فالذي يغض بصرَه يشعر بحلاوة الإيمان ولذة الطاعة والقرب من الرحمن، فالذي يترك المعصية من أجل ربه يَمُنّ عليه بأفضل مما ترك من أجله، وهذا في الدنيا، فما بال المسلم عندما يلقى الله -تعالى- فيعطيه عطاءً ليس بعده عطاء؛ لأنه خشاه ورجاه وتمنى رضاه، وترك المعصية من أجله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرح صدورَنا بالإيمان، ووفَّقَنا لطاعته بالعون والإلهام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صاحبُ الجُود والإنعام، والهادي إلى دار السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير مَنْ تلذَّذ بطاعة الرحمن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله -تعالى- لعباده المؤمنين: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 197]، فأصحاب القلوب المؤمنة التقية المخلصة هم الذين يعرفون معنى التقوى، ويلتزمون بها ظاهرًا وباطنا، فبالتقوى ينال العبدُ السعادةَ في الدنيا والآخرة.
عباد الله: إن الله -تعالى- بعظمته وحكمته خلقنا لعبادته، ومن عرف العبادة حق المعرفة وذاق حلاوتها اجتهد في سبيل الوصول إلى أعلى درجاتها، فالعبادة كما عرَّفها العلماء: "هي كل ما يحبه الله -تعالى- من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة"، فكل طاعة يقوم بها العبد هي سبيله إلى السعادة والراحة في الدارين، فمن أراد أن ينال الرضا والرضوان ومجاورة الكريم المنان فليسعَ للحصول على هذه اللذة التي لا يستطيع أحدٌ الحصولَ عليها إلا بمحبة الله والتعلق به، والتوكل عليه، والتلذذ بطاعته، والعمل بما يرضيه.
عباد الله: إن للأعمال الصالحة ثمراتٍ كثيرةً في الدنيا والآخرة يمن الله -تعالى- بها على من اصطفاه من عباده للتلذذ بنعيم قربه ومناجاته، وطريق الحصول على لذة الطاعة يحتاج لأسباب لو التزم بها العبد حصل له مقصوده، وجمع بين سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97]، فالعمل الصالح ثمرته عظيمة ونفعه جليل، ويكفي المؤمنَ شرفًا أن ينال الحياة الطيبة في الدنيا قبل أن ينتقل إلى الحياة الطيبة في الآخرة؛ وذلك عن طريق العمل الصالح الخالص لله والمتَّبِع فيه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا سعادةَ للمرء إلا بسلوك طريق العبادة التي ارتضاها الله لعباده المؤمنين، وكلما كان العبد أحرص على أداء العبادة على الوجه الذي يرتضيه ربُّه كان السبيل للحصول على اللذة سهلًا وميسرًا.
قال الحافظ ابن رجب: "الإيمان له حلاوة وطعم يذاق بالقلوب كما يذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة لغلبة السقم عليه، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..." لأنه لو كمل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي".
سئل وهيب بن الورد: "هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من همَّ بالمعصية"، وقال ذو النون: "كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب".
واللذة التي تنتج عن العمل الصالح هي هبة من الله -عز وجل-، كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)[الْحُجُرَاتِ: 7]، قال ابن كثير: "أَيْ: حبَّبَه إلى نفوسكم وحسَّنَه في قلوبكم".
ولن يتم الحصول على لذة العبادة والعمل الصالح إلا بمحبة الخالق ومشاهدة بِرِّه وإحسانه وآلائه، ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة، فمن أحب الله -تعالى- أحب كل عمل يحبه، وبذل الغاليَ والنفيسَ في سبيل إرضائه، والمحبة علامة الصادقين، وسبيل المكثِرِينَ، ونور العاشقين، فمن سلَك طريقَها تلذَّذ بالعبادة، وتعلق قلبه بها، واجتهد في الكثير من أنواعها، ولو نظرنا لحال العباد مع هذه المحبة لوجدنا أن البون شاسع فيمن تعلَّق بربه وأحبه فتقرب إليه بكل ما يحبه، وبين من يدعي المحبة وهو مفرِّط في حق ربه وخالقه.
عباد الله: هناك فروق بين لذات الدنيا ولذات الآخرة لا يعلمها كثير من الناس، ومن ذلك:
1- أن ملذات الدنيا يصحبها منغِّصات كثيرة، بخلاف لذة العمل الصالح فهي لذة خالصة، قال ابن القيم: "اللذة المحرَّمة ممزوجة بالقبح حال تناولها، مُثْمِرَة للألم بعد انقضائها".
2- أن لذة العمل الصالح دائمة في الدنيا والآخرة، بخلاف لذة الدنيا فهي زائلة في الدنيا قبل الآخرة، فلذة الإيمان والعمل الصالح دائمة أبدية لا تنقطع، وأما لذات الدنيا فهي -مع ما فيها من منغصات- منقطعة في الدنيا فضلًا عن انقطاعها في الآخرة، (روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) في حديث هرقل أنه قال لأبي سفيان ومن معه: "وسألتك أيرتد أحد -أي: من المسلمين- سخطةً لدينه، بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب".
3- أن لذة الدنيا يعتري الإنسانَ المللُ من سببها، بخلاف لذة العمل الصالح فصاحبها لا يزال يطلب الازدياد من سببها، بل كلما ازداد الإنسان من العمل وُفِّق ما ارتضاه له ربُّه كلما زادت لذته وتعلقه بها؛ لأنها تُقَرِّبُه إلى مولاه وخالقه.
4- أن لذات الدنيا تُفَوِّتُ على الإنسان لذةَ الآخرة، بخلاف لذة الأعمال الصالحة؛ فهي مُقَدِّمَة للذة الأخروية؛ لذلك فإن من عرَف اللهَ -تعالى-، وأحبه، وعلم عطاءه وفضله، وأنه راجع إليه ومجازيه عن كل صغيرة وكبيرة، وأنه واقف بين يديه يسأله عن نِعَمه التي وهبها له لتكون عونًا له على طاعته بادَر إلى ما يُوصِلُه إلى مرضاته وجنته، وَأَحْسَنَ فيما بقي من عمره لينال لذته في العاجل والآجل.
وللأعمال الصالحة صور عديدة لا يمكن حصرها ولكن نذكر بعضها؛ لعله يتسنى لنا الاجتهاد في الإتيان بها لننال اللذة والسعادة في الدنيا قبل الآخرة، ومن صور لذة الأعمال الصالحة التي ينبغي على المسلم الحرص عليها ما يلي:
أولًا: التوحيد والإيمان ومحبة الله ورسوله: (روي في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه-) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار". قال ابن رجب: "إذا رسَخ الإيمانُ في القلب وتحقَّق به ووجد حلاوتَه وطعمَه أحبَّه وأحبَّ ثباتَه ودوامَه والزيادةَ منه، وكره مفارقتَه، وكان كراهتُه لمفارقته أعظمَ عنده من كراهة الإلقاء في النار".
ثانيًا: الصلاة: فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" (رواه أحمد والنسائي).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الصلاة إنما تكفِّر سيئات من أدى حقها وأكمل خشوعها ووقف بين يدي الله -تعالى- بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه وأحسَّ بأثقال قد وُضعت عنه، فوجد نشاطًا وراحة وروحًا حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها، لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم: "يا بلال أرحنا بالصلاة"، ولم يقل: أرحنا منها". انتهى كلامه.
فالصلاة فيها الراحة، وفيها السعادة، وفيها اللذة التي لا تضاهيها لذة، فمن أحب ربه، وقام بين يديه وركع وسجد، وتلذَّذ بمناجاته وقُرْبه نال السعادة، وكيف لا ونبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وقال: "يا بلال، أرحنا بالصلاة"؟
ثالثًا: بِرُّ الوالدين، وصلة الأرحام: فعن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما" (رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 3507)، فمن عَلِمَ أن برَّ الوالدين قربة يحبها الله -تعالى-، وأنها سبيله إلى الجنة بذل وسعه في طاعتهما، وأحبهما، وتلذذ ببرهما والإحسان إليهما، وعمل كل شيء في سبيل إرضائهما، فمن فعل ذلك ابتغاء مرضات الله -تعالى- نال السعادة واللذة في حياته وبعد مماته.
رابعًا: الإنفاق في سبيل الله: فسعادة المسلم بإنفاقه لا تعدلها سعادة ما دامت في طاعة الله -تعالى-، فعندما يسمع كلام الله -جل وعلا- الذي قال فيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)[الْبَقَرَةِ: 267]. فيبادر بالإنفاق في سبيله، ويعلم أنه بالصدقة يدخل السرور على مسلم، ويكفي بها مسلمًا عن السؤال، ويغيى بها فقيرًا عن الطلب، ويسد بها جوعة مسلم، وبها يكسوه، وسعادته الكبرى عندما يقبلها الله منه فيشعر بالسعادة والفرح والسرور وينال لذة النعيم في قلبه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)[الْأَنْعَامِ: 125].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وهَب لذةَ العبادة لمن أحبه من خلقه، وحرمها من شاء ممن أبغضه وأبعده ممن آثر دنياه على آخرته، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد الذي كانت سعادته ولذته بمناجاته وقربه من ربه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبع سنته، واقتدى بأثره إلى يوم الدين.
أما بعد: ومن أسباب الحصول على لذة الإيمان أيضًا:
خامسًا: العلم: فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة"، فمن علم أن العلم سبيله إلى الجنة، وأنه يوصله إلى السعادة الأبدية زاد إيمانه وتلذذ بمدارسته، وكيف لا وبالعلم يَعرف ربَّه، ويعرف نعمه وآلاءه وعطاءه، ويعرف عظمته وقدرته، ويعرف نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأخلاقه وعباداته، فيتقرب بذلك إلى ربه، وكلما زاد من العلم زاد إيمانه وزادت حلاوة تعلُّقه به؛ لأنه يقرِّبه إلى ربه وجنته.
روي أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- بكى عند موته فَسُأل عن ذلك، فقال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَق الذِّكْر".
فانظروا -يا عباد الله- لحال السلف ومحبتهم للعلم؛ لأنهم ذاقوا حلاوة الإيمان به وعرفوا طريق ربهم بمدارسته وتعلمه والعمل به.
سادسًا: قراءة القرآن: قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لَا يَسْأل عبدٌ عن نفسه إلا القرآنَ؛ فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله".
وقال ابن رجب: "لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم".
فالقرآن الكريم كلام رب العالمين، به يخاطب عباده، ويوصيهم ويذكرهم، ويأمرهم وينهاهم، وبه يستفيد المسلم من توجيهاته ومواعظه وآدابه، فيبادر إلى تطبيقه في حياته فينال السعادة والراحة واللذة، وكيف لا وهو يسمع قول ربه -جل وعلا-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزُّمَرِ: 23]، فيقبل على هذا الكتاب العظيم بقلبه وجوارحه لأنه يعلم أنه منزل من رب العالمين ومصرف القلوب والأبصار، فيبادر إلى العمل به والانقياد لأوامره فينال السعادة واللذة، وينال الرضا والرضوان بجوار الكريم المنان.
سابعًا: غض البصر: قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "غض البصر عن المحارم يوجب ثلاثَ فوائد عظيمة الخطر جليلة القَدْر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذّ مما صرف بصره عنه وتركه لله -تعالى-، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله -عز وجل- خيرًا منه...".
فالذي يغض بصره يشعر بحلاوة الإيمان ولذة الطاعة والقرب من الرحمن، فالذي يترك المعصية من أجل ربه يمن عليه بأفضل مما ترك من أجله، وهذا في الدنيا، فما بال المسلم عندما يلقى الله -تعالى- فيعطيه عطاءً ليس بعده عطاء؛ لأنه خشاه ورجاه وتمنى رضاه، وترك المعصية من أجله.
ثامنًا: التوبة من الذنوب والمعاصي: قال الله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، ففي هذه الآية خاطَب الربُّ -جل وعلا- خيارَ خلقِه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم وجهادهم، ثم علَّق الفَلَاح بالتوبة.
ومعلوم أن التوبة هي رجوع العبد إلى الله، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين، وخلعه لكل ذنب وقع فيه بين يدي ربه لينال الرحمة والعفو من خالقه، فثمراتها أن يعود العبد بعد التوبة خيرًا مما كان قبلها، ولا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن مكر الله طرفة عين، ومنها انخلاع قلبه وتقطعه ندمًا وخوفًا فهذه هي حقيقة التوبة، ومن عاشها وذاق حلاوتها كأنه ولد من جديد، لأن الله قَبِلَه وطهَّره منها وغفرها له.
فاحرصوا -عباد الله- على التلذذ بطاعة الله -تعالى-، فالسعادة كل السعادة أن تجد اللذة في قلبك بين يدي الله، وتسعد بمناجاته وقربه، وتفرح بأنسه وذكره. فليجاهد كل منا نفسه في نيل هذه اللذة كي يسعد في الدنيا، وعند لقاء ربه.
أسأل الله -تعالى- بمنه وكرمه وجوده وإحسانه أن يمن علينا بلذة الطاعة، وأن يجعل طاعته أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ، وأن يمن علينا بحلاوة الإيمان في قلوبنا، وأن يعيننا على كل ما يرضيه عنا، وأن يغفر لنا تقصيرنا وزللنا.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي