لقد ذهب ثلث هذا الشهر، وبقي الثلثان، وما بقي أهم مما ذهب؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فضاعفوا الجهد في أنواع الطاعات من صيام وقيام وصلاة، وتفطير للصائمين، وقراءة للقرآن الكريم، وحفظ للسان والجوارح من اللغو والرفث، وغير ذلك، وأحسنوا الظن. واعملوا على إصلاح القلوب وتطهيرها من الأمراض؛ أمراض الغل والحقد، والحسد والكبر، والنفاق...
الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعدُ؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله --عز وجل--: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
نبشِّر أنفسنا جميعًا بالضيف الكريم الذي حلَّ علينا؛ هذا الضيف الذي نهنئ أنفسنا ونهنئ بعضنا بعضًا؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه برمضان فيقول: "أتاكم رمضان؛ شهر مبارك فرض الله -عز وجل- عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَة الشياطين؛ فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر مَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ" (رواه النسائي وصححه الألباني).
قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان، وكيف لا نستبشر به وفيه تُفتح أبواب الجنان وتُغلق النيران وتُغفر الذنوب".
من المهم الاستعداد لهذا الشهر الكريم؛ وذلك أن يَعقد المسلم العزم قبل رمضان على عدد من الطاعات ومن ذلك: صيام رمضان كاملاً إيمانًا واحتسابًا. أداء الصلوات الفرائض في المسجد. أداء التراويح مع الإمام حتى ينتهي الإمام من التراويح. ختم القرآن الكريم أكثر من مرة. أن تُفَطِّر عددًا من الصائمين بقدر الاستطاعة. عمرة في رمضان. المحافظة على السنن قبل وبعد الفرائض. ترك المعاصي التي كان يعملها قبل رمضان. حفظ اللسان من السيئات كالغيبة والنميمة والسبّ والشتم، وغير ذلك؛ فإن الله -عز وجل- غني عن الصائم الذي يصوم عن الأكل والشرب ولا يصوم لسانه؛ حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، والغيبة والنميمة في الصوم تقدح فيه وتؤثر في الصوم، ويكسب من السيئات والإثم الكثير؛ فعلينا أن نحفظ ألسنتنا في صومنا..
أيها الصائمون الذين صمتم نهار رمضان وقمتم ليله؛ لقد ذهب ثلث هذا الشهر، وبقي الثلثان، وما بقي أهم مما ذهب؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فضاعفوا الجهد في أنواع الطاعات من صيام وقيام وصلاة، وتفطير للصائمين، وقراءة للقرآن الكريم، وحفظ للسان والجوارح من اللغو والرفث، وغير ذلك، وأحسنوا الظن.
واعملوا على إصلاح القلوب وتطهيرها من الأمراض؛ أمراض الغل والحقد، والحسد والكبر، والنفاق والشح والبخل، وغير ذلك؛ فالصوم فرصة لتزكية النفوس، والقلوب والأبدان من المعاصي والآثام.
ولقد قسم العلماء صيام المسلمين إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث مراتب:
1- القسم الأول: قسم من المسلمين يصوم عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، لكنه وقع في آفات اللسان والجوارح, فتجده صائمًا لكنه يغتاب المسلمين، ويعمل النمائم والدسائس بين المسلمين؛ فهذا النوع من المسلمين لم ينتفع كثيرًا من صومه، وليس له من صومه إلا الجوع والعطش، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا النوع من الصيام, فقال -عليه الصلاة والسلام-: "من لم يدع قول الزور والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وفي الحديث: "رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش" (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني).
هذا القسم الأول الذي صام فقط عن الأكل والشرب وغيرها من المفطرات لكن آذى المسلمين بلسانه وجوارحه فخسر كثيرًا.
2- أما القسم الثاني:
فهو الذي صام عن المفطرات ثم حفظ لسانه وجوارحه عن الزلل، فاستطاع أن يتحكم في لسانه وفي سلوكياته فتجده صائمًا لا يغتاب المسلمين ولا يسب ولا يشتم أحدًا من المسلمين قريبًا من أهله أو بعيدًا، وإذا سابه أحدًا أو شاتمه، قال: إني صائم ملتزم بتوجيه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا تعرض الصائم للإساءة "فليقل إني صائم". وفي رواية "إني امرؤ صائم".
فهذا القسم من المسلمين الذين لم يقعوا في المفطرات وحفظوا جوارحهم هم المستفيدون من صيامهم حقًّا، وقد نفعهم الله بالصيام، وإن استمروا على ذلك فسوف يتغير حالهم إلى الأفضل بعد رمضان؛ لأنهم حقَّقوا التقوى في الصيام.
3- القسم الثالث، وهم أفضل الأقسام وهم الذين صاموا عن المفطرات، وحفظوا ألسنتهم وجوارحهم في رمضان، ثم زادوا على ذلك بأن صانوا قلوبهم عن سوء الظن في المسلمين وعن الكيد في المسلمين، ومبتعدون عن أمراض القلوب والكيد في المسلمين، ويحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم؛ فقلوبهم سليمة، وجوارحهم لا تؤذي أحدًا؛ فهم الذين صاموا حقًّا، وهذه درجة الأنبياء والأولياء، نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم.
كما نسأله -سبحانه وتعالى- أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه؛ كما نسأله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه:
أما بعد: فقد سمعتم الأقسام الثلاثة للصائمين، وأن أسوأها الذين صاموا عن المفطرات فقط، لكنهم أطلقوا جوارحهم في المحرمات من نظر محرم في وسائل الإعلام أيًّا كانت أو سماع محرم أو سبّ أو شتم أو غيبة باللسان، أو غير ذلك.
وعلى المسلم أن يرتقي بنفسه إلى الأفضل فيصون جوارحه، ويصون قلبه عن الحسد والحقد وسوء الظن، ويحسن الظن بإخوانه المسلمين فهذا الصوم الحقيقي. نسأل الله أن يوفقنا لما يرضيه.
ألا صلّوا وسلموا على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصبحه؛ قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا ولوالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّ اللهم وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي