قبل أيام قلائل استقبلنا شهر رمضان بشوق وتلهف، إذا بنا نودعه بحزن وتأسف، نعم، نودعه بالحزن على تلاوته وصيامه، وسخائه وقيامه، وتطهيره للنفس ورفعه للروح على مراقي السعود إلى سعادات الدنيا والآخرة؛ فوا أسفاه على تلك الرياض النضرة، والنسائم...
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعونه تُنال المنى وتُبلغ الغايات، حمداً طيباً مباركاً فيه ملء الأرض وملء السماوات، وملء ما شاء ربُّنا من شيء بعد، له الحمد كما ينبغي لوجهه وعظيم سلطانه، وله الشكر على جزيل كرمه، ووافر امتنانه، له الحمد في أول الأمر وآخره، وباطنه وظاهره، وعلنه وسره، وحلو القدر ومره، له الحمد كما حمد نفسه وفوق ما يحمده خلقه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، الذي لا يزال على العرش مستويا، وفي الوجود حيا باقيا، لا يزول ولا يحول، وخلقه في تحول وزوال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام الأصفياء والمتقين، من عبد ربه حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وداوموا عليها في كل زمان ومكان، كما قال تعالى لسيد المتقين - عليه الصلاة والسلام: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)[الأحزاب: 1].
أيها الصائمون: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الدهر يمضي ولا يعود، وأن أيامه تجري تباعاً بلا سكون، حلوها ومُرُّها، وخيرها وشرها، وهي غنيمة باردة لمن سابقها فسبقها أو أدركها، والحياة مهلة واحدة لا تتكرر، والفرص متحولة لا ترجع، والآجال خطّافة، لا ترِّيث ولا تمهل؛ يركض الزمان بالإنسان لينقله من مكانه الموقوت حتى يستقر في موطنه الخالد: إما الجنة وإما النار، وكلما بلغ الدنيوي مدة من العمر نقص نصيبه من الحياة الدنيا؛ فإنه كلما زاد نقص، وإذا امتد مكثه قرُب نكثه.
لكل شيء إذا ما تم نقصان *** فلا يُغرّ بطيب العيش إنسان
وهذه الدار لا تبقي على أحد *** ولا يدوم على حال لها شان
عباد الله: لقد دنت ساعات الرحيل، وبدت أمارات التوديع من الضيف الكريم.
قبل أيام قلائل استقبلنا شهر رمضان بشوق وتلهف، إذا بنا نودعه بحزن وتأسف، نعم، نودعه بالحزن على تلاوته وصيامه، وسخائه وقيامه، وتطهيره للنفس ورفعه للروح على مراقي السعود إلى سعادات الدنيا والآخرة؛ فوا أسفاه على تلك الرياض النضرة، والنسائم العطرة؛ فالمسرة لا تدوم؛ فكم كانت تلك الأيام والليالي لحظات سعيدة مرت وسرعان ما قربت من الأفول؛ فساعات الحلاوة دقائق.
أيها الصائمون: ها هو رمضان على وشك أن يرفع مائدته المباركة بعد أن مدها لباغي الخير؛ فهلا امرؤ منا وقف عند هذا الفراق وقفة محاسبة وتأمل فيما قدم في الأيام والليالي القريبة الخالية.
هلا سأل الصائم نفسه كيف كان صيامه؟ أكان صوماً يرضي ربه تعالى: نوى به القربة والزلفى، لا الموافقة والمجاراة للناس؟ وهل وصل صيامه عند الخاتمة سالماً من الجروح التي تخدش الصيام كسيئ القول والعمل؟
ما كان نصيبه من التلاوة، والقيام، والصدقة، وبذل الخير للناس؟
هل رق قلبه، ودمعت عيناه، وطابت نفسه، وارتفعت روحه، وصلحت جوارحه؟
هل غير رمضان حياته إلى الأفضل، أو أن رمضان كغيره من شهور العام؟
فمن وجد من المحاسبة في نفسه وعمله خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
أيها الصائمون: ها هو شهر الصيام يلوح بالوداع، ويوشك أن يذهب عنا فماذا تعلمنا من هذا المعلّم النافع؟
لقد علمنا رمضان أن الإنسان ضعيف مهما كان قوياً؛ ففقدُ اللقمة والشربة يُنهكه، وتضييق مجال الشهوة قد يتعبه؛ فهو فقير الحاجات؛ فلماذا تستغني عن ربك يا ابن ادم، وأنت فقير إليه!
وأظهر لنا رمضان جانباً من جوانب رحمة الخالق الرازق بعباده حيث هيأ لهم الطعام والشراب الذي يحفظ بقاءهم، ويجدون فيه لذتهم وراحتهم، مذكراً لنا -ونحن نتقلب في هذه النعمة متناولين ما نشاء مما أباح لنا- أقواماً لا يجدون ما نجد، حتى أصبح الجوع والحاجة شعارهم ودثارهم طوال العام، وعلمنا معلمنا الحبيب رمضان أن السعادة الحقيقية هي سعادة الروح لا سعادة البدن، وأن ظن السعادة بظاهر الحياة ولذائذها الحسية ظن كاذب وبرق خلب: لا غيث فيه؛ ففي رمضان تتجلى السعادة الروحية في صيام صادق، ومناجاة خاشعة، وتلاوة متدبرة، وكف سخية في دروب البر.
وعلمنا رمضان أن النفس لا تصلح إلا بكبح جماحها، ومنعها أهواءها، وحبسها عن طيشها، وعدم مجاراتها في شهواتها.
وأنك مهما تعط نفسك سؤلها *** تمنت وتاقت إلى كل مطلب
ألا ما أنفع تلك الليالي الأخيرة من رمضان ونفس الصالحين مجدة، والقلب خاشع، والطرف دامع، والكف ممدودة إلى السماء، والأقدام منصوبة بين يدي الله -تعالى-، وبركات تلك الليالي تتنزل فتكسو الوجوه ألقا، والصدور انشراحا، والنفس زكاة وطهرة.
وآهٍ من المسلمين حينما لم يتعلموا من رمضان الاتحاد وجمع الكلمة -وهو يجمعهم بالصيام في شهر واحد في العام-؛ لينهضوا من كبوتهم؛ ويصلحوا بذلك دينهم ودنياهم.
أيها الصائمون: إن رمضان سوق كثيرة الخيرات، وبضاعتها معروضة لمن شاء، يردها الناس؛ فيصدرون بين رابح وخاسر، وربحها وافر مضاعف، وخسرانها عظيم لو عرفه أهل الخسارة لتقطعت قلوبهم على خيره حسرات؛ فالرابحون في رمضان هم الصائمون المخلصون، والتالون المتدبرون، والقائمون الخاشعون، والكرماء الباذلون لأهل الحاجة ابتغاء وجه الله -تعالى-، والرابحون في رمضان من جعلوا رمضان مزرعة لخير تتدلى عليهم ثمراته في الدنيا باستقامة تعقب رمضان، وأجر ومثوبة في يوم الحساب، وأما أهل الخسارة فهم المضيعون لحظ أرواحهم فيه، الذين فاتتهم فضائله، وتجاوزتهم نوائله.
الخاسرون فيه هم من أفطروا نهاره، وقضوا ليله في اللهو والعبث، والخاسرون في رمضان من صاموا عما أباح الله -تعالى-، وأفطروا على ما حرم الله عز وجل من هتك الأعراض بالطعن والبطش والتعدي.
الخاسرون في رمضان هم الذين لم تعرفهم المساجد، ولم تألفهم المصاحف، ولم يعرفهم القيام، ولم تدركهم ليلة القدر، ولم تعتق رقابهم من النار، وأهل الخسارة في رمضان هم الذين لم يعرفوا من رمضان إلا كثرة النوم والكسل، والتوسع في المشرب والمأكل، والسياحة في عالم اللهو عبر الفضائيات أو صفحات الشبكة العنكبوتية، ناموا نهارهم وسهروا ليلهم في جلسات عابثة أو مجالس آثمة؛ فماذا لو عرف الخاسرون قدر خسارتهم، ونتيجة تفريطهم، لا شك أنه سيشتد حزن من كان له قلب ويعظم تأسفه، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد المنبر فقال: "آمين آمين آمين" قيل: يا رسول الله، إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين آمين آمين"؟! قال: "إن جبريل أتاني فقال: "من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين، ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين".
أيها المسلمون: في نهاية كل عمل يكون الأجر، فمن وفّى عمله وفي له أجره، ومن قصر حصد نتيجة تقصيره وتفريطه حرمانا وندما:
غداً توفى النفوس ما كسبت *** ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم *** وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
أيها الأحبة: يوشك البساط أن يُطوى، والحبيب أن يفارق فراق وامق.
ومع تلك اللحظات تحن قلوب المتقين إلى ذلك الحبيب، وتتفجر العيون بمدامع الحزن؛ فقد لا يعود إليهم ولا يعودون إليه؛ فالآجال بيد الله -عز وجل-.
هكذا -معشر المسلمين- تُجمع صحيفة رمضان إلى سجل الذاهب الذي لا يرجع، ويأفل بدر هذه الليالي المقمرة والأيام المشرقة، وليس منا إلا الصبر على الوداع المر لضيف كان كالطيف لم تطل إقامته.
نودعه وحزننا يتبعه، ودموعنا تشيعه، والقلب يَبكيه ولا يُرجعه، وإن العين لتدمع، والقلب ليحزن، وإنا على فراقك يا رمضان لمحزونون:
وداعك مثل وداع الربيـ ***ـع وفقدك مثل افتقاد الدِّيَم
عليك السلام فكم من ندى *** لقيناه منك وكم من كرم
وما نملك إلا أن نقول: سلام عليك يا شهر الجود والصيام، وسلام عليك يا شهر التلاوة والقيام، وسلام عليك يا شهر الجد والالتزام، وسلام عليك يا محفل الطاعات ومحرقة الأوزار والآثام.
جبر الله المصاب، وأعاد علينا شهر الخير والثواب، وإنا لله وإنا إلينا راجعون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
أيها المسلمون، لقد شرع الله -تعالى- للمسلم الصائم في ختام شهره شعائر يتقرب بها إلى ربه؛ ليزيد أجره، ويعظم ثوابه.
فمن ذلك: أن الله -عز وجل- شرع للأمة الإسلامية عيداً بعد صوم رمضان هو عيد الفطر، يفرح فيه الصائم بإتمام صيامه، ويتقاسم السرور مع أقاربه وجيرانه وخلانه، قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58].
إن العيد شاطئ السلامة بعد رحلة الجد والعمل في شهر الصيام، فحق للصائم أن يسر بأمان الوصول، وحسن النزول.
ومع أنه يفرح إلا أن فرحه مضبوط بالشرع لا يتجاوز ما حده الله -تعالى- في سمع وبصر ومأكل ومشرب وهيئة، وليت شعري أي فرح وسرور للخاسرين في رمضان؛ لأن العيد في الحقيقة إنما هو للفائزين فقط؛ ولذلك يعرف تفاوت الناس في رمضان باختلاف أحوالهم بعده.
فأهل التفريط لا يقدرون الشرع حق قدره في العيد حيث يجعلون العيد زمناً للهو والعبث والمعصية، ويعدونه فرجاً لهم من قيد الصيام في رمضان؛ فبعد ما كان بعضهم يحافظ على الصلاة في أوقاتها يبدأ بتضييعها من أول ليلة من شوال، وبعد سماع القرآن صار أسير الألحان، وبعد معرفة سبل الخيرات ينهض لسلوك دروب المنكرات، وحاله حال من قال الله فيه: (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)[النحل: 92].
فيا عقلاء الصائمين، ما بهذا أُمر الصائم، وما لهذا شُرع العيد، فلماذا كان رمضان، إذن؟! أهو زمان عبادة موسمية تنتهي هي وآثارها الحسنة في يوم التاسع والعشرين أو يوم الثلاثين؟!
أيها الصائمون: ومن الشعائر التي شرعت للصائم في نهاية صومه: صدقة الفطر؛ طهرة له من اللغو والرفث في رمضان، وطعمة للمساكين يوم العيد، وهي فرض على من ملك قوت يوم العيد وليلته على الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، ومقدارها صاع من القوت المعتاد من بر أو أرز أو تمر أو ذرة أو نحو ذلك، وهذا الصاع يساوي كيلوين ونصف الكيلو تقريباً.
وأفضل وقت لإخراجها قبيل صلاة العيد، ويجوز تقديمها قبل ذلك بيوم أو يومين.
عباد الله: وإن كان رمضان على مشارف الوداع فإنه لم ينته بعد، ولم يخرج عنا جميعه، فما زال في أيامه ولياليه بقية خيّرة يمكن فيها عمل الكثير من البر؛ فإذا ما تمت وبدا هلال شوال عند غروب يوم التاسع والعشرين من رمضان، أو غُم فأكمل رمضان ثلاثين يوماً فقد شُرع للمسلم أن يكبر الله -تعالى- عند إكمال العدة، فإذا فعل ذلك فلعله أن يكون من الشاكرين، قال الله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي