هذا أبو بكر رضي الله عنه

بلال بن عبد الصابر قديري
عناصر الخطبة
  1. مناقب الصحابة وأهمية الوقوف عليها .
  2. مناقب الصدّيق وأولويّاته .
  3. كمال صحبته وبيان منزلته عند النبي الكريم .
  4. أهمية محبته .
  5. توقير الصحابة له .
  6. التحذير من عقيدة الرافضة فيه .

اقتباس

وهذه وقفة مع أفضلِ الصحابة وأكرمهم، وأسبقهم إلى الخيرات، عبدِ الله بن عثمان بن عامر القرشي، أبي بكر بن أبي قحافة -رضي الله عنه-، خليفة رسول الله الأوَّل، والمؤمن برسول الله من الرجالِ الأُوَلْ، لازم الصّحبة، واختص بالمرافقة في الغار والهجرة، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)...

الخطبة الأولى:

أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين؛ فمن شذَّ شذَّ في النار.

أيها الناس: لكل أمة أمجاد، وأنباء نجاد، وأبناء شداد، لا تزال تفاخر بهم، فتسترجع سيرهم، وتستعرض مسيرتهم؛ ولذا قال الأول:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

ولكن، ثمَّ رجالٌ لهم على أمة الإسلام أياد بيضاء، لا ينال الأمة خير ولا بركة، إلا ولهم فيه القدح المعلَّى؛ بما بلَّغُوا من دين الله، وجاهدوا في سبيل الله. إنهم صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أفضلُ هذه الأمة، وأبرُّها قلوباً، وأعظمها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإقامة دينه، اشتد بالله عزمهم، وصدقت لله نواياهم، بالقرآن وآياته شادوا نظاما جديداً، وعالما فريداً، في بضع سنين، وهذا -وربّك- هو الإعجاز في الانجاز! أثنى الله عليهم في كتابه، وأخبر أنه راض عنهم، وأعدَّ لهم الحسنى. نفوس صدقت في إيمانها، وأخلصت لله نياتها؛ فحرروا العالم من وثنية العبودية وتيه الضمير وضلال الميسر وضياع المصير.

بالوقوف على أخبارهم تحيا القلوب، وبالاقتداء بآثارهم تكون السعادة، وكم تزداد الحاجة إلى ذلك في زمن شغل فيه الناس وأُشغلوا بتوافه الأخبار عن السابقين أو اللاحقين، ممن لم ينالوا من تلك الفضائل قنطاراً ولا قطميراً!.

ولقد نقل ابن الجوزي أن السلف كانوا يعلمون أبنائهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمونهم السورة من القرآن، ولما سُئل الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عن حب أبي بكر وعمر: هي سنة؟ قال: "لا، بل فريضة".

وهذه وقفة مع أفضلِ الصحابة وأكرمهم، وأسبقهم إلى الخيرات، عبدِ الله بن عثمان بن عامر القرشي، أبي بكر بن أبي قحافة -رضي الله عنه-، خليفة رسول الله الأوَّل، والمؤمن برسول الله من الرجالِ الأُوَلْ، لازم الصّحبة، واختص بالمرافقة في الغار والهجرة، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة:40]. ثاني اثنين في الإسلام، وثاني اثنين تحت العريش يوم بدر؛ فمن سرَّهُ أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر. أجمعت الأمة على تسميته بالصديق، دُعي إلى الإسلام فما كبا ولا نبا، فهو المعنيُّ بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما انفرد البخاري بروايته: "إني قلت: أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل انتم تاركو لي صاحبي؟".

هو السابق إلى التصديق، كان أول من آمن من الرجال، وقال جمعٌ: أول من اسلم مطلقا، وأول الخلفاء الراشدين، وأول العشرة المبشرين بالجنة.

كان في الجاهلية محبوبا مألوفا، خبيرا بأنساب قريش وأيام العرب، لم يشرب خمرا قط، ولم يسجد لصنم، ولم تؤثر عنه كذبة، فكان صديِّقاً صدوقا -رضي الله عنه-.

أفضل الصحابة على الإطلاق إذ نقل على ذلك إجماع أهل السنة جمع من أهل العلم، منهم القرطبي وقال: "ولامبالاة بأقوال أهل التشيع ولا أهل البدع". وفي ذلك قال حسان:

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ *** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية اتقاها وأعدلها *** بعد النبي وأوفاها بما حـملا

والثاني التالي المحمود مشهده *** وأول الناس منهم صدَّق الرسلا

أول من دعا إلى الإسلام بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأسلم على يده خمسة من العشرة: عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم أجمعين-؛ فهنيئا لأبي بكر هؤلاء الخمسة في ميزان أعماله!.

أول من أوذي في الله بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى خرج إلى الحبشة مهاجرا، فلقيه في الطريق سيد القارة ابن الدَغِنَّة، وأدخله في جواره، ورد عليه جواره بَعْدُ، وأبى إلا أن يشرك المسلمين في الأذى والعذاب في سبيل الله.

كملت صحبته كمالاً لم يشركه فيه أحد، فكان أنيسَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، وصاحبه في غار ثور، ومن الذين كتب الله لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم، فانفرد بمرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت العريش يوم بدر، فهو ممن نادى عليهم منادي الله: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!.

أول من بايع تحت الشجرة، ولن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، تاسع تسعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأوَّلُهُم يوم حنينٍ، لمَّا فر من حوله الناس.

صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحضر والسفر، لا يمر يوم إلا ويأتيه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته طرفي النهار بكرة وعشيا، أحبُّ الرجال إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو القائل عنه: "نعم الرجال أبو بكر!" رواه الترمذي، أفلا نحب من أحبه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟.

ماله مالٌ مبارك، يتَّجِرُ ويأكل من كسبه، وإنفاقه أفضل من إنفاق غيره، أنفق في سبيل الله ماله كله يوم الهجرة، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فُجع أهلك بفراقك، ففجعتهم بمالك! ماذا تركت لهم؟" قال: "حب الله ورسوله".

أعتق سبعة كلهم يُعَذّب في الله، وقد أثنى عليه القرآن في ذلك: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى)[الليل:17-21].

ويزداد الأمر وضوحا ووضاءً حين يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مال أحد عندنا يدٌ إلا وكافأناه بها، ما خلا أبا بكرٍ، فان له يدا يكافيه الله بها يوم القيامة".

لا يسأل الناس شيئا، حتى إن وقع سوطه لم يقل لأحد: ناولنيه! ويقول في ذلك: "إن خليلي -صلى الله عليه وسلم- أمرني ألا اسأل احد شيئا".

عَظُم اليقين والإيمان في قلبه، فلو وزن إيمان الأمة وليس فيها نبينا -صلى الله عليه وسلم- وإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر.

أعلم الصحابة وأذكاهم وأفقههم، كان يفتي بحضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويقرُّه، قال أبو سعيد الخدري : "كان أبو بكر أعلمنا" لم تختلف الأمة في عصره في مسألة من الدين إلا فصّلها، بيَّن لهم موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وثبتهم على الإيمان بعد موته، وبيَّن لهم موضع دفنه، والحكم في ميراثه.

ارتضاه واستخلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصلاة التي هي عماد الدين، واستعمله على أول حَجَّةٍ خرجت من المدينة في العام التاسع من الهجرة، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وعلم المناسك أدق ما في العبادات، وليس في مسائل العبادات أشكل منها، ولولا سعة علمه لم يستعمله".

في حياته كلها لله لم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا، وما جمعه من مال أنفقه في سبيل الله، تقول ابنته عائشة: "لما مات ما ترك لنا دينارا ولا درهما".

أمين في الأمة، ومن أمانته أنه كان من كُتاب الوحي المنزل لخير خلق الله -صلى الله عليه وسلم-، أشجع الناس بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يتقدم في المخاوف، ولم يجبن عن قتال عدوه قط، يقي النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه عند الهجرة، ولم يتركه في بدر ولا احد ولا حنين، يقول عن نفسه: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار؛ فان النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلم لما رأى حزني قال: "لا عليك يا أبا بكر! فان الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام".

عند موته -صلى الله عليه وسلم- دهشت  العقول، وحارت الألباب، فصدع بكلمات مؤثرات ثبتت الناس: "من كان يعبد محمداً فان محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فان الله حيٌّ لا يموت"، قال أنس: "كنا كالثعالب، فما زال أبو بكر يروِّضنا حتى صرنا كالأسود".

حفظ الله به الدين لما ارتدت العرب ورمتهم عن قوس واحدة، فأنفذ جيش أسامة، وقال: "لو أني رأيت الكلاب تتخطف أمهات المؤمنين بطرقات المدينة لأنفذت جيش أسامة، ما كان لي أن أحل لواء عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"؛ فأعزّ الله به الدين يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.

كان أول من يتكلم من الصحابة عند المشورة، ويعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- برأيه في الأمور العظيمة، فإذا خالف أحدٌ رأي أبي بكر، عمل النبي برأي أبي بكر دون رأي مخالفه، كما في أسارى بدر، وصلح الحديبية، وكان عمر يراجعه في المسائل في عهد النبوة؛ لكمال عقله، ورجاحة فهمه، وسعة فقهه، وقدم سبقه في الإسلام.

من لي بمثل سيرك المدلل *** تمشي رويدا وتجيء في الأول

بيته بيت إيمان لا يعرف بينهم منافق، وليس هذا لأحد سوى أبي بكر، أسلم أبوه وأمه وأولاده وأولاد أولاده، وأدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن هذا البيت خرجت الصدّيقة بنت الصديق حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائشة -رضي الله عنها-، أحب نسائه إليه، توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- في حِجْرِها وحُجْرَتِها، فقيهة الصحابة، وأم المؤمنين.

رجل أسيف، إذا قرأ القران لم يملك دمع عينه، سبَّاقٌ إلى الخيرات، في يوم واحد أصبح صائما، وتبع جنازة، وعاد مريضا، وأطعم مسكينا، وما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة! ويوم القيامة يدعى من أبواب الجنة كلها، ونزل فيه: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)[الحديد:10].

شبَّهَهُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإبراهيم وعيسى في لينهما في جنب الله. أولُّ من يدخل الجنة من هذه الأمة بعد نبيها، وأبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين.

ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه، فلقد أحب الصحابة أبا بكر وأجلوه، فلا يعدلون به أحدا، فعمر يقول: "والله لَليلة من أبي بكر ويوم، خير من عمر وآل عمر!" ويقول -أيضاً-: "أبو بكر سيدنا وخيرنا". ويقول عمر وعلي: "ما سابقنا أبا بكر إلى خير قط إلا سبقنا إليه". فيا لله! ما أروعها من سيرة، وأعظمها من مسيرة، كانت لأبي بكر!.

(مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)[الأحزاب:23-24].

الحديث يطول في سيرةٍ لا ينقضي منها العجب، ولكن؛ هل تعي الأمة في أوقات المحن مجيد تاريخها، وسيرة عظماء رجالاتها؟ وهل يعي الناس أن روح التاريخ يكمن في سيرة الرجال الأفذاذ؟ ولكن؛ ما الحيلة إذا كان الرجال لا يقدّرون الرجال؟.

الخطبة الثانية:

أما بعد: فيا أيها المسلمون، هذه نتف عطرة من سيرة أبي بكر ومسيرته، فحيّهلا بالصدّيق الأوَّل خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! وما هو إلا أن تشرفنا بخدمة مناقبه العزيزة، والذبِّ عن معارفه الغزيرة، بذكر هذه الكلمات اليسيرة، لم نقصد بها التعريف بمجهولٍ من فضائله، ولا الرفع لمخفوضٍ من مناقبه، فهو من ذلك أرفع مكاناً، وأجلُّ شأناً.

الشمس في ساطع نورها *** غنية عن وصف الواصف

وان المقام يستدعي -يا رعاكم الله- التحذير من مسلك الضالين، المخالفين سبيل المؤمنين، أعني الروافض الهالكين، ممن يتقربون إلى الله -زعموا- بمناصبة أبي بكر وعمر وعثمان ورجالات الإسلام -رضي الله عنهم- العداء، فيتشيَّعون بذلك إلى عليٍ -رضي الله عنه- بزعمهم! وعليٌّ منهم بَراء براءة الذئب من دم يوسف.

وحسبك من ضلالهم أنهم يعتقدون أنْ لا ولاء لآل البيت إلا بالبراء من الصحابة،  وما كان بين عليٍ وبين إخوانه إلا كلّ خيرٍ، فعليٌّ سمَّى بعض بنيه بأبي بكر والآخر بعمر.

ألا وإن من سبَّ الصحابة أو انتقصهم، فقد تحرر من ربقة الإسلام، كيف لا؛ والقَدح فيهم قدحٌ في الشريعة الإلهية؟ إذ هم حملة الآثار، ورواة الإخبار، وكما قال الطحاوي في عقيدته: "فحبُّهم دينٌ وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".

فالله الله في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فمن أحبهم فبحبه أحبهم، ومن أبغضهم فببغضه أبغضهم، (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ)[المائدة:56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي