليقاتل في سبيل الله فيقتل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة".

أيها المسلمون: إن الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة أصيبت بالانحطاط والهزيمة من أعدائها، ومن أسباب ذلك: ترك الجهاد في سبيل الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

ولا يخيف أعداءَ الدين كلمةٌ أشد عليهم من كلمة الجهاد في سبيل الله -تعالى-؛ لأنهم يعلمون ما معناها وما وراءها.

لفظ الجهاد على الكفار صاعقة.

أيها المسلمون: إن الجهاد في سبيل الله -تعالى- ليس محصوراً في ميدان القتال فحسب، بل هو أوسع من ذلك؛ فهناك الجهاد بالمال من أجل نصرة هذا الدين، وهناك الجهاد بالكلمة نشراً للإسلام، ودفاعاً عنه، ورد الشبهات عن حماه، وهناك غير ذلك مما فيه نصر وإعزاز للإسلام والمسلمين.

أسأل الله -تعالى- أن يرفع راية الإسلام على كل الرايات، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها الصائمون: إن حياة المسلم الصادق كلها جهاد ومراغمة ومصابرة لأعداء الحق من الداخليين والخارجيين، وهذا جزء من تكاليف العبودية. والجهاد بالسلاح والكلمة قد لا يتيسر لكل مسلم؛ ولذلك هناك مجالات أخرى للجهاد يشترك فيها جميع المسلمين.

فعدم الاستجابة لدواعي الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء هو الجهاد الأكبر الذي يتولد عنه الجهاد في ميدان القتال وميدان كلمة الحق، فمن لم يجاهد نفسه وهواه -وهما العدو الداخلي- لن يستطيع أن يجاهد الكفرة والمنافقين، وهم العدو الخارجي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب".

أيها الصائمون: نحن في شهر عظيم لمجاهدة النفس، فالقيام بفريضة الصيام، والمسابقة إلى الإكثار من الصلاة والصدقة والقراءة والقيام وسائر الطاعات هو من المجاهدة، لأن لزوم الطاعات فرضها ونفلها ثقيل على النفس يحتاج وقتاً طويلاً للانتصار فيه عليها، قال بعض السلف: "جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت"، لكن حينما تُربى النفس على فعل الطاعات وتجاهد على الاستمرار عليها تصير لها سجية، وأنساً لا تستطيع الراحة إلا معه. قال أحد الصالحين: "جاهدت نفسي في قيام الليل عاما فذقت حلاوته عشرين عاما".

ومن مجاهدة النفس في رمضان: أن يحافظ الصائم على صيامه من ركوب الخطايا القولية والفعلية؛ فيعود نفسه على القول الحسن، والاستماع المباح، ويبعد نظره ويده وخطاه عن كل ما حرمه الله عليه.

وهذه المجاهدة لعلها أشق من الأولى؛ لأن فعل الأوامر قد يوافق رغبة داخلية في الإنسان، وقد تكون تلك الأوامر محدودة القدر والزمن، بخلاف بعض المعاصي التي تركها صعب على النفوس؛ لأن دواعي المعصية وجواذبها كثيرة.

فيا سعد من جاهد نفسه، وانتصر عليها حتى ألزمها طريق الاستقامة، وصار لها قائداً إلى مسالك الهدى والرشاد، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي