ما لم يستعجل!

عبد الرحمن بن صالح الدهش
عناصر الخطبة
  1. منزلة عبودية الدعاء .
  2. ملازمة الدعاء سبب لدفع البلاء واستجلاب رحمة الله تعالى .
  3. آداب الدعاء .
  4. حال الصادقين الملحين في دعائهم .
  5. علاقة الدعاء بالصيام وشهر رمضان .
  6. وجوب الحذر من موانع الدعاء .
  7. أسرار فضيلة الدعاء للوالدين .
  8. أهمية الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان. .

اقتباس

إنَّ الدعاء –يا عباد الله– وظيفة العمر، وملازمة الدعاء سبب لدفع البلاء واستجلاب رحمة رب الأرض والسماء، وإن في الدعاء من الذلِّ والانكسار الشيء العظيم. به تسكن النفس وينشرح الصدر، ويعلم العبد أنَّ له ملاذًا يلوذ به، وملجأ يركن إليه فتعظم صلته بربه، فما أقر عين من فتح الله له باب الدعاء! وما أهنأ عيشه! وإنَّ الداعي لربه ينال بذلك معية الله...

الخطبة الأولى:

الحمد لله مجيب الدعوات، يقضي لعباده الحاجات، ويدفع عنهم بفضله الآفات ويفرج الكربات أحمده سبحانه ما دامت الأرض والسموات.

وأشهد ألا إله إلا الله رب البريات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أيَّده ربه بالآيات البينات؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والدرجات وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاعلموا -رحمكم الله- أنَّ لكم في شهركم هذا أنواعًا من العبادات، ونفائس من القربات يجتهد فيها أصحاب الهمم العاليات؛ ما بين صلاة وصيام، وقراءة وصدقات، ولئن نسيتم شيئًا أو شغلت عن أمر فلا تنسوا ولا تنشغلوا عما أمركم الله به قال –تعالى- (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60]؛ إنها عبادة الدعاء، بل إنَّ "الدعاء هو العبادة"؛ كما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- (رواه أهل السنن).

إنَّ الدعاء –يا عباد الله– وظيفة العمر، وملازمة الدعاء سبب لدفع البلاء واستجلاب رحمة رب الأرض والسماء، وإن في الدعاء من الذلِّ والانكسار الشيء العظيم. به تسكن النفس وينشرح الصدر، ويعلم العبد أنَّ له ملاذًا يلوذ به، وملجأ يركن إليه فتعظم صلته بربه، فما أقر عين من فتح الله له باب الدعاء! وما أهنأ عيشه!

وإنَّ الداعي لربه ينال بذلك معية الله؛ قال الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني" (رواه مسلم)؛ فمن ظنَّ بربه إجابة الدعاء وأنه يناجي كريمًا، ويرفع شكايته إلى من لا يعجزه شيء فهو حري بمعية الله.

وإن للدعاء آدابًا ليتفطن لها الداعي منها: أن يخلص نيته في دعائه ويحضر قلبه ليوقن بالإجابة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجب دعاء من قلب غافل لاهٍ"؛ (رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع 542).

ومن آداب الدعاء أن يعزم العبد المسألة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته؛ فإن الله يفعل ما يشاء، لا مكره له" (متفق عليه)؛ وبهذا يُعلَم خطأ ما يجري على ألسنة كثير من الناس تجده إذا دعاء علق ذلك بالمشيئة، والواجب ترك ذلك والعزم في المسألة.

ومن آداب الدعاء أن لا يستعجل الإنسان الإجابة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يستجاب لأحدكم مالم يستعجل" قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: "يقول قد دعوتُ، وقد دعوتُ فلم يستحب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" (رواه مسلم).

وهذه حال الإنسان الظلوم الجهول؛ يستبطئ فضل الله وما علم أن لله حِكَمًا في ذلك وأسرارًا قد لا تظهر للعباد.

ولا يغب عنك أيها الداعي حال الصادقين الملحين في دعائهم، كيف طال دعاؤهم واستمر صبرهم حتى جاءهم الفرح من ربهم. فهذا نبي الله أيوب -عليه السلام- قال الله عنه (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء: 83]؛ فقد ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة في مدة بلاء أيوب، وطول صبره على بلواه، وأقل ما قيل في ذلك ثلاث سنوات؛ قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 84].

وهذا نبي الله يعقوب -عليه السلام- جلس سنين يدعو ربه أن يجمع شمله بابنه يوسف -عليه السلام- حتى قبل إن ما بين الفراق واللقاء أربعون، وقيل: ثمانون سنة، وهكذا حال زكريا -عليه السلام- حين دعا ربه بالولد (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء: 89].

وهذا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- طال دعاؤه، وإلحاحه على ربه معلوم في سيرته بقي شهرًا يدعو الله على بعض قبائل العرب الظالمين.

واعلم يا عبدالله أنك بدعائك لن تعدم خيرًا؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث؛ إما أن يُعَجِّل له دعوته, وإما أن يدَّخِرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" (رواه أحمد والحاكم وصححه).

إن شأن الدعاء عند الله شأن عظيم، وشأنه من الصائم أبلغ من غيره؛ فإن الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186]، ذكر الله –تعالى- هذه الآية في أثناء آيات الصيام تنبيهًا أن للدعاء من الصائم منزلة خاصة، فليتنبه لهذا الصائم.

وهذا ما بيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدة أحاديث تُروى من أن للصائم دعوة مستجابة، وفي بعضها التقييد عند فطره. فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثلاث لا ترد دعوتهم؛ الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم" (وصحَّحه ابن حبان وحسَّنه ابن حجر).

ثم بعد هذا كله احذر موانع الدعاء، ومن أعظمها أكل الحرام؛ فقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء؛ يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغُذِّي بالحرام؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "فأنَّى يُستجاب له".

فاجتهدوا أيها الصائمون في الدعاء في صلاتكم، وبين الأذان والإقامة، وفي آخر ساعة الجمعة، وأمِّنوا على دعاء إمامكم في قنوت الوتر بقلوب حاضرة، ونفوس متطلعة ترجو ما عند الله..

فاللهم وفقنا لحسن الدعاء، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم..

الخطبة الثانية:

الحمد لله أمر بدعائه، ووعد السائل إجابة سؤله، وأثنى على الداعين من خيرة خلقه، فقال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90]، وأشهد ألا إله إلا الله.... وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..

أما بعد: فيا من غلبته نفسه ووقع في شيء مما حرَّم الله عليه، هلا سألت الله بصدق أن يعينك على نفسك، وأن يملأ قلبك تعظيمًا لخالقك، وأن يقسم لك من خشيته ما يحول بينك وبين معصيته، ويا من أقلقه المرض، وأعيته الحيلة، هلا تذكرت أن الشافي الله -عزَّ وجل-: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)[الشعراء: 80] فاسأل الله العافية، وأن ينزل عليك شفاء لا يغادر سقمًا.

ويا من شقَّت عليه تربية أولاده هلاَّ سألت الله أن يصلح لك ذريتك، وأن يجعلها ذرية طيبة تقر بها عينك في الدنيا والآخرة (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)[آل عمران: 38].

أمَّا أنت يا صاحب الدين، ويا من لاحقه الغرماء، وأنت منهم على ميعاد ويدك خالية، تقطعت حبالك، وانشغل بِهَمِّ الدَّيْن بالُك استمع إلى حديث علي -رضي الله عنه- أنَّ مكاتَبًا جاءه فقال: إني عجزت عن مكاتبتي فأعني. فقال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو كان عليك مثل جبل صبير دَيْنًا أدَّاه الله عنك؛ قل: "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك"؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وحسنه الألباني).

أما أنت يا من ركبه الهمّ واستولى عليه الحزن، أما سمعت بما حدَّث به ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حَزَن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله -عز وجل- همه، وأبدله مكان حزنه فرحًا. قالوا: يا رسول الله! ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات. قال: "أجل! ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن" (حديث صحيح؛ رواه أحمد والبزار وغيرهما).

أيها الإخوة: يحرص كثير من الناس في أيام هذا الشهر على ما يسمونه بعشاء الوالدين، وفي وقت الضحايا على أن يضحوا عن والديهم سواء تبرعًا منهم أو وصايا ينفذونها لمن أوصاهم. وهذه كلها أحسن أحوالها أن تكون صدقات عن الوالدين، والصدقة عن الميت نافعة -إن شاء الله- أقرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الأمر الأهم من ذلك وهو الذي نبَّه عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيَّن أنه يبقى للإنسان بعد موته هو الدعاء للميت قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... وذكر منها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أو ولد صالح يدعو له".

ولعل من أسرار فضيلة الدعاء للوالدين أن كثيرًا من محبي الخير ربما غفل عن الدعاء لوالديه. وسل نفسك متى عهدك بدعوة لوالديك بقلب حاضر مستشعر أهمية الدعاء لهما، وحاجتهما إلى دعائك؟؛ في مسند الإمام أحمد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة؛ فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك" (صحَّح إسناده ابن كثير)؛ فاللهم اغفر لوالدينا، وارحمهما كما ربونا صغارًا.

معاشر الصائمين: بين أيديكم مسك الختام العشر الأواخر من رمضان كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوليها مزيد عبادة، وقد بلغ من سُنته أنه كان يعتكف العشر الأخيرة تحريًا لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

ولم يزل يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله؛ فيا سعادة من وفَّقه الله لتلك العبادة إن لم يشغله عنها ما هو أهم منها من رعاية والد أو ولد أو ملاحظة بيته وشؤون أسرته.

فالاعتكاف خلوة عن الخلق وقرب من الخالق. فيا لذة مناجاة المعتكفين، ويا طيب لحظات الاعتكاف. لا يصفها إلا من وفق لها، ومنَّ عليه ربه فصار من أصحابها. وفَّقنا الله لطاعته، ومن عليه بالقرب منه، والإنس بعبادته.

ثم الوصية لنفسي ولكم بحفظ نفائس هذا الشهر فلا تذهب أوقاته بنوم طويل، أو تسوق وحضور مهرجانات تذهب روحانية، وتفرق همة العبد وتشتت قلب. وكذا التنبيه المتكرر فيما لا يزال بعض الناس يصر على بقائه فيما يسمى بالحقاق سابقًا، ويسمونه بالقريقعان وقد اكتنفه كثير من المحاذير والتكلفات التي أذهبت براءته، ولذا صدرت الفتاوى في بدعيته، وأنه لا أصل له في الإسلام.

فاعمروا أوقاتكم بطاعته فما بعد انتصاف الشهر إلا نقصانه وانقضاؤه.

اللهم بارك لنا فيما بقي من رمضان..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي