جاء الإسلام بكل ما يؤدي إلى الترابط والألفة، وتقوية أواصر المحبة بين الناس، ومن ذلك أمره بالتهادي بين الناس؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: "تَهادُوا تَحابُوا"(رواه البخاري في الأدب المفرد)، وهذا فيه دلالة...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
عباد الله: جاء الإسلام بكل ما يؤدي إلى الترابط والألفة، وتقوية أواصر المحبة بين الناس، ومن ذلك أمره بالتهادي بين الناس؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: "تَهادُوا تَحابُوا"(رواه البخاري في الأدب المفرد)، وهذا فيه دلالة واضحة على أن الهدية لها الأثر الكبير في زيادة المحبة والألفة بين الناس؛ فهي تسل سخيمة الصدر، وتذهب العداوة والبغضاء، وتبعث على المحبة، وتعمق المودة، وهي من العادات الجميلة التي إن انتشرت بين قوم كانت أكبر دليل على حسن أخلاقهم، وقوة صفاء نفوسهم، وحبهم للخير وبذلهم له.
وهي عبارة عما يعطيه الإنسان لغيره بقصد إظهار المودة، وحصول الألفة والثواب للأقرباء أو الأصدقاء، أو العلماء، أو من يحسن الظن به، بمعنى أنها تُقدَمَّ ولا يراد بها بدل، وليست هي في مقابل ثمن، أو سلعة، أو نحو ذلك، بل هي ما يقدم بلا عوض بقصد إظهار المودة وحصول الألفة؛ ومن ثمّ كانت الهدية مفتاحًا للقلوب.
وهذا أمر ظاهرٌ لا إشكال فيه؛ لأن له معناه وأثرهَ المشهود في طبائع النفوس وسجيتها؛ فإن النفس والقلب لا شك يتأثران بالهدية؛ امتنانًا من صاحبها، وشكرًا له، ومودةً ومحبَّة له، وإضافةً لذلك؛ فإننا نرى دلائل الشرع تؤيد هذا وتؤكده.
وقد حصل التهادي بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وهو ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- رغب في قبولها والإثابة عليها، وكره ردها لغير مانع شرعي، مهما كانت قليلة أو محتقرة؛ فلقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت"(رواه البخاري).
فالهدية مستحبة شرعاً، ومقبولة طبعاً، وكثيراً ما تكون سبباً في زيادة رابطة التواصل بين الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران، وتكون سبباً في نزع الخلافات وإزالة الفجوات؛ لأنها تقوم بجلاء ما في القلوب من حقد وحسد ووحشة؛ وأيًّا كانت الهدية؛ مادية أو معنوية يظل أثرها كبيراً بين المتهادين، وقد تكون في مناسبات يصعب نسيانها، كالأعياد، والزواجات، والنجاح، والزيارات.
وقد ذكر الله -تعالى- في كتابه العزيز فضل الهدية وأثرها في حياة الناس، ومن ذلك قوله تعالى على لسان بلقيس ملكة سبأ في ردها على كتاب سليمان -عليه السلام- عندما دعاها للإسلام، فقالت: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ)[سبأ:35]، لتختبره بها، وتنظر رده عليها عند وصولها إليه، ولعلمها بأن الهديَّة تقع موقعاً كبيراً عند الملوك، وهذا يبين فطنتها وذكائها وحرصها على مصلحة قومها.
عباد الله: إن الهدية لها آثار طيبة على العلاقات الأسرية والأواصر فيما بين الناس، فهي تأكيد للمحبة والصداقة، وهي عنوان للوفاء، يفرح القلب بها، وينشرح الصدر لرؤيتها، وإن كانت في النفوس بعض المكدّرات انسلّت وخرجت، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَلَا تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ"(رواه البخاري في الأدب المفرد).
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهدي ويقبل الهدية ويثيب عليها، فقد روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنه-ا قالت "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا"(رواه البخاري).
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-مِنْ الْأَقِطِ وَالسَّمْنِ"(رواه البخاري).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَكَلَ مَعَهُمْ"(رواه البخاري).
والهدية -يا عباد الله- تدل على عقل صاحبها وحبه للخير؛ فمن أحسن اختيارها وانتقائها كان ذلك تعبيراً عن حب صادق ومودة قوية، وليست العبرة بثمنها أو بحجمها أو كبرها، وإنما بنوعيتها وحسن اختيارها وما تعبر عنه.
عباد الله: ومن الأولى أن يهدي الإنسان للأقرب فالأقرب، ولمن له حقوق عليه، فالوالدان أحق الناس بالهدية في حياتهما، فهي جزء من حقهما عليه، ومهما قدم لهما فلن يوفي شيئاً من حقهما، وكم رأيت شباباً قدّموا القليل وحازوا على الكثير بسبب دعاء والديهم لهم، والعكس كذلك فقد رأيت شباباً لم يهتموا بتقديم هدية ولو كانت بسيطة يهدونها لهما فحرموا الخير بسبب ذلك.
والهدية بين الزوجين لها الأثر الطيب، فهي تقوي العلاقة الزوجية، وتزيد المحبة والأنس والمودة، وتزيد رباط العشرة بينهما، ويا ليت الأزواج ينتبهون لها، فكم أزالت من المشاكل، وكم أبعدت من عداوة، وكم تسببت في زوال الهموم من بيت الزوجية، وكم قوت المحبة بينهما.
وأحق الناس بالهدية بعد الزوجين هم الأقارب، وكم نرى أثر تلك الهدايا التي تقدم في بعض المناسبات الأسرية والتي تزيد روابط الرحم بينهم.
وكذلك بين الجيران يبدأ بالأقرب كما في حديث عائشة عند البخاري أنها قالت: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي"؟ قَالَ: "إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا"، والهدية تختلف بحسب مقامها وزمانها، وبحسب من يستفيد منها؛ فلا يلزم أن تكون عينية فقد تكون الهدية توجيهاً، أو نصيحة، أو حكماً شرعياً أو لفتة علمية.
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال لقيني كعب بن عجرة فقال: "أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: بَلَى؛ فَأَهْدِهَا لِي فَقَالَ: "سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْنَا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: "قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"؛ فأكرم بها من هدية.
عباد الله: ومن المستقبح في الهدية أن يرجع الإنسان في هديته فعن ابن عباس -رضي الله عنه-ما قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ"(رواه البخاري).
وبعض الناس إذا أهدى لأحد هدية وحصل بينهما مشاحنة أو مشكلة ذكّره بهديته وطلب إرجاعها له، وهذا العمل لا يليق بالمسلم الذي يبتغي وجه الله فيما يقدمه، ومما يجب أيضاً تجنبه في الهدية، المنّة بها فإن هذا من اللؤم وقلة المروءة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 263- 264].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن التقوى سبيل النجاة في الدنيا والآخرة.
عباد الله: ويجوز قبول الهدية من الكافر؛ فعن أبي سلمة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ"، زَادَ: "فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً سَمَّتْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ فَقَالَ "ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ"(رواه الترمذي)..
وكذلك يجوز إهداء المسلم للكافر، فقد روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنه- ما قال: "رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا جَاءَكَ الْوَفْدُ فَقَال: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا بِحُلَلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ".
عباد الله: وأما ما يحرم من الهدايا: فمن ذلك الرشوة وهي باب واسع ومتشعب، وقد انتشرت بصور كثيرة في أيامنا هذه بشكل خطير، وتساهل فيها الآخذ والمعطي، وقد "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ"(رواه أحمد وأبو داود والترمذي).
ومن ذلك ما يأخذه بعض الناس من هدايا تعطى له حين يستخدم جاهه في شفاعة خاصة، وهو ما يسميه العلماء أخذ الأجرة على الشفاعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنَ الرِّبَا"(رواه الطبراني).
وأيضاً: ما يهديه الموظف لرئيسه في العمل، وما يهديه الطالب لأستاذه في المدرسة، وما تهديه الطالبة لمدرستها، فكل هذا من الهدايا المحرمة، وقد انتشر ذلك بصورة تلفت الانتباه وتساهل الناس فيه لاسيما الطلاب والطالبات.
ومما يحرم -أيضاً-: تلك الهدايا التي تهدى بين المسلمين في مناسبات الكفار، كأعيادهم و غيرها من المناسبات التي تخالف الشرع.
أسأل الله -تعالى- أن يبصرنا بالحق، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يوفقنا وإياكم لكل خير وأن يجنبنا كل شر، وأن يردنا إليه رداً جميلا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي