وإن من أعظمِ السرورِ هو تبشيرُ المؤمنِ بما يفرحه، ويدخلُ السرورَ على قلبِه، فأبشروا أيها الإخوة الصائمون! أبشروا بشهرِكم هذا، وأبشروا بفتحِ أبوابِ الخيرِ كلِها في بدايةِ شهرِكم؛ إنها فرصةٌ سانحةٌ في كلِ ليلة، غنيمةٌ تتكررُ في كلِ ثلاثين ليلة؛ فأبشرْ أخا الإسلامِ فلعلك تحظى فيه بليلةٍ جديرةٍ أن تكونَ ليلةَ العمرِ حقًّا...
أما بعد:
بعدَ خمسين ليلةً رمادية، تنكرتْ لهُ الأرض، وضاقتْ بهِ السماء، واجتنبَهُ الناسُ حتى جفاه أحبُ الناسِ إليه، وأصبحَ وحيدًا وهوَ بينَ الناس، وأصبحتِ الحياةُ في نظرِه باهتةً لا لونَ لها؛ فلما أصبحَ حالُه هكذا وضاقتْ عليه الأرضُ بما رحبت؛ بل ضاقتْ عليه نفسُه التي بين جنبيه جاءتْه تباشيرُ الفرج، وما أجملَ روائحَها إذا هبت! وما أجملَ أنفاسَها إذا حيت!
كان جالسًا مع نفسِه، فإذا بصوتِ صارخٍ على جبلٍ يُنادي بأعلى صوتِه: يا كعبُ بن مالك أبشرْ!
لم يكنْ لكعبٍ وحدِه موعدٌ مع الفرح، بل استبشرتْ معه المدينةُ بأسرِها؛ فكانَ ذلك اليومُ يومًا مشهودًا في تاريخِ طيبة، فرحتْ بفرحِ كعبٍ جبالَ طيبة، وغمرتِ البهجةُ بيوتاتِ المدينةِ بدءًا من بيتِ النبوةِ إذْ كانَ أمرُ كعبٍ شاغلًا حتى أمهاتُ المؤمنين يقولُ -رضيَ اللهُ عنه-: "فأنزلَ اللهُ توبتَنا على نبيِه -صلى اللهُ عليه وسلم-، حينَ بقيَ الثلثُ الآخرُ منَ الليل، ورسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- عندَ أمِ سلمة، وكانت أمُ سلمةَ محسنةً في شأني، معنيةً في أمري، فقال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "يا أمُّ سلمة تِيبَ على كعب" قالتْ: أفلا أرسلُ إليه فأبشره؟ قال: "إذًا يحطمكم الناسُ فيمنعونكم النومَ سائرَ الليلة"؛ حتى إذا صلى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صلاةَ الفجرِ آذنَ بتوبةِ الله علينا".
كانتِ الفرحةُ الكبرى لكعبٍ حين تلقاها من فيِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "أبشرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك"!
إنه يومُ فرحٍ خالد، في ذاكرةٍ خالدة، توشحتْ فيه طيبةُ بالبهجةِ والسرور، وكأنها بجبالِها وترابِها وأهلِها تزينتْ في جسدِ كعبِ بن مالك -رضي الله عنه-! إنها روحُ الجسدِ الواحد، والقلبِ الواحد.
أحبتي في الله: إذا كانَ مجتمعُ الصحابةِ هكذا حاله بالفرحِ بالبشائرِ الحقيقية، البشائرِ الربانية؛ فما بالنا نحنُ لا نفرحُ بها، ونسعدُ بها، ونتواصى ببثِها في بيوتِنا ومجتمعاتِنا ومساجدِنا؟!، جاء عند الطبراني "أن منْ أحبِ الأعمالِ إلى اللهِ سرورٌ تدخله على مسلم"، وإن من أعظمِ السرورِ هو تبشيرُ المؤمنِ بما يفرحه، ويدخلُ السرورَ على قلبِه، فأبشروا أيها الإخوة الصائمون! أبشروا بشهرِكم هذا، وأبشروا بفتحِ أبوابِ الخيرِ كلِها في بدايةِ شهرِكم هذا، روى الترمذيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ".
إنها فرصةٌ سانحةٌ في كلِ ليلة، غنيمةٌ تتكررُ في كلِ ثلاثين ليلة؛ فأبشرْ أخا الإسلامِ فلعلك تحظى فيه بليلةٍ جديرةٍ أن تكونَ ليلةَ العمرِ حقًّا.
فلو تدري العوالمُ ما درينا *** لحنّتْ للصلاةِ وللصيـــــام
بني الإسلامِ هذا خيرُ ضيفٍ *** إذ غشيَ الكريمُ ذرا الكرام
يلمُّكم على خيرِ السجايا *** ويجمعُكم على الهممِ العظام
يا أهل القرآن: أبشرُوا بشهرِكم هذا، شهرُ البركةِ والقرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)[البقرة: 185]، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)[الدخان: 3].
هنيئاً لكم بشهرٍ تحيون فيه مجالسَ الإقراءِ والمدارسة، سنةَ نبيِّكم مع جبريلَ عليهما الصلاةُ والسلامُ كما في الصحيحين من حديثِ ابنِ عباس: "كان رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- أجودَ الناسِ بالخير، وكانَ أجودُ ما يكونُ في شهر رمضان"؛ فحقَّ لنا أن نفرح، ونحن نرى بفضلِ اللهِ هذه الحلقات وهذه الدورات القرآنية، تنتشرُ في جوامعِنا ومساجدِنا.
ونحن نرى عودةً إلى القرآنِ ومائدتِه منْ كلِ أطيافِ المجتمعِ نساءً ورجالاً كبارًا وصغارًا، كيفَ لا نبتهجُ ونحن نرى تسابقُ المجتمعِ في إحياءِ مدارسةِ القرآنِ في البيوتِ والمعاهدِ والمساجد، في منظرٍ بهيج، وحلةٍ رمضانية، يكسوها النور، ويعلوها الانشراحُ والسرور.
إلى حصونِ المجتمع! وحصونُه اليومَ هن النساء، نعمَ هن النساءُ أيًّا كانتْ مواقعهن؛ فشأنُهن عظيم، هن الصانعاتُ المنجبات، وهن الباذلاتُ الصادقات، هن الأمهاتُ الصالحات، والأخواتُ المشفقات، والبناتُ الطائعات، تخدمُ إحداهن البيت، وتقومُ على شأنه صابرةً شاكرة، وتزدادُ حبًا لرمضان لعلمِها أنها فائزةٌ مأجورة، في خدمتِها لأهلِها وذويها، فلئنْ كنا معاشرَ الرجالِ نصومُ مرة، فتلكَ الصالحةُ تصومُ مرتين: مرةً بصيامِها، ومرةً بإفطارِها للصائمين، وقد جاء عندَ الترمذيِّ مرفوعًا: "مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا"؛ فيا أيتها المرأةُ المباركةُ أبشري، فإنك تتعاملين مع جوادٍ كريمٍ لا يضيعُ أجرَ العاملين: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)[الكهف: 30].
أحبتَنا أهلَ الأعذارِ في رمضان: إن بشائرَ رمضانَ للأمةِ جمعاءَ لسقيمِها كما لصحيحِها، لمريضِها كما لصحيحِها، أبشرْ أخي المريض، فإنَّ نيةَ المؤمنِ أبلغُ من عملِه والنيةُ تجارةُ العلماء، أبشرْ أخي فشوقُك الكبيرُ الذي في صدرِك للصيامِ والقيامِ يعلمه الله: "إن بالمدينة أقواماً، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم"، قالوا: يا رسولَ الله، وهُمْ بالمدينة؟ قال: "وهمْ بالمدينة، حبسَهم العذر".
أحبتي القائمين على موائدِ التفطيرِ في رمضان: أنتم نجومُ رمضان، اصطفاكم اللهُ لخدمةِ عباده، أنتم من بشائرِ أمتِنا في رمضان، فكيفَ أسوقُ البشرى للبشرى؛ ليهنِكم الأجرُ الوافر، وهاكُمٌ البشرى من رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-؛ فعنْ زيدٍ بن خالد -رضي اللهُ عنه-: أن رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "من جهزَ غازيًا في سبيلِ اللهِ فقدْ غزا، ومنْ خلفَ غازيًا في سبيلِ اللهِ بخيرٍ فقدْ غزا" (متفقٌ عليه).
نقل ابنُ بطالٍ في شرحِه أنَ في هذا الحديثِ من الفقهِ أن كلَ من أعانَ مؤمنًا على عملِ برٍ فللمعينِ عليه أجرُ مثلِ العامل، وإذا أخبرَ الرسولُ أن من جهزَ غازيًا فقدْ غزا؛ فكذلك من فطرَ صائمًا أو قوّاه على صومِه، وكذلكَ منْ أعانَ حاجًا أو معتمرًا بما يتقوى بِه على حجِه أو عمرتِه حتى يأتيَ ذلك على تمامِه، فله مثلُ أجرِه بإذنِ اللهِ -تعالى-.
رَمَضانُ هذي مِنْ فُيوضِكَ رَشْفَةٌ *** بَلَّتْ لأحْشاءِ الشَّجِيِّ غَليلا
جِئْنا لنَنْعَمَ في لِقاكَ.. ونحتَفي *** بكَ فِتْيةً عَرَفُوا الهُدَى وكُهولا
ولَكَ الجَوانِحُ رائحًا أَو غادِيًا *** مَثْويًا تَحِل به رِضًا وقَبُولا
الخطبةُ الثانيةُ:
أما بعد: في هذا الشهرِ -أيضًا- يعظمُ أجرُكم -أيها الأحرارُ المرابطون- على ثغورِ العقيدةِ والدينِ والأمن، دفاعًا عن الدينِ والأعراضِ والحرمات.
هنيئًا لكم فاصبرُوا واحتسبُوا وأخلصُوا النيةَ للهِ -عزَّ وجل-؛ فإنكم مأجورون -بإذنِ الله- فائزون بموعودِ الله.
ولئن كانت جراحُ أمتِنا تثعبُ دمًا، ولئنْ كانتِ القدسُ تشتكي من مؤامراتِ يهود؛ فلعلّ في رمضانَ بإذنِ اللهِ -تعالى- بلسمَ الآلام وسكونَ الآهات؛ فهذه السماءُ أذنَ اللهُ بفتحِ أبوابِها، والجنانُ قدْ شرعَت أبوابُها، والنيرانُ قد أُغْلِقَ أبوابُها، إن لك أخي اليائس في رمضانَ موعدًا مع الرحمة، قدْ آنَ لليأسِ أن يرتحلَ من القلوب فهذا شهرُ الأملِ والفرح، شهرُ بدرٍ الكبرى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[آل عمران: 123]، (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 17].
شهرُ فتحِ مكة: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح: 27].
فاللهَ اللهَ بالدعاءِ أيها الصائمُ القائم! الدعاءَ لنفسِك ولوالديك، ولأهلِك ولذويك، ولأمتِك وبلدِك، ولمن له حقٌ عليك منَ الأحياءِ والأموات، فهذا شهرُ العبادةِ والدعاء.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي