آثار الذنوب والمعاصي

صالح بن محمد آل طالب
عناصر الخطبة
  1. أهمية الأمن .
  2. الأمن منّة من الله .
  3. نقصان النعم سببه نقصان الدين .
  4. ارتباط الأمن بالإيمان .
  5. أثر المعاصي في تسلط الأعداء .
  6. الحث على التوبة ومحاسبة النفس .
  7. عظم جرم من حمل السلاح بين المؤمنين. .

اقتباس

إنّ المعاصيَ والذنوب سببٌ رئيس للخوفِ والقلَق والمصائِب والفِتن، قال الله تعالى محذِّرًا مِن مخالفةِ رسوله صلى الله عليه وسلم: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)..

 

 

 

أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتقوا اللهَ وراقبوه، وأطيعوا أمرَه ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، فمن اتَّقى الله وقاه، ومِن كلِّ ما أهمَّه كَفاه.

وبَعد: معاشرَ المسلمين، إنَّ ممّا جاء في مشكاةِ النبوَّة قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن أصبحَ منكم آمنًا في سِربه معافًى في جَسَده عنده قوتُ يومِه فكأنّما حِيزَت له الدّنيا" رواه الترمذي وابن ماجه. فجعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصولَ حيازة الدنيا ثلاثةَ أشياء: الأمنَ في الأوطان والمعافاة في الأبدان والرزقَ والكفاف، ففَقدُ الأمن فقدٌ لثُلُث الحياة، والثلثُ كثير.

ولما كان الأمنُ ثلُثَ العَيش امتنَّ الله به على الأسلافِ مِن قُريش: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش:3، 4].

أيّها المسلمون، الأمنُ والأمان والطمأنينة والاستقرار مطلبٌ ضروريّ من مطالبِ الإنسان، ففي ظلِّ الأمن يرغَد العيشُ وينتشر العِلم ويتفرَّغُ الناس لعبادةِ ربهم ومصالح دنياهم وتنبُت شجرةُ الهناء؛ لذا كانت دعوةُ إبراهيمَ الخليل عليه السلام: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ) [إبراهيم:35-37]. فانظر كيف قدَّم الأمنَ على طلب الرزق؛ لأنه لا يهنَأ عيشٌ بلا أمان.

وقد امتنّ الله تعالى على عباده بالأمنِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه، منها قوله سبحانه: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26]

قال قتادةُ بن دِعامة السّدوسيّ رحمه الله في هذه الآية: "كان هذا الحيُّ من العرب أذلَّ الناس ذُلاًّ وأشقاهُ عيشًا وأجوَعَه بُطونًا وأعراه جُلودًا وأبيَنه ضلالاً، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّي في النار، يُؤكَلون ولا يَأكلون، واللهِ لا نعلم قبيلاً من حاضِر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشرَّ منزلاً منهم، حتى جاءَ الله بالإسلام، فمكَّن به في البلاد، ووسَّع به في الرزق، وجعلهم به مُلوكًا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطَى الله ما رأيتُم، فاشكروا اللهَ على نعَمه، فإن ربَّكم منعمٌ يحبُّ الشكر، وأهلُ الشّكر في مزيدٍ من الله" انتهى كلامه رحمه الله.

أيّها المسلمون، ولا زالت هذه النِّعمةُ متواليةً من الله، وما انتُقِصت إلاّ حين انتقَصَ الناسُ من دينهم، فبدَّلوا وغيَّروا، وما ضاقت الأرزاقُ ووقعَت القلاقلُ والفِتن واستُضعِفَ المسلمون في أرجاء الأرض إلاَّ حين خَبطَ الشركُ والمعاصي في بعضِ نواحي بِلاد المسلمين، ولم تكُن جزيرةُ العرب بمنأًى عن ذلك، ففي عهدٍ قريب كانت مرتعًا للسَّلب والنّهب والقتل والخوف، حتى مَنَّ الله عليها بدعوةِ التوحيد واتّباع سنّةِ سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، فعادت آمنةً مطئِنّةً، تُجبَى إليها الثمرات من كلِّ مكان، وتفجَّرت كنوزُ الأرض، وعَمَّ الخيرُ، حتى صارت مهوَى الأفئدةِ دينًا ودُنيا، وما ذاك والله إلا ببركةِ دعوةِ التوحيد واتِّباع السنةِ وطاعةِ الله ورسوله، فللّه الحمد كثيرًا، كما يُنعِم كثيرًا.

أيّها المؤمنون، إلاَّ أنه ليس بين الله وبينَ أحدٍ نسبٌ، فبِقدر الإيمان والتّقوى تكون النِّعَم والخيرات، نعم الإيمانُ والتقوى بهما تُفتَح بركاتُ الأرض والسماء، بهما يتحقَّق الأمنُ والرخاء، وصدقَ الله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف:96].

الأمنُ مربوطٌ بالإيمان، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82]. أمّا إن بدَّل العِبادُ وغيَّروا فإنَّ سُنَن الله لا تحابي، وقد (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112].

إنّنا ولله الحمد لا زِلنا في خيرٍ من الله بديننا وفضلِ الله علينا، لكن النُّذُر الإلهية مذكِّرةٌ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]. فحِفظُ النِّعم وتفادِي النِّقم لا يكون إلاّ بطاعةِ الله ورسوله، ومَن خالف جَرَت عليه سنَّةُ الله. وإنَّ ما يُصيب المسلمين اليومَ لهي نذُرٌ إلهيّة لئلاَّ ينسى الناسُ ربَّهم، ليعودَ الشارِد ويتنبَّه الغافِل ويستغفرَ المذنب.

إنّ المعاصيَ والذنوب سببٌ رئيس للخوفِ والقلَق والمصائِب والفِتن، قال الله تعالى محذِّرًا مِن مخالفةِ رسوله صلى الله عليه وسلم: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]. ولمَّا أمر الله تعالى بطاعته وطاعةِ رسوله في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال:20]، قال فيما بعد: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "أمَر اللهُ المؤمنين أن لا يقِرُّوا المنكرَ بين أظهرهم، فيعمَّهم العذاب". ثمّ بعدها امتنَّ الله على المؤمنين بتذكيرهم بما كانوا عليه من خوفٍ ثم آمنهم في إشارةٍ إلى أنَّ مخالفةَ أمرِ الله ورسوله مُؤذِنة بالفتن والخوفِ وانعِدام الأمن: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) [الأنفال:26].

أيّها المسلمون، طاعةُ الله ورسولِه سبيلٌ للثّبات والنجاة من الأزَمات، (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) [النساء:66-68].

إنَّ الأمّةَ اليومَ بحاجةٍ ماسّة إلى مراجعةِ نفسِها والعَودةِ إلى ربِّها وتركِ المنكراتِ والتعاوُن على البرّ والتقوى، خصوصًا في هذه الظروفِ الحرجة التي تسلَّط فيها الأعداء على الإسلام والمسلمين وديارهم.

إنَّ المفترَضَ في هذه الأزمات هو الفِرارُ إلى الله والتوبةُ النصوح والتنادِي بالرجوع إلى الله والالتجاء إليه والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر وإسكاتُ دعاةِ الرذيلة وعداة الصلاح. أمّا الغفلةُ والتمادي والنومُ عن المنادي وإقامةُ الحفلاتِ الماجنات والسَّفرات المشبوهات والإصرارُ على مخالفة أوامر الله فإنها مَجلَبةُ النقم مُزيلة النّعم، وتعظُم المصيبةُ إذا كانت الذنوب تُشهَر وتُعرَض ولا تُنكَر، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ أمَّتي مُعافى إلاَّ المجاهرين".

يجب علينا التمسُّكُ بالسّنة ولو تركها الناس، وأن نُغليَها ولو أرخصوها وندافعَ عنها ونصبرَ على الأذى في ذلك، فهذا سبيل النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصّالحين، وهذا هو طريق الأمنِ في الدّنيا والآخرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنّة سيِّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، يُحمَد بنعمته، وتُنال كرامتُه برحمتِه، (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه.

وبعد: أيَا عبدَ الله، حاسِب نفسَك قبلَ أن تحاسَب، ولا تنظُر إلى الهالِك كيفَ هلك، ولكن انظُر إلى الناجي كيف نجا، ولا تمتدَّ بك حبالُ الأمانِي والغرُور، فالعمُر قصير، والأجَل محدود، والناقِد بصير، وموقفُ العَرض على الله عَسير، إلاَّ على من يسَّره الله عليه، (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج:47].

تأمَّل في مَطعَمك ومشربك، وانظر ماذا تَرى وتسمَع وتقول، وماذا تُسِرّ وتعلن, ولئن خَفِيت منك اليومَ خافية فهناك في أرض المحشَر يُكشَف الغطاءُ وتتكلَّم الجوارح، لقد جاءتك مِن ربِّك النذُر، فمن تذكَّر فإنما يتذكَّر لنفسه، وصدق الله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) [يس:70]. والتَّائبُ من الذنب كمن لا ذنبَ له، والله يعفو ويصفَح.

أيّها المسلمون، ووقفةٌ أخيرةٌ قبلَ الختام والتفاتَة يسيرةٌ إلى الأمنِ والأمان، فإذا كان الأمنُ من الله مِنَّة والاستقرارُ رحمةً ونعمة والرزق لهما تابِع وللنّاس فيهما منافِع، فكيف يكون جُرمُ من أخلَّ بهما وحمَلَ السلاح بينَ ظهراني المسلمين، وتربَّص بالشرّ الآمنين. لقد أنكَر النبيّ صلى الله عليه وسلم على من أخفى سُوطَ أخيهِ يريد ممازحتَه حمايةً لصاحب السَّوط أن يقلقَ أو يهتمّ أو يصيبه الغمّ، فأين العابثون بالأمنِ عن هذا الذَّوقِ النبويّ والإرشاد المحمَّديّ وهم قد حَمَلوا السلاحَ وحصدوا الأرواحَ وقد بانت معالمُ الرشادِ واتَّضح الحقُّ والصواب؟!

ألا فدعوةٌ لهم مِن منبرٍ دعَا عندَه إبراهيم الخليل عليه السلام ربَّه بالأمنِ لهذه الديار، دعوةٌ لهم أن يثيبوا لرُشدهم، وأبوابُ السماءِ لهم بالتَّوبة مفتوحة، ومِنَّة العفو في الأرض ممَّن له الأمر مَمَنوحَة، فلم يبقَ إلا عَزْمةٌ من عَزَماتِ الإيمان يقهَرون بها تردُّد نفوسِهم وتأخُّر خطواتهم، يلمُّ بها الشملَ ويغيظ بها الأعادي، عسى أن يحمَدوا العاقبةَ بعدها.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة محمَّد بن عبد الله.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله الطاهرين وصحابته الميامين وأزواجه أمَّهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشّرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين...

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي