أيها البار بوالديه: في قصص البررة مواعظ ودروس، فاستلهم منهم تلك الدروس، واسألهم وتعلم منهم كيف يُصاحبون والدِيهم، وخاطب نفسك واستثر همتك بهذه القصص. وإن قصص البر المشرِّفة ينبغي أن تُبْرَز وتُشجَّع؛ لتبعث الأمل. وأما صور العقوق فلا بد أن تحارَب ويحذّر أهلها..
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تحصَّل الدرجات، وبكرمه تبدل الخطيئات, فالفضل والمنّ لله وحده، لا شريك له، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله والمهاجرين والأنصار، وكل من سار على دربهم واتبع الآثار.
أما بعد: كثيرة هي أعمال البر في رمضان، لكن ثمة عمل بِرّ هو أبركها، ويرتفع به الموفقون درجات: إنه البر بالوالدين الرمضاني والعيدي. فتزيد في برهما في رمضان وفي الأعياد.
أيها الأحبة: إن البر بالوالدين ليس قُبلة تطبعهما على رأسيهما فحسب، أو تغريدة أو أنشودة تتغنَّى بهما، أو صورة تضعها خلفية لجوالك، بل البر مشوار طويل ممتد بعد القبر.
وإنك إذا تأملت حال كثير ممن وُفِّقُوا لبر والديهم، فستجد أن الغالب في عملهم أنهم يحملون ثلاثة أشياء؛ قلوبًا فطنة، ووجوهًا مبتسمة، وإخلاصًا يُغَذِّي هذا وذاك في كل وقت وحين، فكان النجاح حليفَهم، والتوفيق رفيقَهم.
ولنتأمل قول الله -تعالى-: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان: 15]، والتعبير بهذه اللفظة (وَصَاحِبْهُمَا) عظيم وبليغ؛ ذلك أن المصاحبة تقتضي الملازمة, والصحبة الطويلة يعتريها الملل, والفتور. والمصاحبة تشمل الملاطفة, والمشاورة, والمداراة، ومراعاة أدب المحادثة مع الوالدين بلا سآمة؛ فقد ينسى الأب ويقص قصة في مجلس واحد مرتين. (من كتاب: خواطر للشيخ د. محمد بن إبراهيم الحمد ص 32).
ويشمل كذلك الإكرام بالمال خصوصاً, فكم من الأولاد مَنْ يقول: إن أبي, أو أمي لا يحتاجان إلى شيء، وربما قال ذلك جميع الأولاد, فاعتمد كل واحد منهم على الآخر.
فإليكم الآن عشرة إشارات على شكل سؤالات تعينك على البر الرمضاني والعيدي:
1- هل تصطحب والديك لصلاة التراويح، لأئمة حسني الأصوات؟!
2- هل دعوت عمالاً ونحوهم لمائدة الإفطار ببيت والديك، وأخرجت عنهما صدقات أو ما يسمونه بـ (عشاء والدين)، ثم أخبرتهما لتدخل السرور عليهما؟
3- هل اشتريت هدية مناسبة لوالديك يوم العيد، وهل صرفت فلوسًا أوراقها جديدة من البنك؛ ليهدوها للأطفال يوم العيد؟
4- لعلك عازم على السفر بعد العيد، فهل استأذنتهما؟ أم أنك ستخبرهما مجرد إخبار قبل أن تغادر بيوم. ثم احرص أن يكونا هما آخر مَن تودِّع، لتحظى بدعواتهما. وفي سفرك احرص أن تتصل بها يوميًَّا، ولو للحظات يسيرة.
5- هل تغلق جوالك إذا دخلت عليهما لوحدك خاصة؟! وهل تبقى صامتًا إذا جلست عندهما أم تحدثهما عن الأخبار السعيدة من حولهما؟!
6- إخوانك وأخواتك هما الأعز على والديك، فهل قررت أن تجمعهم باستراحة أيام العيد؟
7- نجحت.. تفوقتَ .. ترقيت.. رزقت رزقًا.. حافظت على الطاعات في شهرك.. استقام أولادك: ألا تنسب هذه النجاحات في حياتك لفضل الله –سبحانه-، ثم لفضل تربيتهما؟ واجعلهما أول من يعلم بكل خبر سعيد بحياتك.
8- إذا مرض أحدهما فهل تضع يدك على مكان الألم، وتقرأ عليهما وترقيهما؟!
9- كم مرة أثنيت على أبيك أمام أمك وضيوفه أو جماعة المسجد المادحين له؟ فإن ذلك يجعلها تفخر بذلك. ومتى آخر مرة أثنيت على أمك أمام أبيك على حسن إدارتها لبيتها، على جودة طبخها في الإفطار أو السحور، فإن ذلك يرفع من معنوياتها، وقد يزيل مشاكل أو حزازات لا تعلمها.
10- ليس العقوق ضربهما أو سبّهما فحسب، بل من العقوق قولك لأحدهما: سآتيك بعد عشر دقائق، ثم لا تأتيه إلا بعد ساعة، ومن العقوق أن تبقى أمكِ بالمطبخ، ولا تقومين من جوالك لتساعديها، ومن العقوق أن تُتعب والديك لإيقاظك للظهر والعصر برمضان خاصة.
أيها البار بوالديه: إذا رأيت مبتلى بعقوقهما، فقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به؛ فذلك حري أن يحميك الله من شر الشماتة. وتأمل من فقدوا أمهاتهم، وانظرهم صباح العيد، حين تعود فتسلم على والديك أو الباقي منهما، وغيرك يعود من عيده ويسلم على والديه في قبريهما!! فأحسن العمل قبل أن لا يمهلك أو يمهلهما الأجل.
وعِظْ نفسك بالحديث التالي الذي حسَّنه ابن حجر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ مِسْلِمٍ يُصْبِحُ وَوَالِدَاهُ عَنْهُ رَاضِيَانِ إِلاَّ كَانَ لَهُ بَابَانِ مِنَ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحِدٌ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصْبِحُ وَوَالِدَاهُ عَلَيْهِ سَاخِطَانِ إِلاَّ كَانَ لَهُ بَابَانِ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحِدٌ. قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ ظَلَمَاهُ؟ قَالَ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ". (رواه أبو يعلى، وانظر المطالب العالية (11/ 323) وفي إتحاف الخيرة المهرة (5/ 173) قال ابن حجر: بسند رواته ثقات. واختاره الضياء في المختارة 11/ 229).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فليست السير الجميلة للبارين خيالاً لا يكون إلا في الأذهان؛ بل وجد في أزماننا بارُّون كثيرون، فهؤلاء إخوة وأخوات بررة قد جعلوا أمهم كالملكة، في اجتماعهم عندها على الإفطار اليومي، ووضعهم حسابًا لها جزلاً؛ تنفق وتهدي وتصرف منه ما تشاء.
وذاك مبارك بنى بيتاً جديدًا، فلم تطب نفسه أن يسكنه حتى يرافقه والداه.
وثالث ينفق من ماله على استراحة تكون مَجمعاً تَسعد به أمه مع بناتها.
ورابع يمكث مرافقاً ملازماً لأبيه المغمى عليه منذ ست سنين في المستشفى، لا يشعر به أبوه، لكن رب أبيه يعلم، وسيجزيه الجزاء الأوفى.
ونموذج خامس لأخوات مؤمنات، ونعم الرجال أزواجهن. فعندما أَلَمَّ بوالدتهن العجز والمرض قررن -وهن متزوجات بل وجدّات- أن يقسمن الأيام بينهن، وهن بهذا البر العظيم فرحات.
ونموذج سادس مؤثر وقع قبل أمس، حدثتني به أمّ صالحة عن بناتها المعلمات، اللاتي اجتمعن، وجمعن حصيلة تعبهن لسنوات، حتى بنين لأمهن بيتًا من دورين، ففرحت أمهن أيما فرح، فأوصت بالدور الأول لأولادها يجتمعون فيه، وبالثاني لأعمال البر.
وبارٌّ سابع يتبرع بكِلْيته لأمه المريضة.. وثامنٌ، ومائة، وآلاف بررة سيرهم عطرة.
أيها البار بوالديه: في قصص البررة مواعظ ودروس، فاستلهم منهم تلك الدروس، واسألهم وتعلم منهم كيف يُصاحبون والدِيهم، وخاطب نفسك واستثر همتك بهذه القصص.
وإن قصص البر المشرِّفة ينبغي أن تُبْرَز وتُشجَّع؛ لتبعث الأمل.
وأما صور العقوق فلا بد أن تحارَب ويحذّر أهلها، ومما يؤسِف أن موظفًا بإحدى المحاكم يقول: وقفتُ على أربع خصومات بالمحكمة بين آباء وأولادهم. فإلى الله المشتكى.
ألا إن رمضان فرصة لمحو معرَّة العقوق والرقي بالبر. وما أرحم الوالدين إذا أقبل عليهما أولادهما بالاعتذار!
ربَّنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا وأن نعمل صالحاً ترضاه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. اللهم ابسط على والدينا من بركاتك ورحمتك وفضلك.
اللهم ألبسهما العافية. اللهم اجعلهما في ضمانك وأمانك اللهم ارزقهما عيشاً قارَّاً, ورزقاً دارَّاً, وعملاً بارَّاً. اللهم اجعلنا ممن يورثون الجنان، ويبشرون برَوح وريحان، ورب غير غضبان.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي